اصلاح ديني

من السلطة الدينية إلى السلطة الروحية.

لا عجب أو استغراب إذا رأينا حقل الاهتمامات السوسيولوجية والأنثروبولوجية ومحط اهتمامات الباحثين في هذا المجال، ووجدنا المقدس بكل تجلياته أو بشكل أوسع مجال الديني القدسي وتمظهراته الطقوسية. لقد استحوذ هذا الأخير الحيز الأكبر من المواضيع والإشكالات والأبحاث المنجزة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. في هذا الصدد يقول حسن رشيق: “تكاد الطقوس تفرض نفسها على الباحثين كموضوع”، مثلما يسجل نفس الموقف ضمن كتابه “سيدي شمهروش” الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير.

إن دوافع هذا الاهتمام ليست عبثية أو مجانية، بل لطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكمنا وتؤسس متخيلنا عبر ممارستنا اليومية. والأهم من ذلك؛ لأن الطقوسي داخل المقدس يجد حضوره في المستوى السياسي المهيكل لبنية المجتمع وتراتباته الواضحة، وبذلك تكون علاقات السلطة التي تحكم البنية السياسية في ارتباطها بمن يعيش تحت ظل نسق هذه السلطة تنبني وتقوم على الركائز الدينية أساسا، وتتجلى وفق خاصية الديني كمحدد أساسي ومهم وباعتبار هذا الأخير رمز تثبيت الشرعية وقبول هذه الشرعية من الشعب عن طريق التعبير عنها من خلال الولاء المطلق لإمارة المؤمنين الشيء الذي يؤكد عليه محمد الطوزي، حين يشدد على ارتباط إمارة المؤمنين بالمرجعية الدينية دون غيرها.

يتجسد الحكم كذلك في كيفية تصريف هذا الرأسمال بطريقة سياسية تحفظ الحاكم، وتبقي على هاته الأواصر وتجديدها كل سنة. ما يظهر حجم التركيب والتعقد بين مستويات متباينة، لكنها متداخلة وبشدة، لهذا ينبغي لهاته الحقول “أن تعرض لا بوصفها سلسلة مربعات متوازية ومتداخلة، وإنما بوصفها، عوضا عن ذلك، شكل فن [دوائر متداخلة] متعدد الأبعاد به عناصر أفعوانية [تربط متحركة كأفعى دائرة بأخرى- حقل بآخر]”. كما يقترح ذلك ب. فيرتر.[5]

إن أحد هذه العناصر الأفعوانية هو الدين، الذي يقطع حقول متمايزة في مستويات مختلفة (التداخل بين الدين والسياسة). ما يجعل الصورة أكثر تعقيدا، فالقوى التي تؤثر على تقييم الرأسمال في حقل الدين (أو في أي حقل آخر) هي محصلة دينامكيات داخلية [داخل الحقل نفسه] ودينامكيات علائقية [علاقة الحقل بالحقول الأخرى] أيضا.

يعتبر السلطان أو الملك المعبر الوحيد الذي يدمج بين هذين الحقلين، ويضعهما ضمن نسق واحد يحكمه بواسطة الرأسمال الرمزي الذي يمتلكه والسلطة الروحية التي تخول له هاته المهمة. “وتشكل الأضحية لحمة الحقل الطقوسي برمته مثلما تشكل قناة الاستمرارية بينه وبين الحقل السياسي. يعد الملك أب العائلة الروحية التي يتجاوز اتساعها حدود النخبة، ويعمل على توسيع شبكات نفوذه داخلها، كما يعمل على الزيادة من عدد تحالفاته داخل أسرته الدنيوية. وتتحرك هاتان الأسرتان تحت قيادة شخصين متميزين يجسدهما فرد واحد: “الملك، رئيس الدولة المغربية وأمير المؤمنين الشريف”. وهنا تكمن القوة الكبرى للسلطة الروحية ورمزيتها عند السلطان وبركته. سلطة تقول عنها ر. بورقية أنها تتجاوز الحدود الترابية؛ لأن السلطان هو أمير المؤمنين وإمام، وبالتالي له مبدئيا سلطة على نوع معين من البشر هم المؤمنون: فالسلطان هو المركز الروحي، باعتباره أمير المؤمنين والصلاة تقام باسمه. إن هاته السلطة ذات المنبع الروحي، قد تفوق بشكل أكبر بكثير المنبع الديني، لكون هذا الأخير واحدا من بين منابع هذه السلطة، غير أنه ليس الوحيد، بل قد توجد مصادر أخرى تؤسس للسلطة الروحية، أو ما يطلق عليه ب. فيرتر “بالرأسمال الروحي”. يتحدث عن ذلك قائلا: “إذا كان الرأسمال الديني يعتبر، وفقا لبورديو، بوصفه شيئا ينتج ويراكم ضمن إطار سلطة دينية مؤسسية، فإن الرأسمال الروحي يمكن أن يعتبر بوصفه سلعة أكثر انتشارا، ومحكومة بأنماط إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك أكثر تعقيدا”. إن تعقيده وتعقده يتأسس بشكل رئيس من خلال ما يشكله كمركز لتداخل حقول عديدة، ومصالح مختلفة، تحكمها آليات الصراع والسلطة، سلطة الديني، وسلطة السياسي، ومنهما سلطة الحكم المبنية على الهيبة والهبة والخوف والخضوع، إلخ.. ولكون السلطة أو الرأسمال الروحي أشمل وأعم من السلطة والرأسمال الديني، فبإمكان أي كان أن يحصل عليها ومن مواقع مختلفة، لاعتبارات عديدة: كالحظوة المادية والرمزية “إن قيمة الرأسمال الروحي لا تحدد من قبل المحترفين [أهل الدين، الخواص] وفقط، وإنما من قبل العوام أيضا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقوض استقلالية حقل الدين. إن الرأسمال الروحي يمكن أن يكون عملة صالحة للتداول في حقول أخرى سوى حقل الدين، ومن ثم يكون بوسع عامة الناس أن يمارسوا سلطة روحية بفضل الرأسمال المادي أو الرمزي الذي تمكنوا من مراكمته في حقل آخر سوى الدين”.

لهذا السبب يشكل السلطان بحظوتيه اللتين تحدثنا عنهما سلفا مركز هاته السلطة ومؤسسها داخل حقل القداسة والحكم، آخذا ذلك من كل ما يملكه داخل مملكته الشريفة بعلاقاته والكاريزما التي تدعم حضوره، وما يملكه من رأسمال اقتصادي، واجتماعي، وثقافي، ليصب ذلك في إرساء السلطة مدعمة بالديني، وباعتبار السلطان الأب الروحي للمغاربة، وصاحب الكلمة الفصل في كل ما يحدث؛ لأن روحية سلطته تلك، تفرض كل ذلك.

لمحمد الامين بشيبة.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate