الأمومة اليوم(١).
يأتي هذا المقال في عالمنا اليوم الذي، كما تراه كرَستيفا، تخطى مرحلة الجهل التي عاش فيها الإنسان لقرون طويلة، الجهل الذي جعلَ المرأة عرضة للتقديس والتدنيس في آن. فالعلم الحديث، الذي اكتشف كثيراً من أسرار عملية الحمل والإنجاب، قد فتح باب التحرّر، من سلطة «لغز التكاثر»، أمام الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً، دون أن يكون واضحاً بعد، أي مستقبل يَعِدُ به ذاك التحرر.
فعندما كان الإنسان يجهل كيف يتم تَشكُّل الجنين وعلاقة ذلك بالدورة الشهرية ومواعيد الإباضة وغيرها، كان عرضة لكثيرٍ من التفسيرات الخاطئة والمشوّهة عن الحمل والاجهاض، فصحيح أن ذاك الجهل جعل مكانة المرأة مقدّسة كونها تقوم بعملية لا يستطيع الرجل فهمها، إلا أنها أيضاً كانت عرضة لتحميلها المسؤولية في الحالات التي لا يحدث فيها حمل بعد جماع، أو في الحالات التي ينتهي الحمل فيها بالإجهاض.
ترى كرَستيفا أن وظيفة الإنجاب، التي يأخذ فيها الرحم مكانا رئيسياً، لا تزال تتمتّع بالتقديس، في الوقت الذي تتراجع فيه مكانة التديّن في العالم يوماً بعد يوم. فصحيح أننا بتنا نعلم الكثير عن آليات الإلقاح والخصوبة، إلا أن التكاثر، أهم العمليات البيولوجية بالنسبة للجنس البشري على الإطلاق، لا يزال مرتبطاً بالمرأة وقدرتها على الحمل، ولا يزال يفرض على العلاقات البشرية أثره الواضح، كما يؤثّر ما يرتبط به من دافع جنسي وإنجاب وتربية للأولاد، ليس على النساء فقط بل والرجال أيضاً. إلا أن التغيرات والتحديّات التي يفرضها «التكاثر» على المرأة، في الحمل والإنجاب وبناء علاقة مع الطفل، تشكل سمة خاصة لحضارتنا اليوم. ففي ظل التشوّش القيمي الذي يعيشه العالم اليوم، يبدو أن الاتفاق القيمي الوحيد هو اتفاق على «حق الحياة»، التي تشكّل أرحام الأمهات مصانع لها. وبعد حلّ لغز الحمل والانجاب إلى حدّ بعيد، باتت المسؤولية الملقاة على عاتق الأم مرتبطة بحرية قرار الإنجاب من عدمه. لكن ما الذي يدفع إلى ذلك القرار؟ ومتى تكون الإجابة عليه «متنوّرة» كما تريدها كرَستيفا؟
يُعنى النقاش حول الأمومة «اليوم» بالعوامل الاقتصادية والسياسية، فقضية الإنجاب «اليوم» متعلّقةٌ بالدعم الماديّ المتاح، وبطول المدة التي يُسمح فيها للأب أو الأم أن يبتعدوا عن عملهم، ليكونوا مع أطفالهم. ومن ناحية أخرى، تهتم المرأة «اليوم» عندما تقرّر الإنجاب بحسابات متعلقة بعمرها وتوافر علاقة مستقرة. وكثيراً ما يُتّخذ قرار الإنجاب، كنوع من الخطوة «الطبيعية» في تطور أيّة علاقة، بل وكشرط لاكتمال التجربة الحياتية الشخصية سواء للرجل أو للمرأة. إلا أنه من النادر أن تفكّر امرأةٌ ما بالأعباء النفسية للأمومة والتغييرات والتحديات الذاتية التي ستعيشها، إذ تصبح أمّاً إلى الأبد. فطريقة تعامل الأمهات مع تلك التحديات ليست، كما يعتقد البعض، فطرية وموروثة، أي أنها ليست منقوشة في جوهر الأنوثة، بل تتعلمها المرأة من خلال التطبيق، وتصير الأم أُمّاً من خلال ممارسة الأمومة.
لا شكّ أن الثقافة تمرّر نصائح التربية للأمهات كي يقمن بدورهنّ بطريقة مناسبة، إلا أنّها نادراً ما تعترف بالأمومة كتحدٍ نفسي تخوضه المرأة، بل غالباً ما يُروَّج للأمومة كعلاقة ما ورائية تسمو فوق أي دافع أو عاطفة إنسانيّة. فلا مكان في الخطاب المجتمعي حول الأمومة اليوم، لغيرة الأم من ابنتها مثلاً، أو محاولة سيطرة الأم على حياة ابنها والتحكم به، أو لرغبة الأم بالتحرر من موقع الأمومة ومسؤولياتها في لحظة ما من حياتها، أو للعواطف المُركَّبة التي ترافق عملية التربية. التنوعات السابقة المذكورة، تعتبر إما شاذّة أو مَرَضيّة، أو يتم تجاهلها وتفسيرها بطرق تحاول تنقية الخطاب الأمومي والعلاقة بين الأم وطفلها من كل أدران النفس البشرية.
في كل الأحوال، تشكل تلك القضية موضوع حوار نسوي ساخن، يتمحور حول دور الأمومة ذاك؛ هل تحرّر الأمومةُ المرأةَ وتفتح لها مجالات عاطفية ونفسية جديدة من خلال تجربة الأمومة الجسدية والنفسية التي لا مثيل لها؟ أم أن دور الأمومة هو أحد العوامل الرئيسيّة للسيطرة على المرأة ورغباتها الشخصية من خلال ربطها بدور رمزي، رضيَ المجتمع الذكوري به لها ليأسرها فيه إلى الأبد، ويُحجّم من تجربتها الخاصة. لا شك أن الإجابة معقّدة وتمتد على عدة مستويات، إلا أن غياب خطاب نفسي مركّب عن الأمومة بكل ما تجلبه من إيجابيّات وسلبيّات إلى حياة المرأة، هو حسب كرَستيفا النقصُ الأساسي فيما يخص الأمومة في عالم «اليوم». فالاكتفاء بالانتصار للحرية الجنسية والمساواة بين الجنسين، لا يقدّم جواباً كافياً لسؤال الأمومة، بل ربما يعيق محاولة البحث عن جواب تجريبي جدّي.
لذلك تعتقد كرَستيفا أنه لا يمكن اختزال الأمومة بـ«الرغبة بإنجاب طفل»، التي يبدو أن فرويد قد اكتفى بها في بحثه حول الأمومة، حيث أوضحَ كيفية نشوء تلك الرغبة عند الطفلة الصغيرة بعد المرحلة الأوديبية، واعتبرها طريقاً لخروجها من تلك المرحلة التي تتسم في نهايتها بخيبة ناتجة عن استبطان الفتاة للتحريم الجنسي (قانون تحريم السفاح) الذي يجعل الأب مستحيل المنال، مما يجعل رغبة الإنجاب أساسية لتعويض هذا النقص. تلك الرغبة القديمة تجد، حسب فرويد، طريقها لاحقاً عن طريق علاقات الحب والجنس نحو التحقّق (أي الإنجاب). فبغض النظر عن مصدر تلك الرغبة، إلا أن الأمومة لا تنتهي هنا بل بالأحرى تبدأ.
لا يمكن الاعتماد، بالمقابل، على البيولوجيا فقط في الإجابة عن سؤال الأمومة، حتى لو اعتقدنا، كما يفعل كثيرون من المنبهرين بالعلوم الطبيعية اليوم، أن للبيولوجيا أجندتها الخاصة التي تعمل وفقها لتوجيه البشر فرادى أو مجتمعين كجنس بشري باتجاه أو بآخر. إذ يستسلم أولئك لمصطلح «الغريزة» كبرنامج منظّم ومخزّن في المادة الوراثية في مكان ما، موجِّهاً الكائن بما تقتضيه متطلبات التطور والبقاء. مصطلح الغريزة هذا يبقى فضفاضاً، غامضاً، منذ قرون، بل وفي واقع الأمر لا تمكن بعد رؤيته كمصطلح علميّ أساساً، كون آلياته الرئيسيّة، إن وجدت، غير مكتشفة بعد.
في كل الأحوال، حتى من يعتبر الأمومة غريزة «طبيعيّة»، فهو لا ينكر أن عوامل أخرى كثيرة تشارك في رغبة الإنجاب، وإلا كيف يمكن تفسير الرغبة بعدم الإنجاب، التي لم تعد نادرة بين النساء في عالم اليوم؟! بل وحتى لو سلّمنا بتوجه غائيّ للبيولوجيا، يسيطر على سلوكيات الإنسان في مسألة التكاثر (الدوافع البيولوجية الموجهة للانجذاب الجنسي، وربما الرغبة بتأسيس أسرة، أو حتى الرغبة بالإنجاب نفسها وغيرها)، فسيكون علينا طرح السؤال التالي: لماذا تدفعنا «الطبيعة» إلى يومنا هذا للتكاثر، وقد ازداد تعداد البشر في العالم بنسبة هائلة منذ حوالي قرن من الزمن؟ ألن يكون حريّاً بالطبيعة أن توجّه السلوك البشري نحو عدم الإنجاب؟ أو أن توجّه الأم إلى عدم الاعتناء بالأطفال؟ أو حتى، باعتبار أن البيولوجيا تغلب رغبة الإنسان ودوافعه النفسية حسب تلك النظرة، قتلهم؟ أم أن الذّكاء الطبيعي ليس كافياً ليجد طريقه الجديد في حال تغيرت ظروف الجنس البشري؟
ليوليا كريستيغا.
الجمهورية- موقع حزب الحداثة.