الأمومة اليوم(٣).
يعيش الأب كذلك تلك الإعادة لشريط الماضي مع الطفل، يجد نفسه في موقف «مثلثي» (أب، أم، طفل) مشابه تماماً لموقف الأوديب الذي عاشه في طفولته لكن من موقع الأب، إلا أن ذلك يأخذ عند الأم بعداً وجوديّاً ونفسياً خاصّاً، إذ يهيّئ لعملية نزعِ الولَه وبالتالي تَحوُّل العلاقة بين الطفل والأم إلى شكل أكثر تعقيداً.
ثانياً، من خلال اكتساب اللغة، تعيد الأم تعلّم اللغة من جديد، ومن خلال ما أسميناه بالحوار اللاواعي، الذي يبرز كنتيجة مباشرة لعملية التماهي الاسقاطي، تأخذ الأم موقع أمّها في الماضي، لتكون شاهدة على عملية تعلّم اللغة كما حدثت في الماضي عندها. تنظر الأم باهتمام شديد إلى فم الطفل وهو يحاول لفظ الكلمة أو إعادة صوت ما، تكرّره، تنقّحه وتعيده كصدى لصوت الطفل بعد إضافة ما تعتقده ناقصاً. تعيد الأم عملية ربط الأصوات بالمعاني، تلك العملية القسرية التي يخضع لها الطفل، بعد أن يكون قد تحدّث لفترة بلغته الخاصة، دون أخذ مرجعية للمعنى من لغة أو ثقافة ما.
وهنا نلاحظ الاختلاف الأول الذي ترسمه كرَستيفا بين الموقف الأمومي والموقف الهيستيريتختلف دلالة مصطلح هيستيريا كثيراً حسب الفترة التاريخية ومدارس العلاج النفسي، فالهيستيريا في الطب تشير إلى تمظهر الأعراض النفسية بطريقة مسرحية استعراضية على شكل أعراض جسدية أو نوبات هيجان وإغماء، أما في التحليل النفسي الفرويدي فهي نمط من نمطي العصاب الرئيسيين، يتميز بكبت صراعات المرحلة الفموية. في التحليل النفسي الحديث، يشكل الموقف الهيستيري أحد طرق تنظيم الرغبة اللاواعية، المنتشر بشكل أكبر عند النساء، مقابل الموقف الوسواسي الذي نجده عند الذكور بنسب أكبر.، فالهيستيريّة تفشل في ردم الهوّة بين مفهومٍ ما وما يثيره من شعور داخلي (وهو ما يسمى في العلوم المعرفية: عدم التطابق)، أو بين المعنى كما تقدمه الثقافة ويصيغه النظام الرمزي الاجتماعي، وبين الشعور الذي يثيره ذاك المعنى (أي المتعلق بذاتية المرأة بشكل مباشر). أي أنها تعيش الهوّة بين الكلمة ومعناها، أو بين الدّال والمدلول، كما لو أنها مشكلتها الخاصة، وتفشل في إدارتها كمشكلة كونيّة في اللغة كما يراها التحليل النفسي البنيوي. أي أن الهيستيريّة مريضة بالأمل بالقدرة على قول كل شيء كما تقصده تماماً. مريضة بالأمل باللغة كوسيلة تواصل أمينة وكاملة.
أما الأم، فهي قادرة، من خلال التحدّث بلغة طفلها، في بداية تعلّمه للغة، من خلال تماهيها مع أعضاء النطق عنده كفمه وحنجرته ورئتيه، على إيجاد صيغة لحل مشكلتها مع عدم التطابق تلك. ويمكن القول إذن، إن تجربة الأمومة تهيّئ الامكانية للشّفاء من الهيستيريا، وتعليم المرأة الكلام لطفلها يعمل كترياق ضد الهيستيريا، فهي تختبر الفجوة بين الدال والمدلول في عمليّة التعلّم تلك وتتعلّم قبولها دون ذنب أو معاناة.
العامل البنيوي الثالث الذي يحثّ الأم على عملية نزع الوله الموصوفة، هو مسألة الزمنية، أو الطابع العابر للأشياء، فهي تدرك منذ البداية أن حياتها منتهية حتماً يوماً ما، بل وأن حياة طفلها أيضا محدودة، وتدرك لذلك أن عملية الخلق التي ساهمت بها، محدودة بفترة زمنية معينة. ذاك الشعور بزمنية أمومتها والطابع المؤقّت لحياة طفلها يترك الأم في قلقٍ شديد من جهة (من سيعتني بطفلي بعد موتي)، لكنه يمنحها أيضاً فرصة لبداية جديدة. طفل جديد يعني بداية جديدة، طريق جديد وحياة جديدة. بداية جديدة كليّاً بهذا المعنى، هو شيء تستطيع الأمهات فقط فعله، وهذا ما يشكل الأساس الفلسفي للأمومة، حسب كرَستيفا. التحرر من الزمنية يمر من خلق بداية جديدة، أو كما يمكن القول على ما أظن: «الزمن الأمومي هو زمن بدايات حيوات جديدة، يخلقها الجسد الأمومي».
تلك العلاقة بين زمنية الحياة والتحديات التي تفرضها على الإنسان (خوف من الموت، ضغط الإنجاز، الصراع على البقاء، اللامعنى المرتبط بحتمية الزوال … إلخ.) من جهة، والأمومة من جهة أخرى، نجدها في الأخيولات الذكورية، خصوصاً، حول العودة إلى رحم الأم، والانصهار مع الأم من جديد، كنهاية لكل معاناة وألم في الحياة.
إن حريّة الطفل باكتسابه شخصية وعلاقات مستقلّة عن الأم، ما هي إلا انعكاس لتحرّر الأم من قلق زمنية الحياة. فالأم التي تنجز عملية نزع الوله، تحرّر الطفل من ضغط علاقته الفريدة مع الأم، إلى علاقات متعددة مع الكثير من الأشياء والأشخاص والأهداف في الحياة. برأيي كرَستيفا، لا يمكن للطفل أن ينطلق في حياته ليسلك دروب إبداعه الخاصة دون أن يتحرّر جزئياً من ضغط العلاقة مع الأم. نزع الوله إذن، مرتبط بزمنية الحياة، بمعنى أن نجاة الطفل في حياته المستقبليّة وقدرته على تعلّم العيش والدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته يصبح، في مرحلة معينة من حياة الطفل، مرتبطاً ارتباطاً أساسياً بتحرّره من ولَه الأم.
ليوليا كرستيفا.
الجمهورية- موقع حزب الحداثة.