المرأة

الأُختِيّة: التضامن السياسي بين النساء(١).

مقدمة: بعد ظهر يوم الأحد، 12 كانون الثاني (يناير) 1986

يختلط الصوت بموسيقى لولي ومانويل، وباكو دي لوسيا، وكامارون، وجميعهم من مغني الفلامنكو. باكيةً أواجه الإحباط من محاولتي البدء في الكتابة، أشعر بقلق أنني لن أجد الكلمات لأقول ما يجب علي قوله، والخوف من أنني أفقد مع كل يوم القدرة على إيصال ما أريد قوله من خلال الكتابة. أعلم أنني لا أستطيع الاستماع إلى هذه الموسيقى والكتابة في نفس الوقت.

سوف تغلبني الموسيقى، وتحملني إلى عالم من الخطاب العاطفي الذي يتجاوز الكلمات. إنه غناء مليء بالتوتر والشدة، وبطريقته الخاصة يشكل نوعاً من الموسيقى النضالية: في هذا العام الجديد أشعر أنه من الضروري أن تعترف الناشطات النسويات بأولوية وأهمية النضال في العمل السياسي على المستوى الفردي والجماعي. الالتزام الراديكالي في النضال السياسي يحمل في طياته الاستعداد لقبول المسؤولية لتوظيف الصراع بطريقة بناءة، كوسيلة لتعزيز فهمنا لبعضنا البعض وإثرائه، كدليلٍ يوجّه ويشكّل معالم تضامننا السياسي.

داخل الحركة النسوية، لا يزال الصراع العنصري بين النساء البيض والنساء الملونات مجالاً من ضمن  مجالات النضال. غالباً ما تكون هذه الصراعات مسيطرةً إلى درجة أنها تجعلنا نشعر باليأس من إمكانية أن نعيش ونعمل معاً في مساحات اجتماعية غير ملوثة بسياسات الهيمنة. وبما أن طاقتنا معرضة لأن تضمحل وأن يتضاءل الأمل، فمن الضروري جداً لنا، نحن الناشطات النسويات، تجديد التزامنا بالنضال السياسي وتعزيز تضامننا. هذا يعني أنه علينا أن نعمل بجهد أكبر لمواجهة العنصرية والصراعات التي تسببها، مع الاقتناع بأن النضال المستمر المستدام سيفضي إلى أجندة سياسية نسوية تحررية.

يعتبر كتاب النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز تعبيراً عن محاولة  الناشطات النسويات المهتمات لصياغة نظرية تحررية أكثر شمولاً، تتحدى الهيمنة عوض إدامتها. وإلى حدٍّ ما، شكلت العنصرية محوراً من محاور هذا الكتاب.

على عكس كتابي الأول ألستُ امرأة: النساء والنسوية، الذي تم قبوله للنشر في وقتٍ اعتقدتْ فيه النساء ذوات البشرة البيضاء أن «العرق» موضوعٌ يقبل المناقشة النسوية. ويظهر كتاب من الهامش إلى المركز في وقت تتصرف فيه العديد من النساء ذوات البشرة البيضاء كما لو أنه ليست هناك حاجة إلى أن تلعب النساء ذوات البشرة الملونة دوراً مركزياً في صنع النظرية السياسية النسوية. ورغم  أن الكتاب يشير إلى أعمال عدد قليل من الأصوات المميزة (أي الأصوات التي يختارون الاستماع إليها، على سبيل المثال أودري لورد وباربرا سميث)، يتم تجاهل الكتابة النظرية للنساء ذوات البشرة الملونة الأقل شهرة أو غير المعروفات، وخاصة حين لا  تعبّر أعمالهن عن الإيديولوجيا السائدة. في فصول دراسات المرأة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، غالباً ما يتم تجاهل الكتابات النسوية النظرية للنساء الملونات، ويتم الاهتمام بدلاً من ذلك بالأعمال الأدبية الخيالية أو كتابة السيرة الذاتية الاعترافية. ومن اللافت أن كتاب النظرية النسوية: من الهامش إلى المركزلم يحظَ سوى بمراجعات قليلة (أعرف اثنتين فقط). ورغم افتقار الكتاب للاعتراف الكامل أو النقد أو مناقشة الأصوات المُكرسة داخل الدوائر النسوية، أتلقى ردود فعل إيجابية من القراء. ليس في نيتي التشكي، فأنا على المستوى الشخصي مسرورة بالكتاب، والحقيقة أن المبيعات ثابتة. هذا لا يخفي عني حقيقة أن العنصرية تعمل جنباً إلى جنب مع نظام النجومية (والذي يضمن أن أعمال بعض الأفراد ستحظى باهتمام واسع النطاق بينما سيتم تجاهل أعمال أخرى) وتؤثر على الاستجابة للكتاب.

حقيقةُ أنني أنحدر من الطبقة العاملة السوداء الموجودة في الجنوب، والتي تعتبر طبقة محافظة سياسياً، يدفعني أحياناً للشعور بالرهبة من الظروف التي تمكنني من المناداة بالسياسة الراديكالية والتأكيد عليها. لا أصدق أنني كتبت كتابين نسويين. لقد جلبني الحظ للعيش في الشمال، إلى نيو هافن- كونيتيكت، حيث أدرّس في مجال الدراسات الإفريقية-الأميركية واللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وهي أول وظيفة لي كمدرسة بدوام كامل. بالنسبة لي، التدريس عمل سياسي، والفصول الدراسية هي مساحة للعمل السياسي الراديكالي. قد لا يكون من المهنية جعل الجامعة موقعاً لتعليم الوعي النقدي والتسييس، كما أن ذلك أمر صعب عملياً، وقد يتسبب بخسارتنا لعملنا.

أعتبر أنني متأصلة في السياسة الراديكالية التي تقوم على الاعتقاد بأن سياسات الهيمنة، كما تظهر في الاضطهاد الإمبريالي والرأسمالي والعنصري والتمييز على أساس الجنس، يجب تحديها وتغييرها حتى يظهر نظام اجتماعي جديد. في بعض الأحيان أعرّف عن نفسي بوصفي اشتراكية، وفي بعض الأحيان أشعر بخيبة أمل وأعبر عن شكوكي بشأن الاشتراكية في الولايات المتحدة، ولا سيما الاشتراكية النسوية أو السياسة الاشتراكية التي يبدو أنها متجذرة في إطار راسخ للخطاب الأكاديمي الذي لا يستهدف الحركة السياسية الجماهيرية أو التغيير الاجتماعي. ركزت الكثير من الكتابات النسوية الاشتراكية على النقد النسوي الاشتراكي، وهذا بدلاً من تخيل نظرية راديكالية تحررية للاشتراكية من شأنها أن تعالج بشكل مناسب أنظمة الهيمنة المتشابكة؛ مثل التمييز بناءً على الجنس، والعنصرية والقمع الطبقي والإمبريالية وما إلى ذلك. هذه هي الأجندة التي يجب على النسويات الاشتراكيات، وجميع النسويات الملتزمات بالتغيير الثوري، معالجتها في نهاية المطاف.

الأختية: التضامن السياسي بين النساء

الضحية الرئيسية للتمييز بناءً على الجنس هن النساء. وكما هو الحال مع أشكال الاضطهاد الجماعي الأخرى، يُعزّز التمييز بناءً على الجنس ويُستدام من خلال البنية المؤسساتية والاجتماعية، ومن قبل الأفراد المسيطرين،  أو المستغلين والمضطهدين للآخرين، ومن قبل الضحايا أنفسهن، اللواتي تم تكوينهن اجتماعياً بطرق تدفعهن للتواطؤ مع الوضع الراهن. كما تروج إيديولوجيا تفوّق الذكور على النساء الاعتقاد السائد بأنْ لا قيمة لنا، ولا يمكننا الحصول على أي اعتبار إلا من خلال الارتباط بالرجال. لقد تم تعليمنا أن علاقتنا مع بعضنا البعض تقلل من غنى تجربتنا عوض إغنائها. كما تم تلقيننا أن النساء عدواتٍ بطبيعة الحال، وأن التضامن بيننا لن يحدث أبداً، ذلك لأننا لا نستطيع، ولا ينبغي علينا، أن نرتبط ببعضنا البعض. لقد تعلمنا هذه الدروس بشكل جيد، وعلينا أن نتخلص منها إذا كنا نريد بناء حركة نسائية متماسكة. يجب علينا أن نتعلم العيش والعمل بشكل متضامن. وينبغي لنا تعلم المعنى والقيمة الحقيقية للأُختِيّة.

لم تعتبر النسوياتُ الأختيّةَ إنجازاً ثورياً ستعمل المرأة وتكافح من أجل الحصول عليه، لذا لم توفر الحركة النسوية المعاصرة أرضية تدريب للنساء لتعلّم المزيد عن التضامن السياسي. استندت رؤية الأختيّة التي أثارتها النساء الساعيات للتحرر على فكرة القهر المشترك. وغني عن القول إن النساء البرجوازيات البيض في الأساس، سواء الليبراليات أو الراديكاليات في المنظور، هن من اعتقدن بفكرة الاضطهاد المشترك. وفي حقيقة الأمر، فإن «الاضطهاد المشترك» قضية باطلة وفاسدة، تخفي حقيقة الواقع الاجتماعي المتنوع والمعقد للمرأة وتضللها. لذا، من المهم التدليل على أن النساء يُقسمن بحسب مايتعرضن له من التمييز بناءً على الجنس والعنصرية والامتياز الطبقي الاجتماعي وإلى ما ذلك من عوامل أخرى تعزز التمييز والتحيز. لا يمكن أن يحدث التضامن النسائي المستدام إلا عند مواجهة هذه الانقسامات واتخاذ الخطوات اللازمة للقضاء عليها. كما لا يمكن القضاء على الانقسامات عبر التفكير الحالم أو الأوهام الرومانسية حول فكرة الاضطهاد المشترك، رغم أهمية تسليط الضوء على التجارب التي تتشاركها جميع النساء، وتعكس حجم معاناتهن.

في السنوات الأخيرة، لم تعد الأختية تثير، كشعار وكصرخة ضمن الحشود، روح العزيمة والرغبة بالاتحاد. وباتت بعض النسويات يشعرن أن الوحدة بين النساء مستحيلة نظراً لاختلافاتنا. إن التخلي عن فكر الأختية كتعبير عن التضامن السياسي يقلل زخم الحركة النسوية ويضعفها. وفي المقابل، يعزز التضامن القدرةَ على مقاومة العنف ضد النساء. لا يمكن خلق حركة نسوية ذات قاعدة جماهيرية لإنهاء التحيز الجنسي دون بناء جبهة موحدة، ولذا يجب على النساء القيام بالمبادرة وإظهار قوة التضامن. ما لم نتمكن من إزالة الحواجز التي تفصل بين النساء، ومن العمل لتحقيق التضامن، فلن يكون في وسعنا أن نأمل  بتغيير المجتمع ككل وتحويله. ابتعدت كثير من النساء عن الأختية بسبب غضبهن من الإصرار على فكرة «الاضطهاد المشترك»، أو الهوية المشتركة، أو فكرة التماثل،  فانتقد بعضهن الحركة بينما رفضتها أخريات بشكل كامل. الأختيّة هي وسيلة تلاعب عاطفي تخفي خلفها انتهازية النساء البرجوازيات البيض المتلاعبة. استُخدمت الأختية كغطاء لإخفاء حقيقة أن العديد من النساء يقمن باستغلال واضطهاد النساء الأخريات…

يُثرى الحراك النسوي عندما نترابط مع بعضنا البعض، لكننا لا نستطيع تطوير روابط مستدامة أو تضامن سياسي باستخدام نموذج الأختيّة الذي أنشأته النسويات البرجوازيات. فقد أوضحن أن أساس الترابط بين النساء هو شعور الضحية المشترك، وبالتالي قمن بالتركيز على فكرة الاضطهاد المشترك. يعكس مفهوم الترابط على هذا الأساس فكر التفوق الذكوري، وتنطوي هذه الإيديولوجيا على وضع النساء في موقع الضحايا. وبدلاً من رفض هذه المعادلة (التي تُؤسطر التجربة الأنثوية كأيقونة للضحية، رغم أن معظم النساء في حياتهن لسن «ضحايا» سلبيات أو عاجزات أو ضعيفات) تبنَّت النسويات البرجوازيات ذلك، مما جعل مفهوم «الأذية المشتركة» أساساً لترابط النساء ضمن هذه الرؤيا. يعني هذا أنه كان على النساء أن يعتبرن أنفسهن «ضحايا» كي يشعرن بأن الحركة النسوية تمتّ لهن بصلة. لذلك، ضمن هذه المعادلة، بات يُنظر، غالباً،  إلى النساء الحازمات الواثقات كأنما ليس لهن مكان في الحركة النسوية التي تقوم الروابط فيها على مبدأ الضحية. هذا هو المنطق نفسه الذي دفع الناشطات البيض (جنباً إلى جنب مع الرجال السود) إلى اعتبار أن النساء السود «قويات» لدرجة أنهن لسن بحاجة لأن يكنّ ناشطات في الحركة النسوية. ومن المفارقة أن النساء اللواتي كن أكثر حرصاً على أن يُنظَر إليهن على أنهن «ضحايا»، واللواتي شددن بأغلبية ساحقة على دور الضحية، كن أكثر امتيازاً وقوة من الغالبية العظمى في مجتمعنا. وكمثال على هذا الاتجاه تأتي بعض الكتابات التي تناقش العنف ضد المرأة. لا تستطيع النساء اللواتي يتم استغلالهن واضطهادهن يومياً التخلي عن الاعتقاد بأنهن يمارسن قدراً من السيطرة، مهما كان نسبياً، على حياتهن. حيث أنه لا يمكنهن تحمل رؤية أنفسهن «ضحايا» فحسب، لأن نجاتهن تعتمد على إرادتهن ورغبتهن بالاستمرار. سيكون من المحبط نفسياً لهؤلاء النساء أن  يتضامنّ مع نساء أخريات على أساس شعور الضحية المشترك. لذا، يجب أن نعزز التضامن على أساس نقاط القوة والرغبة بالعمل المشترك. هذا الترابط الذي ينبغي على الحركة النسوية أن تشجعه. هذا النوع من الترابط هو جوهر الأختيّة.

بدعوتهن للتضامن باتخاذ دور «الضحية»، لم تواجه النساء البيض مسؤولية مواجهة تعقيد تجربتهن. لم يقمن بمُساءلة الذات لفحص مواقفهن القائمة على التمييز بناءً على الجنس تجاه النساء المختلفات عنهن، أو تأثير امتياز العرق والطبقة على علاقاتهن بمن ينتمين إلى المجموعات العرقية والطبقية الأخرى. عند تعريف أنفسهن بـ«الضحايا»، يمكنهن أن يتهربن من المسؤولية عن دورهن في الحفاظ  على التمييز بناءً على الجنس والعنصرية والطبقية، وهو ما فعلنه من خلال الإصرار على أن الرجال هم العدو فقط، وبذلك لم يعترفن بالعدو الداخلي ويواجهنه. لم يكنّ مستعدات للتنازل عن امتيازاتهن والقيام بـ«العمل الشاق» (النضال والمواجهة الضروريان لبناء الوعي السياسي)، وهو أمر ضروري لتحقيق التغيير. لذلك، تكمن المهمة الأولى في العمل على نقد الذات والتقييم الصادق للمكانة الاجتماعية التي يحظى بها الفرد، والقيم، والمعتقدات السياسية وما إلى ذلك. 

أصبحت الأختيّة درعاً آخر ضد مواجهة الواقع، ونظام دعم إضافي، حيث تقوم نسخة البرجوازيات من الأختيّة على الافتراضات العنصرية والطبقية حول الأنوثة البيضاء، وأن «السيدة» البيضاء (أي المرأة البرجوازية) يجب أن تكون محمية من كل ما قد يزعجها أو يضايقها، ومن الحقائق السلبية التي قد تؤدي إلى المواجهة. نصت نسختهن من الأختيّة على أن الأخوات يجب أن «يحببن بعضهن البعض دون قيد أو شرط»، كما عليهن تجنب الصراع والتقليل من الخلاف، وعدم انتقاد بعضهن البعض، خاصة في الأماكن العامة. خلقت هذه القوانين لبعض الوقت وهماً بالوحدة التي تقمع المنافسة والعداء والخلاف الدائم والنقد المسيء (التهكم) الذي غالباً ما كان هو القاعدة في التجمعات النسوية. اليوم، تلجأ العديد من المجموعات المنشقة ذات الهويات المشتركة (مثل النساء البروتستانت البيض وعضوات هيئة التدريس البيض والنسويات الأناركيات وما إلى ذلك) إلى هذا النموذج من الأختيّة، وبهذا تسعى المشاركات في هذه المجموعات إلى دعم وحماية بعضهن البعض، مع إظهار العداء، عادةً، من خلال تحقيرٍ للنساء خارج المجموعة. إن الترابط بين الدائرة المختارة من النساء الذي يتم تعزيزه من خلال استبعاد النساء خارج المجموعة وتقليل قيمتهنّ، يشبه إلى حد كبير نوع الترابط الشخصي بين النساء الذي كان يحدث دائماً في ظل النظام الأبوي: الاختلاف الوحيد هو العمل حالياً تحت شعار النسوية. لتطوير التضامن السياسي بين النساء، لا يمكن للناشطات النسويات أن يقبلن بالشروط التي وضعتها الإيديولوجية المهيمنة ثقافياً.

لبيل هوكس.

الجمهورية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate