حداثة و ديمقراطية

نحو حداثة سياسية عربية(١).

الحداثة السياسية عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
»لايمكن إرغام أحد بالقوة أو بالقانون على امتلاك السعادة الأبدية”
                                   سبينوزا 

تقــــديم
نشتغل في هذه الورقة على زاوية محددة من زوايا التفكير في الحداثة السياسية، نشتغل على الجوانب النظرية الموصولة بالحداثة في فكرنا المعاصر، ولا نعتني كثيراً بالوقائع السياسية إلا في السياقات التي نلجأ فيها إلى التمثيل على مسألة بعينها. نعلن هذا الاختيار في البحث والمقاربة لاتساع مجالات الموضوع وتنوعها، ولأننا نتصور أن التفكير في الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي يتطلب جهوداً بحثية جماعية مركبة، يتم فيها الاهتمام بالفكر مترجماً في المشاريع الإصلاحية وبرامج التحديث، كما تتم فيها العناية بجوانب الممارسة الفعلية التي يفترض أنها تترجم بطريقة أو بأخرى نوعية الاختيارات المفكر فيها، لتبني بلغة الواقع والتجربة أنظمة السياسية وأنماط التدبير السياسي. 
ونتجه في سياق عنايتنا بالمجال النظري للحداثة السياسية العربية نحو بناء محاولة تفكر بمنطق السلب وآلياته في التحليل والفهم، حيث نركز اهتمامنا على عوائق الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر أكثر من سعينا لتشخيص وجرد المكاسب والمنجزات، ومبرر هذا الاختيار في البحث يعود لقناعتنا بوجود موانع عديدة تحول بيننا وبين استيعاب أكثر تاريخية لنظام الحداثة السياسية ومفاهيمها، ولعلنا في هذا البحث نوفق في إبراز بعض هذه العوائق، وتقديم تصورنا لكيفيات تجاوزها والتقليص من حدة تأثيرها السلبي على مشروعنا التاريخي في الحداثة والتحديث ..
وإذا كنا في هذه الورقة نسلم بأن أغلب التجارب السياسية التي قامت في كثير من البلدان العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين تشكل مرحلة انتقالية جديدة في طريق بناء المشروع السياسي الحداثي، فإننا في الوقت نفسه ننظر إلى علامات التحول الجارية بكثير من الحذر والاحتياط، بحكم مظاهر التردد بل والتراجع التي تتحكم في هذه العلامات في أغلب البلدان العربية.
نقرأ إذن تاريخنا المعاصر، ونعيد ترتيب بعض معطياته في ضوء مساعينا الرامية إلى المساهمة في تعميق الحداثة السياسية العربية، وهذا الأمر بالذات يتطلب بناء توضيحين اثنين.

1 – الحداثة مشروع نظري تاريخي مفتوح  ليست الحداثة في معطيات هذه الورقة سواء ما تعلق منها بالمنظور الفكري الحداثي أو بالتحديث السياسي، أو ما تعلق منها بالإشكالات الثقافية والحضارية الموضوعة اليوم موضع جدل وسجال في الفكر المعاصر، ليست الحداثة في كل ما سبق مجرد مفهوم أو جملة من المفاهيم الموصولة ببعض الأنساق والمنظومات الفلسفية والوقائع التاريخية الحاصلة في أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر، بل إنها كما نتصورها ونفكر فيها تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في تبلورها وتبلور المعطيات المركبة والمتناقضة التي نشأت في سياقات صيرورتها وتطورها ..
ومعنى هذا أننا لا نستكين في منظورنا للحداثة ونحن نمارس عمليات تحليل ونقد منظومات فكرنا السياسي إلى تصورات ورؤى فكرية مُغلَقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة التي تنظر إلى الانسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ من منظور يستوعب ثورات المعرفة والسياسة كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوروبا بالذات، باعتبار أنها موطن التشكل الأول للمشروع الفلسفي الحداثي، ثم في باقي مناطق وقارات العالم الأخرى بحكم شروط التحول العالمية التي واكبت بعد ذلك انقلابات الحداثة في مختلف بقاع المعمور، مستوعبةً مظاهر مختلفة من الحياة في الاقتصاد والسياسة والعلم والميتافيزيقا.
إن قوة الموقف الفلسفي الحداثي كما نفهمه تتمثل أولاً وقبل كل شيء في الوعي بمبدأ المخاطرة الانسانية الساعية إلى التغيير استناداً إلى قيم جديدة، قيم بديلة لقيم التقليد المتوارثة وقيم العقل النصي، حيث فجرت مغامرة البحث الانساني ابتداء من أزمنة النهضة في القرن ٦1م آفاقاً واسعة أمام العقل البشري، وهو الأمر الذي ترتب عنه في الفكر الحديث والمعاصر ميلاد مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية الجديدة في النظر إلى الطبيعة والإنسان والمستقبل. 
أما الحداثة السياسية فإنها تقدم في نظرنا أفقاً في النظر والعمل يُمكِّن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوثانهم القديمة والجديدة، ويسعفهم بتقويض دعائم الاستبداد السياسية، ومختلف أشكال الحكم المطلق، بهدف فسح المجال أمام مُختلف المبادرات القادرة على تطوير نظرنا السياسي في مجالات السلطة والسياسة والحكم، حيث يصبح من الممكن إبداع فكر سياسي جديد مطابق لطموحاتنا المتعلقة ببناء حياة مشتركة متكافئة وعادلة.
تتمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده أولاً وقبل كل شيء إلى مقدمات العقل النقدي، ذلك أننا نعتبر أن  الدفاع عن الحداثة السياسية يعني الاحتكام إلى سلطة العقل والنقد، ولهذا السبب ندافع على أهمية الاختيارات العقلانية والتنويرية في الفكر السياسي العربي المعاصر، لأنها تملك أكثر من غيرها القدرة على إسناد مشروع النهوض العربي وتطوير مرجعيتنا في الفكر السياسي.
إن إيماننا التاريخي بالحداثة السياسية يصاحبه إيمان مُماثل بنظرتنا إليها من زاوية أنها عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد. 
ولا تستبعد عملية إبرازنا لأهمية التصورات الفكرية الحداثية الإشكالات النظرية والتاريخية الكبرى التي ولَّدتها هذه التصورات والرؤى في مختلف أصعدة الوجود التاريخي للإنسان، فنحن نعي أن ثقافة الحداثة السياسية تواجه اليوم إشكالاتها الجديدة بأدوات النقد والبحث، للتقليص من حدتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها. ونحن نتصور أن هذه المسؤولية الأخيرة مسؤولية مواجهة مآزق الحداثة وتناقضاتها ليست موكولة للغرب وحده، بل إنها مسؤولية كل الثقافات التي تواصلت بطريقة ايجابية مع أفق الفكر الحداثي المفتوح، أفق الثقافة الكونية التي ننظر إليها كمشروع تاريخي يهم الإنسانية المنخرطة بصورة إرادية أو بطريقة قسرية في مغامرة التاريخ المعاصر …

لكمال عبد اللطيف.

أنفاس نت- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate