اصلاح ديني

الموروث الدينيّ: مقاربة نقديّة استشرافيّة(١).

مدخل سياقيّ:

نرجّح أنّ تغليب التفكير النقليّ على التفكير العقلانيّ في مختلف فروع المعرفة والثّقافة في أغلب بلاد العرب والمسلمين، عطّل الانطلاق الفعليّ نحو العالم الحديث قيما وثقافة وتمثّلا للإنسان خَلْقا ومقصدا. ولذلك، نرى أنّ الإصلاح الدينيّ مطلب أساس في شواغل التفكير الحداثيّ.

المحور الأوّل/ الموروث الدّينيّ: في تعدّد المقاربات

تعدّدت المقاربات الفكريّة التي ناقشت هذه المسألة؛ فمن جهة هناك سعي حثيث للعودة إلى الموروث تبنّيا واندراجا فيه، ومن جهة أخرى هناك من يعتبر أنّ الانحباس في الماضي عائق حقيقيّ أمام الإبداع والخلق والابتكار. وفي أجواء الخصومة المركّبة والمعقّدة بين هذيْن الاتّجاهيْن، يبقى المسلم اليوم متردّدا بين خطاب يغريه بالماضي الأصيل وخطاب يزّينُ له المستقبل، إنْ بُنيَ على النجاح في الفكاك من سطوة التّراث. وبناء على هذا نسأل: إلى أيّ مدى نجحت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة في تعاملها مع الموروث الدّيني؟

يمكن الانطلاق ونحن نزمع النّظر في تداعيات السؤال الذي طرحْنا من العمل على تفريعه إلى روافد وظيفيّة صغرى قصد الإسهام في رفع الغموض الذّي يغشى بعض المصطلحات والمفاهيم: ما المقصود بـ”الموروث الدينيّ”؟ وكيف تعامل الدّارسون معه؟ وما انعكاسات مقارباتهم على الحقول المعرفيّة والثقافيّة الواقعة تحت سلطانه؟ وما البدائل أو الإمكانات التي تستطيع أن تنقل أصداء ذاك السؤال من مجال القراءة التبجيليّة أو الإلغائيّة إلى مجال القراءة البنّاءة؟

من شأن مثل هذه الأسئلة أن تشرّع للكلام على مشروع حضاريّ آخَرَ، قد يجيب عمّا غاب عن بعض القراءات التي تشبّثت بالتّراث المقطوع عن حركة التّاريخ وعدّتْه مَنجاةً، ممّا هي فيه اليوم وغيّبتْ النظر إلى المستقبل واستكشاف ما أمكن فيه من البدائل. وههنا وظيفة الفكر حصْرا. إذ لا مجال للحديث عن “الفكر الذّي يسعى إلى الارتداد بالواقع الاجتماعيّ والتاريخيّ إلى عصور سابقة، فليس ذلك فكرا على الإطلاق، وإنّما الفكر في جوهره وحقيقته حركة لاكتشاف المجهول انطلاقا من آفاق المعلوم” (أبو زيد، 1993، ص 185).

فالإشكاليّة التي يمكن أن تطرح إذن، هي إشكاليّة كيفيّات التّعامل مع الموروث لاقتحام حضارة “العالم” و”العصر” والدّخول في “الحداثة الثّقافيّة والفكريّة” دخولا واعيا وإيجابيّا. وانطلاقا من هذا المعنى، فإنّ المسألة التي نحن بصدد مقاربتِها تتعلّق إذن بجدليّة التراث والرّاهن. فمن جهة، هناك انشداد إلى الماضي، ومن جهة أخرى ثمّة عيشٌ ماديّ أو زمنيّ أو فيزيقيّ في الرّاهن. ولا شكّ في أنّ هذه الجدليّة ذاتُ قاعٍ إشكاليّ، وهي إنْ لم تدرسْ درْسا موضوعيّا نقدا وتجاوزا تظلّ ركنا مكينا في أزمة الثّقافة العربيّة المعاصرة.

وهذا تقريبا ما أشارت إليه الصيغة التركيبيّة التي وردت فيها صيغة العنوان: “الموروث الدينيّ“. وردت الكلمة الأولى “الموروث” في صيغة اسم مفعول، وهي في المعجم من: “ورث يرث ورثا وإرثا وراثة وتراثا، يقال: ورث المال والمجد عن فلان وأورث إيراثا: جعل له ميراثا، وتوارث القوم: ورث بعضهم بعضا، يقال: توارثوا المجد كابرا عن كابر، و”المجد متوارث بينهم فهم في إرث مجد”، و”توارثتني الحوادث؛ أي تداولتني” (المنجد في اللّغة والأعلام، 1997، ص 895). ويهمّنا أن نضيف في هذا المستوى، فنقول لقد “أُعطيَ هذا اللّفظ اللّغويّ بعدا حضاريّا وإيديولوجيّا في أدبيّات الفكر العربيّ الحديث. فوضع في مقابل اللّفظ الفرنسيّ tradition أو اللّفظ patrimoine أو اللّفظ Héritage. ويعرّف القاموس الدّولي للأنثروبولوجيا مفهوم التّراث بالثّقافة التي تنتقل من الجيل الماضي إلى الحاضر، بكلّ أنماطها وأشكالها، شفهيّة كانت أم كتابيّة” (الكتّاني، 2000، ص 89).

ويمكننا أن نصوغ من نفس المعجم الدّلالي لكلمة الموروث: التراث، الأصالة، الأصوليّة، السّلف، النّقل، القديم؛…أي كلّ ما يمتّ بصلة إلى القديم، “لأنّ لمفهوم القديم نفس الأبعاد لمفهوم التّراث. ولا سيّما حينما وضع القديم في مقابل الجديد أو الحديث أو المعاصر” (الكتّاني، 2000، ص 89).

تعدّدت التعريفات مدارُ هذه اللّفظة وذلك لأهمّيتها الإشكاليّة من جهة، ولعلاقتها المباشرة والمعقّدة بسؤال التقدّم والتأخّر من جهة أخرى. يقول حسن حنفي: “التّراث هو كلّ ما وصل إلينا من الحاضر داخل الحضارة السّائدة؛ فهو قضيّة موروث، وفي الوقت نفسه قضيّة معطى حاضر على عديد من المستويات”، وقريبا من هذا يقول عابد الجابريّ: “أنّ التّراث هو كلّ ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أم البعيد”. وينبغي التنويه بالجهد البارز الذي بذله فهمي جدعان في تعريف التراث. كان لا يخفي ما يواجهه من صعوبات في التعريف. وكأنّه في الأخير “اضطرّ لأن يعرّفه تارة بحدّ البساطة كما يقول، وتارة بحدّ التجريد. بحدّ البساطة، التّراث هو كلّ ما ورثناه تاريخيّا من الأمّة التي نحن امتداد طبيعيّ لها. وبحدّ التجريد، التّراث هو وعي التّاريخ وحضوره الشّعوريّ في الكيان الفرديّ الجماعيّ” (الميلاد، 2004، 28 أكتوبر).

ومثلما استوقفتنا كلمة الموروث، تستوقفنا الكلمة الثّانية، وهي “الدّين”. ولسنا في هذا المقام راغبين في التوسّع في ما توسّع فيه المتخصّصون من علماء دين وعقائد وثقافة… وحسْبُنا أنْ نكتفي بالإشارة إلى أنّ مصطلح الدّين “يرد مقابلا لمصطلح الدّنيا. وتتمثّل هذه الثنائيّة في تمييز جانبين من شؤون الحياة الجانب الدنيويّ والجانب الدينيّ. الأوّل يحتكم فيه للقوانين والتشريعات الوضعيّة وما تتوصّل إليه العقول وحاجات الإنسان من غايات ووسائل. والثّاني قوامه الطّقوس والعبادات والشّعائر. هذه الثّنائيّة قد يعبّر عنها في التمييز الاصطلاحيّ بين ما هو زمنيّ وآنيّ، وما هو أزليّ أبديّ في شؤون الحياة، أو بين ما هو مقدّس وبين ما هو غير مقدّس profane. وكما يقول دوركهايم: إنّ كلّ عقيدة دينيّة تفترض تصنيف الأشياء الواقعيّة والأشياء المثاليّة إلى نوعين متقابلين تدلّ عليهما بكلمتين متميّزتين هما المقدّس وغير المقدّس…” (الفرّان، 2007، ص 61).

ويمكننا أنْ نقول بناء على ما تقدّم، إنّ بعض قطاعات الحياة الإسلاميّة ولأسباب تاريخيّة معقّدة حدث فيها ما يكمن أنْ نعبّر عنه بتمدّد سلطان المسلّمات والدوغمائيّات، ممّا أدّى إلى ما يشبه العطالة التي أصابتْ العقل الإسلاميّ المعاصر في مقْتَل فانكفأ وتوقّف عن تأمين إحدى أهم وظائفه، وهي إنتاج المعرفة وإبداع الحلول. ونعتقد بأنّ الإفادة العميقة من مكتسبات المناهج المعاصرة وتطبيقاتها الواعية يساعد على تعديل كثير من الرّؤى والمواقف وإعادة النّظر في القراءات المسمّاة إسلاميّة تلك التي تزعم التأصيل، ترى أن حلّ المشكلات الرّاهنة لا يكون إلاّ بالعودة إلى مقولات السّلف أو الأسس الأولى التي قامت عليها الخلافة، حيث يُراد البحث في هويّة النّظام السياسيّ.

إنّ التحوّل في التّعامل مع الموروث من عَدِّهِ مجرّد مرجعيّة تراثيّة له قيمة تاريخيّة معرفيّة إلى اعتباره سلطة قادرة على الهيمنة والتوجيه والتدخّل في تشكيل ثقافة الأشخاص وقناعاتهم وسلوكهم، شكّل عنصرا بارزا لا فقط في الخطاب الدينيّ المعاصر، ولكنّه مثّل أيضا مجالا من مجالات البحث النقديّ في الدّراسات العربيّة اليوم (كرم، 2007، 5 ديسمبر).

فالموروث الدينيّ، انطلاقا من هذا الطّرح الإيديولوجيّ/الإحيائيّ لا يكون إلاّ في علاقة تنافر وقطيعة مع التحوّلات الزّمانيّة والمكانيّة والتاريخيّة. ودون الإسهاب في استقراء الأسباب، نقول لقد ساد في المتخيّل الجمعيّ الإسلاميّ فكرة انحباس الموروث في حقبة زمنيّة خارجة عن سياق التّاريخ وتبدّلاته. ووفّر هذا التصوّر إمكانات واسعة ثقافيّا لارتقاء الموروث إلى مرتبة القداسة في الذهنيّة الإسلاميّة.

المحور الثاني/ سلبيّات التّعامل مع الموروث: رؤية نقديّة

لا يسعنا اليوم في ضوء الدّعوات المتزايدة لإقحام الموروث في صورته المخياليّة المغلقة في الحياة السياسيّة والثقافيّة، إلاّ أن نتنبّه إلى خطورة الاستعمال الخاطئ له واستجلاء انعكاساته السلبيّة في جلّ الميادين. ندعو إلى ذلك، لأنّنا نراه يقودنا إلى انسداد آفاق التغيير النقديّ الإيجابيّ، ويقف حائلا دون بلورة حلول إبداعيّة. إنّ انتشار أفكار موغلة في التقليد والاكتفاء بإحياء مقولات نبتت في تربتها المجتمعيّة والتاريخيّة اللّصيقة بها تحت شعار معبّإ بالإيديولوجيا وعصر السّلف الذّهبيّ، يمنعان تشكّل مساحة نقديّة يمارس فيها الأحياء سلطانهم على راهنهم ويفتحون بها مسلكا نحو المستقبل. فمثل هذه المقولات والأفكار والشعارات تتعارض مع شروط ظهور الفكر الإيجابيّ السّاعي لا إلى الإصلاح فقط، ولكنْ إلى التغيير النوعيّ في طرائق التّعامل مع مكتسبات التّاريخ. والفكر الايجابيّ كما نفهمه هو ذاك الذي “يتصدّى لحقائق العصر الذّي ينتمي إليه بالتحليل والتفسير والتقويم، ويسعى إلى الكشف عن عناصر التقّدم ومساندتها وعزل عناصر التخلّف ومحاربتها” (أبو زيد، 1993، ص 185).

إنّ تعاظم موجات استخدام الدّين استخداما مخياليّا وإيديولوجيّا الذي تتجلّى علاماته المباشرة في صعود التيّارات الإسلاميّة على تعدّد مشاربها وأطروحاتها، لا يمكن أنْ يكون -من وجهة نظر المقاربات التاريخيّة التطوريّة- إلاّ طمسا لكلّ فكر متحرّر يتّخذ النّقد سبيلا لتفكيك بنيان الوضع الرّاهن وإنتاج معقول تاريخيّ جديد.

ولا ريب في الأثر البالغ الذي تتركه مثل هذه الموجات في الحياة السياسيّة والمجتمعيّة، حيث يقع الإعلاء من صوت القراءة الستاتيكيّة للدّين والتشبّث بمقولات نصيّة مجتزأة من سياقها وبعيدة عن التأويل لصالح الرّاهن. إنّ تسييد البعد الخطابيّ المختلط بنزعة استحواذيّة على الموروث الدينيّ نصّا وتأويلا يسهم على نحو فعّال في تراجع العلاقات الإنسانيّة الحيّة. فتحويل الموروث الدّينيّ إلى “جهاز عقائديّ” مغلق وقادر على اختراق الثقافة المجتمعيّة الهشّة يعود في المقام الأوّل إلى أنّه يتمتّع بصلاحيّات التمسّك بالمقدّس الدّينيّ حلاّ جاهزا ومغريا. إنّ ما نسمّيه بالاتّجاه الاستحواذيّ على الموروث يسعى “بإمكاناته اللّغويّة ومخزوناته الفقهيّة وأحكامه الشرعيّة ونصوصه الموروثة كلّها، إلى الانشغال كلّيا بخلق مساحات شعبويّة معبّأة تماما بفكر التطرّف والتشدّد والتعصّب والكراهيّة، ليصير هدفه الأساسيّ تعبئة النّفوس والأذهان والضّمائر ضدّ الآخر المختلف” (كرم، 2007، 5 ديسمبر).

انتشرت ظاهرة “المنابر الدّعويّة” لنشر “هويّة دينيّة” تتأسّس على “الخطاب الدّينيّ الوراثيّ والتوارثيّ”. وهذا يحيلنا إلى مفهوم للدّين لا بمعناه الإيجابيّ والسّليم، وإنّما للدّين “المغلوط” بكلّ ما يحمله من خطابات غائيّة. وإذ نستخدم عبارة “المغلوط”، فإنّنا لا نقدّم أنفسنا في المقابل أصحاب “الدّين الصحيح” كما تواترتْ في بعض كتابات الإصلاح في القرنيْن الثّامن عشر والتّاسع عشر. إنّ هذا ليس من وظيفة الباحث. استخدمنا هذه العبارة استخداما إجرائيّا، القصد منه سحب “العصمة” من تلك الخطابات وتحرير الموروث من الارتهان لها. ونحن في هذا السّياق، حريصون على التفريق بين الدّين والتديّن. فالتديّن باعتباره اختيارا فرديّا غالبا ما يقع في مدار الأخلاق، وهو “حين يرتبط بأصوله الاعتقاديّة والسلوكيّة… ظاهرة جديرة بالاحتفال والتشجيع، فهو مصدر هداية للفرد، وانضباط الجماعة، يغري بالصّلاح والإصلاح، ويعصم من الفساد والإفساد، ويؤدّي في نهاية الأمر إلى الارتفاع بمستوى العلاقات الإنسانيّة بين أفراد الجماعة، وبين الجماعات المختلفة” (أبو المجد، 2012، 26 ديسمبر). أمّا حين ينحرف عن هذا الإطار، “فانّه يصير تديّنا مغلوطا يفضي إلى حالات فكريّة ووجدانيّة وجماعيّة بعيدة الصّلة عن الصّورة التّي سعى الدّين إلى بنائها وإقامتها في الفرد وفي الجماعة على السّواء” (أبو المجد، 2012، 26 ديسمبر). ومن هنا، لا يجب الخلط بين الدّين والفكر الدّينيّ؛ “فالدّين رؤية كونيّة تقوم على الإيمان أساسا. أمّا الفكر الدّينيّ، فهو منطق يحكم ويقيم كلّ شيء على أساس من المعجزة والوحي والحدس والمطابقة التماثليّة والتطبيق النصّي الحرفيّ، ومثل هذا الفكر الدينيّ يقلّص الرّؤية الدينيّة نفسها ويجعلها بالغة الضّيق والتعصّب…فيسيء الفكر الدّينيّ بجهوده وتعصّبه وضيقه إلى الدّين نفسه” (العالم، د.ت، ص 132).

فانتشرت ظواهر الأنانيّة والرّغبة في استلاب العقول والنّفوس، وانتشار ظواهر الانحراف والعنف الفرديّ والجماعيّ، وبروز أشكال متعدّدة من الإرهاب تتخفّى تحت غلاف دينيّ وتنسب نفسها إلى الدّفاع عن الإسلام، وهي إذ تفعل ذلك تهدّد كلّ إمكان لانبثاق جيل عربيّ ومسلم ذي كفاءة وإرادة وقدرة على نحت معالم مستقبله. كلّ ذلك يدخل في إطار التحفيز غير الواعي والمدمّر على الانقطاع عن مسايرة وضع الحياة الطبيعيّ أو مواكبة التطوّر الحاصل في العالم، ممّا يسهم في الحدّ من قدرة الإنسان على التطلّع إلى آفاق يكتسب بها الكيان الإنسانيّ عناصر متجدّدة تؤهّله لقيادة نفسه بنفسه.

إنّ التوغّل في استقرائنا للخطاب الدّيني السّائد في مجتمعاتنا العربيّة، يكشف عن “ظاهرة شديدة الغرابة تتمثّل في أنّ الجانب الأكبر والوحيد أحيانا في هذا الخطاب يتّصل بالماضي، ويكاد أن يقف بالسّامعين والمشاهدين عند عصر النبوّة وعصر الصّحابة وقليل من التّابعين، حتّى صار الإسلام في تصوّر العامّة هو تاريخ هذه الحقبة وحدها…وتلك آفة بالغة الخطورة على جيلنا كلّه، فقد التوت أعناق هذا الجيل، وهو مشدود أبدا إلى الوراء، منكفئ على الماضي، مشغول بالذّات، وحجّتهم الحاضرة، ولا غناء فيها أن من يقطع صلته بماضيه لا رجاء له في مستقبله” (أبو المجد، 2012، 26 ديسمبر).

يصبح التراث حبيس الماضي بتأويل غير تاريخيّ يهمل الحاضر وموضوعاته. والتأويل غير التاريخيّ هو ذاك الذي لا يستجمع مقاصد القراءة النقديّة، ولا يستحضر الأدوات والوسائل العلميّة الكفيلة بإنجاز تلك القراءة. فما لا يختلف حوله الباحثون اليوم هو أنّه “في معظم الدّراسات التي تناولت التّراث الدّينيّ، لم تتّضح طبيعة المناهج المستخدمة، بل وكادت تذوب في الموضوع لدرجة التّماهي، وغلبت النّزعة العقائديّة على كلّ تعامل تقريبا، ومن هنا اختنقت علميّة المعالجة لصالح الأدلجة” (عبد الرّحمان، 1993، ص 24).

لقد آن الأوان في هذه اللّحظة الحرجة من تاريخ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، أن يتسلّح المقدمون على مقاربة الموروث بسلاح العقل والفكر النقديّ. فبه دون سواه، يمكن إرباك مقولات الجمود والرّتابة ليمتدّ البصر إلى المستقبل في عمليّة ارتحال واعية من مدار الزّمن الماضي.

إنّ التّعامل مع الموروث إذن يجب أن يكون تعاملا يتسامى عن التّوظيفات البراغماتيّة والإيديولوجيّة، وألا يكون مجرّد بناء فوقيّ يستلهم منه قادة التنظيمات السياسيّة والجماعات الفكريّة التراثيّة ما يخدم أهدافهم السياسيّة والإيديولوجيّة. إنّ توظيفا بهذا المعنى، يحوّل الثّقافة التراثيّة إلى حصون مغلقة تكتفي بترديد مقولات السّلف بالاعتماد على دين “منجز” وبتوظيف طاقات “مشربة بالطائفيّة والمذهبيّة” لخدمة مصالح سياسيّة. فالاكتفاء بالتّوظيف إذن دون النّقد من شأنه أن يشوّه لا فقط منزلة الحاضر وموقع الأحياء فيه، ولكنّه يسيء أيضا إلى الإسلام دينا بشكل عامّ.

فالتأويل غير النقديّ يخوّل تبرير الأعمال السياسيّة بالمسوّغات الدينيّة. وهكذا نرى الدين يُجْلَبُ فيأتي لنصرة السّياسة عبر فتاوى تنشر الآراء المتعصّبة، وتحضّ على تنفيذ مشاريع المذاهب السياسيّة التي تسهر على ذاك التوظيف. وغالبا ما تقع الدّعوة إلى تبنّي أفكار مخالفة للواقع وملتصقة بالتّاريخ في أشدّ لحظاته ثبوتا واستقرارا. وهذا ما نراه منتشرا في زمن ما بعد الثّورات العربيّة من خلال تحرّكات الجماعات السلفيّة الوهّابيّة في العديد من البلدان: مصر، الأردن، سوريا، الجزائر، اليمن، الإمارات، الكويت. وقد يقع تحويل تلك الدّعوات أفعالا مادّيّة عنيفة بدعوى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ولا شكّ في أنّ أقوالا وأفعالا كهذه وبقطع النظر عن نزعتها “الإجراميّة” من وجهة نظر القانون، لا يمكنها إلاّ أن تقدّم صورة سلبيّة عن الإسلام.[1]

فالانشداد إلى الماضي إذن، وصرف الفكر عن الرّاهن ومواجهته بالتفكيك والتّشريح الجادّيْن ورسم أفق واضح المعالم وبيّن المقاصد في اتّجاه المستقبل، إنْ هي في حقيقة الأمر إلاّ مخالفة لحركة المجتمعات الحيّة في العموم، وتجنّ لا لبس فيه على روح الإسلام نفسه. فإيديولوجيا العودة إلى الماضي تلعب دورا مهماّ في “إبعاد الأذهان عن المواجهة الحقيقيّة للمشاكل المتراكمة. ونظرا إلى أنّ الماضي قابل للتفسير على أنحاء عدّة تجعل من السّهل تشكيله وفقا للأهداف المطلوبة، فإنّ هذا الغطاء الإيديولوجيّ يؤدّي دوره بكفاءة تامّة، وبلا أيّة خسارة” (زكريّا، 1985، ص 83).

انحصر تعامل هؤلاء مع الموروث الدّينيّ في بلورة علاقات مغلقة بين المسلمين داخل المجتمع الواحد وانحباس التّفكير في مسائل دينيّة دون معالجة الرّاهن أو التّفكير في صياغة فكر متحرّر. فكان الاهتمام بالجذور القديمة حائلا دون “ظهور فكر مستقبليّ مبنيّ على أسس علميّة وعقليّة”(زكريّا، 1985، ص 84.). وهذا الاتّجاه لا يمكن أنْ يُجابَهَ إلاّ باتّجاه مقابل يعلي من قيمة التعامل الانتقائيّ والواعي مع الموروث في إطار يقبل النّقد والتقويم، حتى لا يصير “الموروث الدينيّ بتأويلاته الكثيرة وتطبيقاته المتعدّدة يقتات على وهم الصّفاء…بما أفرز التعصّب الشّديد للهويّة الإسلاميّة” (كرم، 2007، 5-12).

فلطالما شاعت فكرة اليقينيّة في الذّهنيّة الإسلاميّة التي نزّهت كلّ ما له علاقة بالمقدّسات الدينيّة. ولمّا تشكّل هذا الوعي السلبيّ في النّفوس، تكاثفت جهود الرّاغبين في بسط نفوذهم السياسيّ وتصوّراتهم الثقافيّة عبر آليّة الإسقاط دون مراعاة قانون التبدّل الذي يتحكّم في الوجود كلّه، وجود بشريّ ووجود كونيّ. لقد وقع تغييب معطى ثقافيّ مهمّ في ذاك التأويل غير التاريخيّ، وهو أنّ الإسلام في حدّ ذاته يمثّل رؤية une vision نقديّة للواقع، تدعو إلى التّغيير وإلى صياغة آفاق مستقبليّة للإنسان.[2]

وتشهد الوقائع التاريخيّة حين استنطاقها بأنّ ما يحدث في الرّاهن العربيّ والإسلاميّ ليس جديدا؛ فقد عرف تاريخ الإسلام تيّارات وأفكارا ومذاهب لم تحفل بالعقل والنّقد، واستكانت للتّقليد والاسترجاع. فنحن إذن، إزاء مشاهد سياسيّة وثقافيّة، كأنّما تستعيد أصداء لمشاهد قديمة. لقد وقف “الموروث الدينيّ دائما عقبة في طريق الفلسفة والمنطق والأدب والفنّ والنّقد والتحليل، وحارب تلك الاتّجاهات الفكريّة والفلسفيّة والنقديّة كلّها نظرا لخطورتها على الموروث الدّينيّ” (كرم، 2007، 5 ديسمبر). وهكذا ابتعد الفكر الدينيّ عن الواقع، وتناول الأحداث بمعزل عن التحوّلات الكونيّة والعالميّة، وتمّ تغييب موضوعات العصر وقضاياه الكبرى، مثل العولمة والعلاقة مع القوى العالميّة وتحقيق إصلاحات تهمّ المسائل التنمويّة والتقدّم وضمان الحريّات الدينيّة والمدنيّة والفرديّة والنّهوض بمسائل التّعليم والتّربية لتنشئة أجيال تفتخر بموروثها الدّيني دون انسحاق أمامه أو ذوبان فيه.

إنّ التفكير خارج سلطة الموروث من شأنه أن يحقّق ثقافة الحوار محلّ ثقافة الاستبداد، ولا نستطيع إلاّ أن نثمّن رسالة جورج قرم التي دعا فيها إلى أن “نغيّر تقاليدنا الفكريّة الجامدة لنطلق حركة نهضويّة جديدة تشمل كلّ أوجه حياتنا العربيّة المعاصرة” (قرم، 2009، ص 71). وأكّد في هذا السّياق ضرورة عدم الخلط بين الفكر الدينيّ والثّقافة بشكلها الواسع والمتفرّع وقراءة تراثنا الدّينيّ قراءة جديدة “لننطلق إلى منظومة فكريّة مبدعة تحرّر الطّاقات الفكريّة الكامنة لدينا، وتسمح لنا بأن نقضي على الاقتصاد الريعيّ لندخل عالم الإنتاج” (قرم، 2009، ص 71). وهذا الانتقال من مدار الفكر الدينيّ إلى مدار الفكر المادّيّ كفيل بإحداث تغييرات في المجتمع برفع اللّبس عن مفاهيم خاطئة سادت لدى فئة من النّاس فهمت الموروث الديّني بشكل يتماشى وإيديولوجيّتهم، وشرّعت لمقولات التشدّد في المواقف التي تصدر عنهم.

لفاطمة القرقوري.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate