حداثة و ديمقراطية

الراديكالية المزعومة للمراهقين المسلمين(٢).

وهذا يطرح في رأي روا مشكلين كبيرين

أولا، لا أحد من المستجوَبين انتقل إلى طور الإرهاب، ولو فرضنا أن من بينهم اثنين أو ثلاثة من عدة آلاف، فذلك لا يكفي إحصائيا لإقامة التواصل المزعوم. فكيف يمكن أن نستخلص إذن أن أولئك الشبان يمكن أن يمروا إلى العنف دون أن نملك دليلا مبنيّا على الملاحظة والاختبار؟ وإذا كان المؤلفان يجعلان “تفهُّم أعمال العنف” معيارا للراديكالية، لمجرد أن الشبان يرفضون شعار “أنا شارلي”، فالبابا فرنسيسكو الأول نفسه قال إنه “ليس شارلي”.

ثانيا، المؤلفان لا يفقهان من الدين شيئا، فهما يحددان “الأحادية الدينية المطلقة” (في مقابل الدين المعتدل) بأولوية الحقيقة الدينية على الحقائق الأخرى، والحال أن الدين في جوهره، على الأقل ديانات التوحيد الكبرى، يقول بوجود حقيقة، وأن تلك الحقيقة لا يقبل التفاوض بشأنها. صحيح أن الفقهاء طوّروا لاحقا لائحة بيانات ليشرحوا أن العلم يمكن أن يكون على حق، وأن المرء يمكن أن يكون متسامحا، بيد أن التسامح في الدين يخص الآخر، ولا يخص الدين. فهل يعقل أن نطلب من مراهقين بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة أن يطوّروا منظومة تفكير تجعلهم قادرين على قبول داروين والقرآن؟ ذلك ممكن، ولكن لا يمكن أن يجدوا الإجابة لدى الإمام أو الأولياء (الذين هم في معظمهم أميّون دينيا). فالتأكيد بأن الدين حق هو أول فعل يقوم به المؤمن.

وفي ردّ غالان على منتقديه، وخاصة أوليفيي روا، أوضح أنه هو وفريقه حرصوا حرصا كبيرا على وضع أسئلة محايدة دينيا، أي قابلة لأن تطبّق على شبان من كل المعتقدات، ومتكاملة بشكل لا يسمح بإجابة تناسب ديانة واحدة، وأن مؤشر “الأحادية الدينية المطلقة”، الذي يستند إلى أهم البحوث العالمية في هذا المجال، بني على سؤالين: أحدهما عن مناهضة النسبية الدينية، وثانيهما عن هيمنة الدين على المجتمع العلماني والعلم. وفي رأيه أنه وزميلته لم يسعيا قط إلى إيجاد تواصل بين الأفكار الراديكالية والمرور إلى العنف الإرهابي، بل ركزا على خطاب الشبان عن الإسلام، الدين الوحيد الذي يملك الحقيقة بوصفه خاتم الأديان، وعن علوية القرآن على العلم، لكونه سبق العلم في ذكر الحقائق العلمية، ما يعني إعجازه. ويضيف غالان أن أديان التوحيد جميعا تدعي في البداية أنها لا تقبل التفاوض، بيد أن تقدم المجتمعات المسيحية أظهر تزايد اقتناع شبانها بالنسبية الدينية، بينما لم يعرف الشبان المسلمون هذا التطور.

وفي تعقيب روا على هذا الردّ بيّن أن المشكل يخصّ الفرضيات المسبقة منهجيا وقيميّا، التي شابت التحقيق. 

من حيث المنهج: يصرّ علم الاجتماع اليوم على الانطلاق من “معطيات” يتم تحليلها بموضوعية، غير أن الاستجواب لا يمكن أبدا أن ينتج “معطيات” موضوعية فعلا، بسبب صياغة الأسئلة التي توجه الأجوبة، وكذلك المعنى الذي يختلف تأويله بين السائل والمجيب، وهو ما يعترف به المؤلفان دون أن يعملا على تداركه. أما عن الحياد الديني الذي يدعيه غالان فهو مفقود لأن الشريحة المختارة هي “المسلمون”، وهو ما لم ينكره المؤلفان، حيث ورد في الكتاب قولهما “كان علينا أن نبني شريحة محرفة عمدا على نحو يجعلنا نضمن الحصول على تشكيلة كافية من الشبان تمثل الخصائص التي تجعلنا نفترض أن لها علاقة بالراديكالية”. أي أنهما انطلقا من افتراض أن الراديكالية إسلامية ليستخلصا أن الراديكالية فعلا إسلامية. وكان عليهما إجراء تحقيق مماثل في معهد ديني مسيحي أو يهودي لتبين ما إذا كانت الحالة الإسلامية استثناء وإلى أي حدّ.

من حيث القيم: الحديث عن قبول المسيحيين النسبية الدينية هو مجرد لغو، وحسبنا أن نذكّر بما قاله بنديكت السادس عشر “نحن، المسيحيين، على يقين بأن الديانات الأخرى تنتظر لقاء المسيح، والنور الذي يأتي منه، هو وحده الذي يستطيع أن يقودهم تماما إلى حقيقتهم”. فالأرثودوكس في المسيحية واليهودية لا يقبلون التفاوض بشأن دينهم، ولا يزالون هم أيضا يعتقدون أن ديانتهم هي الحق، وأن خلق الإنسان والكون هو ما نصّت عليه كتبهم السماوية. ثم إن استعمال الآخرين لمصطلح “الأحادية الدينية المطلقة” أو لمصطلحات أخرى تحوم حول الفكرة نفسها ليس عذرا. والمشكل في رأي روا أن علم الاجتماع لا يستطيع أن يفهم الديني لأنه ينطلق من معيار “لائكي” كتحديد للحالة السوية. وهذا حكم قيمي، وليس مقاربة علمية. ويختم أوليفيي روا بقوله “من حق المواطن أن يناضل من أجل احترام العلمانية، ولكن من واجب عالم الاجتماع أن يحترم الحياد القيمي العزيز على ماكس فيبر. على الأقل عند إجراء تحقيق”.

لأبو بكر العيادي.

الجديد- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate