حداثة و ديمقراطية

جدلية الحرية والعلم في بناء الوجود الإنساني(٤).

الشرط الأنطولوجي هل هو التحرر أم الحرية؟

إذا كان الإنسان هدفه التحرر، أو أن فعله يريد دائما أن يتحرر مما يمكن أن يحدّ من حريته، فلن تتحقق الحرية كماهية أو كوجود بالنسبة إلى الإنسان، مادام هذا الأخير في موقع ضعف وليس قوة، حيث يسعى إلى التحرر من شيء أقوى منه، يقيده، يحد من حريته. يكافح الإنسان من أجل الحرية، لكنها لن تكون واقعه الفعلي. قد نقول إن الدعوة إلى الحرية دعوة مثالية، ترتبط بما ينبغي أن يكون، وما هو كائن يخالف هذه الدعوة. إن المدعى الذي يسعى فيه الإنسان، محاط بشتى أنواع القيود والحدود، والأغيار، بحيث إذا تحررت من هذا القيد، سقطت في قيد آخر أقوى منه، وهكذا دواليك. وبالتالي، “ماذا يعني أن نولد أحرارا ولا نعيش أحرارا؟ ما قيمة أيّ حرية سياسية إلا بوصفها وسيلة للحرية الأخلاقية؟ هل الحرية التي نتبجح بها أن نكون عبيدا أو نكون أحرارا؟” .

ترتبط الحرية أكثر بمجال الخلق، والإبداع، والابتكار، لأنها بهذا المعنى خروج عن المألوف، بدعة ما سبق إليها أحد، معجزة باعتبارها خرقا للعادة، وما ألفه الناس، ومن ثمة تقوم الحرية على فعل الخلق الذاتي ؛ أما غير ذلك فيمكن تسميتها بالعادة أو التكرار، والخضوع، والانقياد، السير مع القطيع، والمطلوب القطيعة مع مثل هذه الممارسات. وبالتالي، تبقى الحرية دون معنى، إذا لم تخلق في الإنسان إمكانية للتطور، والتغير، والتقدم؛ أما إذا كانت الحرية عائق أمام كل تطور ، وهذا محال، فإن الأمر يقتضي الارتداد عليها، بحيث قد تنقلب الحرية على ذاتها وتتحول إلى نقيضها، أي العبودية. تحمل الحرية نقيضها معها، أو أنها من المفاهيم التي تحوي نقيضها معها، فـ”الحرية لا يمكن أن تفهم إلا على ضوء نقيضها. ولكن هل تعني الحرية إنكار الضرورة كما يظن البعض؟ كلاّ. فالحرية والضرورة تفترض كل منهما الأخرى. فالضرورة شرط أساسي لممارسة الحرية. والحرية هي احتواء للضرورة وتحرر من نواميسها. فلا بد للحرية كل حرية من مجال تعمل فيه وأسس تقوم عليه” . لكن، لا وجود لحرية بالمعنى المطلق، لن تتحقق الحرية بالتحرر المطلق من قيود الأغيار، كيفما كان هذا الغير الذي يتحكم في هذه الحرية، وينصب الموانع والحواجز أمامها. لذلك قد نقول إن الحرية كفاح مستمر، مواجهة، كفاح من أجل التحرر للدخول في تحرر جديد. الإنسان غير الحر هو الإنسان الذي توقف عن الكفاح، قرر الاستسلام، لم يرد مواصلة الطريق. من هنا يمكن الحديث عن حدود الحرية، فحدود الحرية هي الحرية ذاتها وليست الحتمية. من هنا أصبح المطلوب الآن هو التحرر من الحرية لأنها أصبحت قيدا لنا. وبالتالي، “يمكن فهم الحرية على أنها خضوع لضرورة العقل، مع العمل على التحرر من جبرية العلل والأسباب المادية. الحرية ليست خلقا من العدم أو قدرة إبداعية مطلقة، بل هي اختيار عقلي يقوم على تقدير البواعث وفهم طبيعة المؤثرات (…) والسلوك الحر هو ثمرة الوعي لقوانين الأشياء وتكيف التصرفات مع الضرورات الخارجية. وهكذا قيل “إننا لا نأمر الطبيعة إلا بعد أن نطيعها” . إذن، كيف يمكن فهم التناقض التالي: الحرية هي الخضوع لضرورة العقل، وأنها اختيار عقلي، ومادامت الحرية ليست خلقا من عدم، وأنها خاضعة للضرورة سواء كانت عقلية أو غيرها، فهذا يعني أن الحرية محكومة بشيء ما، ويتحكم فيها، وهو الأمر نفسه الذي يخلق الاعتقاد لدينا بوجود الحرية. قد نقول بهذا الاعتبار إن الحرية تحرر من الحتمية للسقوط في حتمية أخرى، وكأننا ندور في نفس الدائرة.

وهكذا نسجل انحراف العلم عن المسار الذي وجد من أجله، أو انقلاب الهدف على ذاته، فبعد أن كانت الغاية من العلم تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، وتحريره من قوانينها، فإذا بالأمر ينقلب إلى رغبة في السيطرة على الطبيعة واستعباد الإنسان، أو لنقل فهما أوسع للإنسان بهدف التحكم فيه وتقليص هامش الحرية لديه، من خلال إخضاعه لمنطق العلم. وهكذا، نصل في الختام إلى مجموعة من المطالب، في شكل ما ينبغي أن يكون من العلم في علاقته بالحرية. فالمطلوب من العلم تحرير الإنسان من الحتمية الطبيعية، وفهم أوسع للمبادئ التي ترتكز عليها، بمعنى آخر التحرر من التبعية للطبيعة. والمطلوب الآخر، هو التحرر العقلي من الخرافة والأسطورة، وكذلك تحرير السلوك من فكرة التضحية وتقديم القرابين، أي تحرر الإنسان من الوصاية سواء كان مصدرها علويا فوقيا أو أرضيا، أي من نفس طبيعة الإنسان. والمطلوب في الحرية التحرر بوصفها تمردا على القوانين الطبيعية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية.

لمحمد بن يونس.

الجديد- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate