المرأة

الأمومة اليوم(٧).

هذه المرحلة الأولى من الولَه الداخلي يتبعها وله الأم بذات جديدة، طفلها، بعد أن يتوقف عن كونه جزءاً منها وبعد أن تنفصل عنه حتى يتثنى له اكتساب الاستقلالية. حركة الطرد والفصل هذه هي حركة جوهرية وأساسية. وهكذا يمكن القول إنه، ومنذ البداية، يكون وله الأمهات مسكوناً بما هو «سلبي». تختبر الأم من خلال عملية التعلم هذه حول كيفية الارتباط بآخر ـ هو الأمومة بحد ذاتها ـ تختبر أقوى شدّة لدوافعها (من خلال آلية «التماهي الإسقاطي» لميلاني كلاين تنزلق الذات – الأم ولكن أيضًا الطفل – إلى الآخر – الطفل ولكن أيضًا الأم – لإيذائه أو امتلاكه أو السيطرة عليه)آلية التماهي الاسقاطي هي آلية دفاع لاواعية اقترحتها ميلاني كلاين لتفسير سلوكيات الطفل الرضيع في مرحلة مبكرة من نموه، حيث يتماهى الطفل مع ما تسقطه الأم عليه من مشاعر ورغبات وغيرها. مثال: أم حزينة تسقط حزنها على طفلها: «أوه طفلي حزين ولذلك يبكي»، لاحقاً يتماهى الطفل مع حزن أمه ويصبح حزيناً فعلاً. هذه الآلية تضخم الدوافع والمشاعر الأمومية عن طريق إعادة إنتاجها من خلال الطفل. (المترجم)، وكذلك تختبر تثبيطاً للدوافع من حيث هدفها، مما يسمح للعاطفة بالتحول إلى حنان ورعاية وإحسانفي التحليل النفسي يُقسم الدافع إلى عدة عناصر: الضغط، النهاية والمصدر والشيء الذي يتوجه الدافع تجاهه. يمكن فهم المقطع السابق كالتالي: الدوافع العدوانية والتملكّية عند الأم تزداد كثافة وقوة (يزداد الضغط)، لكن الدوافع نفسها تتعرض لتثبيط الهدف (النهاية) فيتم تحويل القوة الدافعة إلى نهاية أخرى، أي تجاه الحنان والرعاية. وهذا ما يعرف عند فرويد بالتسامي. (المترجم).

ربما سأخاطر بصدم البعض منكم إن قلت إنه وبدون تجربة مثالية للوله الأمومي ثنائي الوجه (الانسحاب النرجسي، ثم الارتباط مع الطفل من خلال التماهي الإسقاطي الذي يتم تساميه كحنان)، فإن ذات المرأة تواجه صعوبة في تكوين علاقات مع الجنس الآخر وبشكل أعمّ مع الآخرين، الذين لا تحكمهم عاطفة مستقطِبة خالصة (تعلّق/خصومة) أو لامبالاة خالصةأي العلاقة مع أشخاص لا تبدو الأنا عندهم منقسمة ومستقطبة بين عاطفتين متناقضتين، كما يكون حال الأم في تلك الفترة. (المترجم). أستخدم هنا مصطلح الولَه الأمومي تحديداً بالمعنى البنيويّ للتجربة، وليس فقط بالمعنى البيولوجي: إذ أنه ليس من المستحيل أن تتمكن المرأة من خلال التحليل النفسي أو التحليل الذاتي أو التسامي أن تعيش ولَهها الأمومي دون الحمل والولادة (من خلال التبني، مثلاً أو رحم الأم البديلة وكل تقنيّات الخصوبة الأخرى التي تمّ وسيتم تطويرها، أو على مستوى آخر من خلال تقديم الرعاية أو التدريس والتعليم أو العلاقات طويلة الأمد، أو حتى في العمل المجتمعي والتعاوني).

ومع ذلك، وبالنسبة لمعظم الناس، وفي هذه المرحلة من الحضارة (أي قبل اختراع «الرحم الاصطناعي»!)، فإن الوله الأمومي شيء يخصّ الأمهات عموماً، ويبقى الشكلَ النموذجيّ لعلاقات الحبّ.

كان فرويد مقتنعاً بأن وصيّة «أحبب قريبك كحبّك نفسك» كانت وهماً، مجرد رغبة تقية للإنجيليين. في الواقع، لم يبلغ هذا الحبّ إلا القدّيس فرنسيس وغيره من الصّوفيين النادرين. أما أنا فأعتقد أن وصية «أحبب الجار كنفسك» تعيدنا إلى اللّغز -الأكثر غموضاً من سرّ الحمل- حول ماهية «الأم الجيّدة بما فيه الكفاية»، فهي تلك التي تسمح للرضيع بخلق فضاء انتقالي، مساحة تمكّن الرضيع من التفكير. ذاك أنه ليس من السهل أن تحبّ نفسك: بشكل عام أقصد، فغالباً ما يكون ذلك إما مستحيلاً أو مأساوياً، على الرغم من أن «الأم الجيدة بما فيه الكفاية» تنجح في حب طفلها مثل نفسها، ومن ثم كذات أخرى.

أما على المستوى الثقافي، فقد لاحظتُ أنه في حالات «العبقرية الأنثوية» (أقصد خارج تجربة الأمومة، في مشاريع فكرية متعدّدة مثل تلك التي قامت بها حنا آرنت وميلاني كلاين وكوليت) هناك افتراضُ وجود علاقة ـ بغرض (Object-relation)نظرية العلاقة بالأغراض (أو الأشياء) تشكل فرعاً من فروع نظرية التحليل النفسي، تأخذ من أعمال المحللة النفسية الشهيرة ميلاني كلاين أساساً لها. تنطلق النظرية من حاجة الذات للارتباط بعلاقات مع المحيط، سواء كان ذلك مع ذات أخرى أو مع أشياء. بالمقابل، تنطلق نظرية الدافع من تحليل الدوافع الرئيسية النابعة من الذات. (المترجم) منذ بداية الحياة النفسية. وهذا يختلف تماماً عن افتراض فرويد حول «نرجسية بدون غرض» عند الولادة، ويختلف كذلك عن «العبقرية الذكورية» (من فلاسفة وفنانين) التي تتجّه أكثر نحو التعويذات السولبسية (solipsistic)(Solipsismus): فرضية أو نتيجة فلسفية تقول إن الشيء الوحيد الذي يمكننا الوثوق من وجوده، هو وجود أناي أنا. وفيها إشارة إلى النزعة الذكورية في فهم التطور النفسي عند الإنسان، التي تركز على الأنا والذات مقابل نزعة أنثوية تركز على العلاقة مع ما هو خارج الأنا ـ العلاقة بالغرض (Object-relation). (المترجم) ودراما الذات الداخلية بحد ذاتها. ومع هذا، وللتأكيد، نعيد القول إنه بالنسبة للمرأة، وإلى حد أبعد بالنسبة للأم، فإن وجود آخر في وقت مبكر من حياته النفسية ليس أمراً مثالياً، لأن العلاقةـ بالغرض تلك تتميز بعدم الاستقرار، بل إنه من المحتمل أن يتحوّل عدم الاستقرار إلى تمجيد جنوني أو اكتئاب وعدوانية: هو أو أنا، إسقاط ـ تماهي.

ومع ذلك، فإن لهذه الدراما جانباً إيجابياً، حيث أن هذا الولَه يمكن أن يسمح للأم بإنشاء رابط محتمل مع الآخر، للتعبير عن العواطف التخريبية الكامنة وراء جميع أنواع العلاقات، والتي تجعلها الأمومة، خصوصاً، أكثر حدّة («أحبه وأكرهه»). لهذا السبب، تشبه الأمومة في عنف عواطفها، سواء حبّاً أو كراهيّة، العواطف التي تظهر في تحليل الأشخاص ذوي الحالات الحديّة والانحرافات. أَتشاركُ بهذا الصدد مع مؤلفين مختلفين مثل فرانسوا بيرييه وأندريه غرين في آرائهم، إذ يعتقدان أن الجنسانية الأنثوية تلتجِئ إلى الأمومة لتعيش انحرافها وجنونها، وهو ما يمكن أن يكون أيضاً وسيلة لتمكينهنّ من الاشتغال عليهاالمقصود الاشتغال على جنسانيتهنّ. (المترجم).

ليس من النادر أن يهدّد ولَه الأم – التي تعيش الإغواء، وتصنيم جسد الطفل وملحقاته، والانفجارات العاطفية، وحالات الهوس (الفرح المفرط)- إمكانيّة التفكير ذاتها عند الرضيع. يأخذ الأمر أبعد من ذلك معنىً أكثر فتكاً، مثل حروب التصفية العرقية، حيث نرى أن أكثر تلك الحروب شراسة هي تلك التي تكون فيها الفروق بين المجموعات العرقية المتحاربة طفيفة جداً، تلك الحروب التي تشن ضد الذات عن طريق مهاجمة الشخص الأقرب (الأمهات اللاتي يتم إدانتهنّ بتهمة قتل أطفالهنّ دليل على ذلك).

ليوليا كرستيفا .

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate