انتشار البروتستانتية(١).
مع ظهور التنظيمات الإسلامية الأصولية ووصول الإسلام السياسي إلى السلطة في أكثر من بلد، ساد الاعتقاد لدى أغلب المحللين بأن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا في العالم خلال العشريات الأخيرة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك، فقد أثبتت الدراسات أن الديانة البروتستانتية الإنجيلية هي التي ما فتئت تنتشر في شتى القارات، وتعزز موقعها على حساب الكاثوليكية وحتى الإسلام، إذ بلغ عدد معتنقي هذه الديانة 640 مليونا في العالم، منهم 208 في آسيا و93 في الولايات المتحدة و127 في أميركا اللاتينية. بل إن بعضهم لا يتردد في وصف انتشار هذه الديانة عبر العالم بالغزو. ويتساءل: هل هي الذراع الدينية لوكالة الاستخبارات الأميركية؟ أم نتاج العولمة؟ أم فودو مسيحي؟ أم صيغة جديدة للمسيحية في القرن الواحد والعشرين كما يزعم معتنقوها؟
ظهرت الإنجيلية في أوروبا، وخاصة في فرنسا خلال عهد لويس الرابع عشر، في بداية الحركة الإصلاحية التي تخلت عن الحضور القرباني الفعلي، وهو حضور يقع في صميم الكاثوليكية ويشمل الإنسان في كليته، جسدا وروحا وفكرا. ولسدّ ذلك النقص الراديكالي، اقترح الفرنسي جان كالفان (1509-1564) ديانة تلح على المعنى الحرفي لنصوص الكتاب المقدس، كمصدر وحيد للإيمان المسيحي، أو ما أطلق عليه ديانة النص والجبرية. ولكن سرعان ما ظهر فرع من البروتستانتية عُرف بالكلفانية المقاتلة، تمرد أنصاره ضد اضطهاد البروتستانت عقب إلغاء مرسوم نانت عام 1685، وكان أتباع ذلك المذهب يدعون إلى ديانة القلب والاختيار الفردي، فنشأت بين الطرفين معارك انتهت بقهر أنصار ذلك الفرع، الذي ما لبث أن عاد بعض أتباعه إلى الظهور في شكل سلميّ، فيما لجأ آخرون إلى أميركا لممارسة طقوسهم ونشر مذهبهم. ومنذ ذلك التاريخ والحركات المتفرعة عن البروتستانتية تتفرع وتتشعب وتأخذ أوجها متعددة حتى يوم الناس هذا، في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر، حيث وسمت بعض الكنائس والحركات البروتستانتية بالإنجيلية لتمييزها عن البروتستانتية الليبرالية. والمعلوم أن أول صحوة إنجيلية في الولايات المتحدة ظهرت عام 1727، تحت تأثير دعاة من إنكلترا مثل القس جون ويسلي (1701-1791) الذي نشر ديانة القلب والتنوير، عقبتها صحوات أخرى في الأعوام 1792، 1830، 1857، 1882، وأخيرا صحوة عام 1904 التي شهدت مولد الخمسينية (نسبة إلى عيد الخمسين، وهو عيد مسيحي يحتفل به بعد عيد الفصح بخمسين يومًا)، وكذلك “الديانة الأميركية” وضلوعها في الخيارات السياسية، التي تبدت بشكل جليّ في عهد جورج بوش الابن.
بعد مرور خمسة قرون على ظهور كالفان، يغزو الإنجيليون العالم ببروتستانتية بعيدة عن تصوره، فإذا كان رجل الدين الفرنسي يقول إن النص المقدس هو السلطة الوحيدة في مادة الإيمان، فإن الإنجيليين يعتقدون أنه السلطة الوحيدة في كل المواد بما فيها العلوم، ثم يختلفون في تبيان ذلك. فهم لا يقدمون الأجوبة نفسها ولا يملكون المواقف نفسها من جهة أصول الكون والإنسان. بعضهم لا يؤمن بنظرية النشوء والارتقاء، بل يعتقد أن الله خلق الأنواع كما نراها اليوم، (أي الثباتية fixisme)، وأن الحياة على كوكب الأرض تعود إلى بضعة آلاف من السنين فقط، وهي نظرية تخالف معطيات العلم. فيما آخرون يحاولون التوفيق بين الدين والعلم في حدود ما لا يعارض عقيدتهم. ولكن تلك التفرعات تلتقي في نقطة وهي استنادها إلى الأساليب الفرجوية والعاطفية وتمرسها بأسلحة التواصل والتسويق الأكثر طلائعية لكسب المزيد من الأنصار.
وقد عكف الفرنسي باتريس دو بلانكيت في كتاب بعنوان “الإنجيليون يغزون العالم” على دراسة هذه الظاهرة بعد أن وقف على ضخامة دينامية الحركات الإنجيلية في القارات الخمس، ولاحظ تزايد إقبال الفرنسيين، الشبان والفقراء بخاصة، على المجالس الإنجيلية، في وقت تشهد فيه الكنائس الكاثوليكية الفرنسية تناقصا مطردا، حيث يكاد الحضور يقتصر على المسنين والبورجوازيين. مثلما لاحظ حرارة رواد الكنائس الإنجيلية وبرود رواد الكنائس الكاثوليكية، رغم أن الأولى تركز في قداسها على الخطيئة وآلام المسيح والجنة والنار، أي تلك التي تخلى عنها الكاثوليك منذ سبعينات القرن الماضي، لكونها في نظرهم تنفر الإنسان المعاصر. وهو ما دفعه إلى البحث في جذور الظاهرة الإنجيلية ثم القيام بدراسة ميدانية في فرنسا وخارجها، كالبرازيل وكوريا والولايات المتحدة وإسرائيل، ليحيط باختلافاتها وفروقها، ويستنتج صلاتها بالشعبوية السياسية.
لأبو بكر العيادي.
الجديد- موقع حزب الحداثة.