النساء اللامرئيات(١).
برهة سريعة تفصل الشعور بشيء من التحقق وتبصر الذات واستطلاع أفق العالم، وبين إدراك أن التحقق والتمكن ليس إلا مغادرة لحيّز الرغبة، أي أن تكوني موضوع الرغبة. ما الذي حصل في هذه البرهة؟ في هذه الومضة الغدّارة يتبين لك أن الرؤية جليّة نوعاً ما حول الحياة، وأنك، مثلاً، لن تسمحي لأحد بالتحرش بك وتملكين كل الأدوات للدفاع عن نفسك بما اكتسبتِه من خبرات. ولكنك تملكينها فقط للدفاع عن نساء أخريات أصغر سناً، فأنتِ لم تعودي مرئية ليُتحرش بك، أنتِ اللاأحد حين كنتِ رغبة، واللاأحد حين لم تعودي رغبة. غير أنك اكتسبت الكثير في الحياة من خبرات ومعارف، فتسعين لفرضها كسلطة لأنك تدركين شيئاً عن نفسك لا يدركه العالم الخارجي عنك، فتتحولين إلى «هستيرية متسلطة» في نظر العالم. لا سلطة لك خارج سلطتك الإيروتيكية، ولا إيروتيكية ولا متعاً خاصة بك وحدك في الوقت ذاته.
هذا ما تحاول سلسلة ترياق الاختفاء الاشتباك معه من عدة منظورات، اجتماعية وسياسية وجسدية وفلسفية، ومن خلال سير حياة لنساء أفلن قبل أن ينضجن تماماً، مثل سير فوات نسائنا الكثيرة. هو «سن اليأس»، «سن انقطاع الطمث»، «الضهي». أو، في تعبير أبلغ من التراث الإسلامي، السن الذي تصبح فيه النساء «قواعد». قواعد عن الإنجاب والزواج، وربما عن الحياة، ضمن تاريخ صلاحية شديد القصر.
أدناه مقال لليلى العودات، وهو ثالث مواد السلسلة.
قبل سنتين، جلستُ على مقعد حديقة في يوم مشمس وجلست إلى جانبي سيدة مسنّة، فقلت لها بدون تفكير: «ما أجمل هذا اليوم المشمس في منتصف الشتاء القارس». أهملت السيدة جملتي تماماً، ولم تجبني ولم تلتفت نحوي حتى، فأحسست بالحرج وتوقفت عن الكلام. وبعد دقائق، التفتت إليَّ وقالت: «ألست على هاتفك؟»، هززت رأسي نفياً، فقالت: «هل كنت تتحدثين معي؟ لم يحدثني أحد منذ زمن. كنت على يقين أنني غير مرئية». تحدثنا قليلاً، أخبرتني عن حياتها وعملها وأسفارها، وحدثتها عن عملي وأسرتي وبلدي. كانت ساحرة وحديثها ممتع. وبعد أن افترقنا، قلت في قلبي أنني أتمنى أن يكون لي حياة مليئة بالمغامرات والنجاحات كحياتها، لكن مجرد تخيل أنني سأصبح مثلها، غير مرئية، وحيدة، أتفاجأ إن حدّثني أحد، آلمني في الصميم. تذكرت الكثير من النساء الساحرات اللاتي لا تنهيهن شدّة، اللاتي ملأن الكثير من الحيوات بالحب والأفضال، وبقين بعدها وحيدات ومنسيات. وبعد أن صعقتني قلة المصادر حول النساء المسنّات بالعربية، قررت أن أبحث وأكتب، فكان هذا المقال. أحاول فيه البحث في الانتهاكات المتراكبة الواقعة على النساء المسنات، وكيف تنعكس رؤية المجتمع لكيانهن وأدوارهن على إمكانية أن يعشن حياة كريمة وذات معنى.
لماذا أصبح من الضروري الحديث عن حياة النساء المسنات والتفكير بهنّ؟
يزداد عدد المسنين حول العالم باضطراد سريع بينما تتناقص أعداد الأطفال، وتزيد اليوم نسبة الأشخاص فوق 65 سنة (10 بالمئة) عن نسبة الأطفال تحت الخمس سنوات (9 بالمئة). وفي عام 2030 ستكون هذه النسبة أعلى من عدد الأطفال تحت العشر سنوات. وبالرغم من تفاوت التجارب بين المسنين الذين يعيشون في الدول المتقدمة الغنية (حوالي ثلثي الأشخاص فوق 65 سنة) وأولئك الذين يعيشون في الدول الفقيرة، إلا أن تجارب النساء المسنات حول العالم، ومعظمهن أفقر من معدل الثروة العام في البلد الذي يعشن فيه، هي تجارب صعبة يطغى عليها الفقر والوحدة والتهميش وتغييب الحقوق.
تعيش النساء سنواتٍ أكثر من الرجال (معدل العمر حول العالم هو 71 سنة للرجال و75 للنساء)، إلا أن تمتعهن بطول العمر يبقى محدوداً بسبب التمييز والإجحاف الذي يشوب حياتهن منذ الطفولة، والذي يتفاقم بفعل القوالب النمطية المتحيزة ضد المسنين والمسنات، والتهميش المنهجي الذي يواجهونه ويواجهنه، في عالم رأسمالي ذكوري يحصر قيمة البشر بإنتاجية مادية ضيقة وقوة شرائية، ويتجاهل قيمة الأعمال الرعائية والاجتماعية والثقافية. ينتج عن هذا التهميش وحدة واستبعاد اجتماعي، وكذلك احتمالات متزايدة من الإعاقة والمرض والفقر.
لليلى العودات.
الجمهورية- موقع حزب الحداثة.