المرأة

الأمومة اليوم(٥).

من هي «الأم الجيدة كفاية» إذن، كما جاءت في المقال:

أولاًـ  هي الأم التي تقدر على خلق فضاء مناسب للطفل حتى يتمكن من تطوير ملكة التفكير ولاحقاً الكلام. وحتى يتمكن من القيام بذلك، فهو بحاجة أيضاً لأن يحبّ نفسه. فليس من السهل أن تحبّ نفسك. وهكذا يكون على الأم أن تُعلّم الطفل أن يحبّ نفسه من خلال حبّها له كما تحبّ نفسها، وحبّها له لاحقاً حين تنفصل ذاته عنها. قد يقول قائل إن هذا الحبّ سهلٌ في الواقع، كون الطفل هو الامتداد النرجسي للأم، جسداً وذاتاً. إلا أن المشكلة هي في حب الأم لنفسها، فهي ستحبّه كما تحبّ نفسها، لكن هل تحبّ الأم نفسها؟ وكيف؟ ثم هل ستتمكن أن تحبّ طفلها بعد أن ينفصل عنها ذاتاً مستقلة لا تشبه ما رغبت به في طفلها حين كان صغيراً؟

بهذا المعنى تكون الأم، حسب كرَستيفا، هي الوحيدة، بالإضافة للقدّيسين وصفوة المؤمنين، القادرة على حبّ «جارها حبّها لنفسها»، كما جاء في وصايا الإنجيل.

ثانياً، هي الأم التي لا يعجبها أحد على وجه الخصوص!! لا تسحرها شخصية وسلوك طفلها بشكل يعميها عن رؤية الصورة الكاملة، فتعترف بعملية نزع الولَه كجزء من أمومتها، وتعمل على البحث عن صفائها الخاص وراحة بالها، بعيداً عن قلق الأمومة وعذاباتها. فإذا كان الولَه الأمومي هو النموذج البدئي لعلاقات الحب في عصرنا هذا، كما أسلفنا، فإن نزع الولَه، يشكل أيضاً النموذج المبدئي للتخلّي، لإفساح المجال للحبيب كي يبتعد إن كان ذلك ما يحتاجه، وهو النموذج المبدئيّ للحب «الكبير» أو «الحقيقي»، الذي لا يريد شيئاً سوى أن يكون الحبيب سعيداً، سواء كان ينفذ رغباتنا أو لا، سواء كان يعيش معنا أو لا. فلا أحد قادر على إتقان هذا النوع من الحب بقدر «الأمّهات الجيّدات بما فيه الكفاية».

كمثال على نزع الولَه الأمومي، تذكر كرَستيفا  قصة الكاتبة الفرنسية الشهيرة كوليت، التي تحدثت في كتبها عن أمها «سيدو»، أمها التي فضلت «انتظار تفتّح زهرة» على زيارة ابنتها، فضّلت التمتع بالطبيعة وفصولها وعيش طريقها الخاص، دون أن تكره ابنتها أو تبعدها عن حياتها. إذ إن سيدو لم تتوقّف عن مراسلة ابنتها، برسائل جميلة، حملت حبّاً أموميّاً فريداً وخاصّاً بها. فتحت تلك الرسائل لاحقاً أمام كوليت طريق حب اللغة والكتابة والأدب، وتتساءل هنا كرَستيفا: أليس ما قدمته سيدو لابنتها أكثر تحرّراً وتحريراً مما قدّمته أمهات كثيرات، لا يفارقن أطفالهن حتى حين يكبرون، لكنهنّ يُقيّدن حياتهم ويحدُدنَ من تطورهم واستقلالهم، بتحميلهم ذنب ابتعادهم عنهنّ وبطلب الطاعة من أطفالهنّ وامتثالهم لأوامرهنّ؟

وأخيراً، هي الأم التي تعلم متى تغيب، متى تختفي من غرفة طفلها، لتسمح له بإعادة إنتاج تفكير الأم الذي ينتقل له في الحوار اللاواعي بينهما. الغياب يسمح له بإدماج ما تعلّمه في ذاته، وبإيجاد المكان (المعنى) المناسب له في ذاته. الرابط الحقيقي بين الأم والطفل يتشكّل في واقع الأمر في الوقت الذي تترك فيه الأم طفلها وحده. فقط عن طريق ترميز (تمثّل) غياب الأم، يستطيع الطفل الاستمتاع والتفكير بنفسه، فمتعة الطفل بالجسد الأمومي طاغية، تشغل الطفل تماماً وتجعله بغنى عن التفكير. فقط عن طريق «قتل الأم الرمزي» الذي يبدأ عند تعلّم الطفل للغة، يشعر الطفل بلذّة التفكير ويتحول إلى ذات متكلّمة. فقط من خلال هذا الغياب، يتمكّن الطفل من الانتقال من «الجسد إلى الفكر».

نَصّ مقال الأمومة اليوم

يلخص العنوان الطَموح لمقالي هذا قلقاً اجتماعياً وتاريخياً عميقاً يتعلّق بمسألة أخلاقية الإنجاب لمجرد الرغبة به. سأقتصر بكل تواضع على جانب من جوانب الأمومة التي تهمني شخصياً كأم ومحللة نفسية: ولَه الأمهات وماذا يعني هذا الولَه اليوم. سوف يتطرق حديثي عن ولَه الأمهات إلى ثلاث نقاط، لن أتوسع بها تماماً هنا، ولكني آمل مع ذلك أن أتمكن من إلقاء بعض الضوء عليها.

 ماذا أعني بـ «اليوم»؟

حسناً، تكتسب العلوم الفيزيولوجية والبيولوجية، وكذلك طب التوليد، يوماً بعد يوم إتقاناً متزايداً في فهم لغز الحمل، الذي كان في الماضي، ونظراً لكونه لغزاً، يمنح الأم القوة، ويحرمها منها بشكل مرعب في الوقت نفسهتقصد الكاتبة أن جهل الإنسان الماضي بأسرار عملية التكاثر (كيف يحدث الحمل فعلاً، المخاطر التي قد تسبب الإجهاض، علاقته بالدورة الشهرية… إلخ) قد أعطى المرأة مكانة خاصة غامضة من جهة، كونها حاملةً لذاك اللغز ومتحكمة بموضوع الإنجاب، لكنه كان سبباً أيضاً لاستغلالها ومحاولة السيطرة عليها والتحكم بها باعتبار أن غياب معرفة حقيقية حول الحمل والجنين يفتح المجال لتحميلها ذنب الإجهاض أو عدم الحمل مثلاً، أو حتى التضحية بها تقرباً من إله ما. (المترجم). على الرغم من ذلك، لا تستمر الخصوبة والحمل عند المرأة في إبهار خيالنا الجمعي فحسب، بل باتا يشكلان مجالاً لما هو مقدس أيضاً.

ليوليا كرستيفا.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate