اصلاح ديني

لتعصب والاستعلاء الديني: تزيين التطرف بالأدلة(٢).

تزيين اتجاهات شاذة ومخيفة بأدلة متفق عليها دفع على مدى التاريخ والجغرافيا أمماً كثيرة إلى الجنون والدمار.

لكنّ صحة هذا الكلام أو موافقته لا تعني أنّه دين نزل من السماء يجب اتباعه وتطبيقه في جميع الأحوال، ولا يعني أبداً أنّ ما تواضع المسلمون على اتباعه وبنائه من مؤسسات ومناهج وتطبيقات ليس “إسلامياً”، أو أنّه كفر وجاهلية، حتى لو كان يخالف الإسلام بقدر من الأقدار أو في موضع من المواضع، كما أنّها مناهج وتطبيقات ليست واحدة أو موحدة، بمعنى أنّ الصواب لا ينطبق إلّا على فهم واحد أو تطبيق واحد للدين؛ إذ إنّ معظم، إن لم يكن جميع المناهج والتطبيقات المتبعة في عالم المسلمين اليوم، تستند إلى فهم الدين وضرورة تطبيقه، أو عدم التناقض معه، وحتى عندما تكون مخالفة للإسلام أو يُظنّ أنّها مخالفة، فإنّ ذلك لا ينفي صفة الإسلام عن أصحابها، فالخطأ ليس كفراً، وليس جاهلية أيضاً.

والحال أنّنا ننشئ خطاباً “إسلامياً” من خلال المعالجة المنهجية للنصوص الدينية، لكنّ هذا الخطاب ليس هو الإسلام، وإن كان مستمدّاً منه، وليس أيضاً مناقضاً للإسلام، كما أنّه ليس خطاباً واحداً، وإنّما خطابات متعددة ومتنوّعة، وكلها تنتمي إلى الإسلام أو عالم الإسلام، والعبارة الدقيقة لوصفها أنّها خطاب أو خطابات المسلمين، ولا يملك أحد أن يحكم عليها أنّها ليست “إسلامية”، أو أنّها “جاهلية”، أو يجب محاربتها والخروج عليها.

وفي المقابل فإنّ “المنهاج الإسلامي” حتى في صورته التي تدعو إليها جماعات الإسلام السياسي لا يمنح صفة الإسلام لدولة تتبعه أو تطبقه. هل تصبح روسيا أو السويد مثلاً دولة إسلامية إذا طبقت “أحكام الإسلام”؟ إنّ إطلاق حكم بالإسلام أو الكفر على أمّة أو جماعة أو دولة هو حكم غير صحيح، إلّا على سبيل الفهم الإنساني، ولكنّه ليس حكماً دينياً، فالإسلام يكون أو لا يكون باعتقادات وأعمال لا يمكن تصورها إلّا للأفراد. إذ كيف تشهد دولة أو أمّة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله؟ وكيف تؤمن أو تكفر بالله؟ وكيف تصلي وتصوم وتحج؟ ربما يكون لا بأس بوصف الدول والأمم والمجتمعات بالإسلام أو عدم الإسلام، لكنّه وصف إنساني، وليس دينياً. وإطلاق عبارة إسلامي على الدول والأمم والمجتمعات هو استخدام معاصر، ولكنّ الوصف السائد في التراث الإسلامي “دار حرب”، أو “دار سلم”، أو “دار إيمان”، أو “دار كفر”، وهي أيضاً أوصاف وتسميات إنسانية، تشبه ما نقوله اليوم دول صديقة أو دول معادية.

وعودة إلى سيد قطب؛ إذ يقول: “نحن نعتقد أنّ المستقبل لهذا الدين باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية. وهذا الدين -بهذا الاعتبار- ليس مجرّد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كلّ مجالاتها الواقعية، إن صحّ أنّ هناك ديناً إلهياً يمكن أن يكون مجرّد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية، وليس مجرّد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، فتكون لهم صفة هذا الدين. وليس مجرّد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق آخر أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين”.

 المنهاج الإسلامي حتى في صورته التي يدعو إليها الإسلام السياسي لا يمنح صفة الإسلام لدولة تتبعه أو تطبقه

لكنّ هذا الفهم والاستنتاج مبنيّ على التجربة “الإسلامية” أو تجربة المسلمين الواقعية والتاريخية، والتي يعتبرها سيد قطب منحرفة عن الإسلام منذ وفاة (مقتل) عمر بن الخطاب، بل إنّ الأمّة المسمّاة إسلامية (وهذا تعبير سيد قطبحرفياً) خرجت من الإسلام منذ القرن الـ4 الهجري/ الـ10 الميلادي، ولا يستند هذا الفكر إلى نصوص دينية واضحة تدعو إلى ذلك على نحو لا يحتمل الخلاف والجدل، ولو كان مثل هذه النصوص موجوداً، لما اختلف واقتتل الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، فلم تخلُ التجربة الإسلامية من الاقتتال العنيف والمدمّر، ولم تخلُ أيضاً من الانحراف عن الإسلام، أو الخطأ في فهمه وتطبيقه.

لا بأس بطبيعة الحال أن يكون “المنهج الإسلامي” تصوّراً إنسانياً وتطبيقاً حضارياً منتمياً إلى الإسلام، لكنّ ذلك لا يُنشئ أوصافاً وأحكاماً بالكفر والإيمان أو الحلال والحرام، فليس حراماً إلّا ما حرّمه الله بالقول الواضح الذي يعرفه ويؤمن به جميع المسلمين.

لابراهيم غرايبة.

حفريات- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate