المرأة

المرأة والسياسة(٢).

لذلك يلاحق أعضاء/عضواتَ الأقليات صيتُ الحقد، وأنهنّ يبالغن ويعظّمن صغائر الأمور. ولذلك تحاول «الاستثناءات» إظهار أنهنّ عاقلات ومتعاليات على ذلك الأسلوب الطفولي، وقادرات على تقدير الأمور بحجمها الطبيعي. البرلمانيون الرجال الذين يطرحون مشاكل النساء  هم يعبرون عن وجهة نظرهم فقط، أما بعض البرلمانيات فلا يفعلن ذلك دون التأكيد على أن ثمة مشاكل أخرى تتمتع بالأولوية القصوى. وهكذا يبدون كما لو كنّ متربعات على عرش الله، ذلك المكان غير المناسب لأبناء الأقليات، وللنساء على وجه الخصوص.

النساء في المناصب العليا، أي في الهيئات السياسية، لسنَ بالضرورة نعمة لبنات جنسهنّ، بل على العكس. فمن ناحية يُستخدَمن كعذر – لدينا امرأة تعمل معنا –، ومن ناحية أخرى يُجبَرن من خلال الآليات الموصوفة أعلاه على أن يتنكرنَ لجماعتهنّ، ويُعززن موقف الأكثرية في أنه ليست ثمة مشكلة. بمعنى آخر، هؤلاء النساء يقدّمنَ الذريعة التي تحافظ على المنظومة الحالية.

لذلك أَفترضُ أن مجرد تواجد «امرأة» على لائحة الانتخابات أو في اللجان ليست نقطة انطلاق جيدة. فإذا كان هدفنا أن يعيش الرجال والنساء على قدم المساواة في المجتمع، أي أن ينشأ مجتمع يجعل ذلك ممكناً ومرغوباً، فسوف نحتاج أن نرحّب بالتواجد السياسي لنِسويات يَعتبرن أنفسهنّ مبعوثات جماعتهنّ ضعيفة التمثيل.

مَن النِسويات؟ هنّ النساء الواعيات لانتمائهنّ إلى جماعة من الدرجة الثانية ولا يحاولنَ أن يتملّصنَ منها كأفراد. واللواتي يتضامنّ مع بنات جنسهنّ، ولا يقبلنَ ببداهة الأولويات والنسب وقواعد اللعبة التي تحددها الجماعة الأخرى، ولا يسمحنَ باستخدامهنّ من قبل الحزب السياسي الذي يكتفي بالكلمات دون الأفعال. واللواتي يعتبرنَ السياسة وسيلةً مفتوحة لخلق فرص متساوية لنصف البشر، ويدركنَ أنه لطالما تمّ تناسي مصالح بنات جنسهنّ في خطط المستقبل الإصلاحية أو الثورية، فيطالبنَ بإعادة التفكير بذلك. واللواتي يقلنَ لأنفسهنّ حين يلاحظنَ استغلال النساء: إلى متى نسمح بفعل ذلك بنا؟ ويدركنَ أنهن سوف يبقين أشخاصاً من الدرجة الثانية في السياسة. ذلك أن شيئاً قد تغير منذ أن دخلت روزا لوكسمبورغ مكاتب الاشتراكيين في ألمانيا، غير أنه لا علاقة لأنديرا غاندي وجولدا مائير بالنسوية.

لن يَكنّ من الدرجة الثانية فحسب، وإنما مدعاة للاستهزاء أيضاً. فهناك مواطنو الدرجة الثانية النبلاء، أي البروليتاريا والسود، الذين يصلحون دائماً كمادة للفكاهة. وهكذا استطاع عضو مجلس الشيوخ الأميركي سميث أن يقدم مقطعاً ترفيهياً على شكل طلب تعديل لقانون المناهضة للعنصرية الجنسية.  وكذلك فعل رئيس وزرائنا بيسهوفل حين أعلن عن تنصيب امرأة في حكومته.  فالسياسة هي ملعب الرجال، أي أنها منطقة تسمح لهم بتبادل النكات والتغامز فوق رؤوس النساء. ذلك أن العبيد لا يملكون عيوناً وآذاناً. إن النِسويات يواجهن كل تلك الأمور برأس مرفوع، ويتجرأنَ، حسب تعبير سارتر، أن يكنّ حقيقيات.

نحتاج إذن إلى الترحيب بهؤلاء النِسويات. هذا يعني أن يُمنَحنَ المساحة المادية والنفسية. أولاً، النفسية من خلال توقع المبادرات منهنّ بدلاً من التسامح معها. وثانياً، المادية من خلال منحهنّ الوقت للشغل على رسم السياسات. ما زلنا بأمس الحاجة إلى رسم السياسات، فمن ينقّب في أعمال البرلمان واللجان لن يجد شيئاً يُذكر عن النساء. ومن أجل الشغل على ذلك، نحتاج أن نتنقّل ذهاباً وإياباً بين السياسة والأرض الخلفية. لذلك ينبغي أن يتوافر الوقت للنساء، وهو غير موجود في نظام العموميات الكافي لوحده أن يلتهم أسبوع عمل مزدحم بأكمله. والمحصلة هي تقييد جذري للمهام الأخرى، وحاجة إلى اجتذاب مزيد من المساعدة. المساواة تكلف مالاً.

ولكن ما هي الأرض الخلفية؟ يبدو الجواب للوهلة الأولى هو: النساء الأخريات والحلقات النسائية داخل الحزب. ولكن بعد التمعّن، نرى أن الأمر ليس بتلك البساطة. لأن المرء لا يؤمن بأسطورة العموميات في الحلقات الداخلية للسياسة فقط، بل كذلك في الدوائر النائية. من الأسهل أن تتصنّعي أنك إنسانة لا ينقصها شيء من أن تشعري بصليب يثقل كاهلكِ كامرأة. سياسة النعام تجعل معظم النساء لا يفقهنَ وضعهنّ، وفي حال غضبنَ ذات مرّة، فسوف يسمحن ببرطلتهنّ بالكليشيهات التي تقفل باب النقاش. أما إذا دار الحديث حول فئات النساء الموضوعات في خانة الاتهام، فلا شك أنهنّ يتحملن مغبّة تصرفاتهنّ.

أولى مهام المتنقِّلات ذهاباً وإياباً هي إيقاظ الدوائر النائية، وشرح أن الأمر ليس مجرد أخطاء فردية، وإنما نابع عن بنية خاطئة. وقد تكون المنظمات النسائية التابعة للأحزاب السياسية نافعة في هذا المجال. غير أننا سوف نواجه مشكلة جديدة، لأن تلك المنظمات لم تُؤسَّس من أجل منح مصالح النساء فرصة عبر السياسة، وإنما من أجل منح السياسة فرصة عبر النساء. والمحصلة هي أنها باتت تشكّل ثقافة جانبية لا تصدر الضوضاء ولا تزاول الهوايات المزعجة، كما تفعل أحياناً بعض المنظمات الشبابية على سبيل المثال.

في ظل نظام العموميات، سبق أن علت أصواتٌ اقترحت إلغاء المنظمات النسائية. لا شك أنها محقة إن نظرنا إلى المشاكل العامة، لأن أثر المحرّمات لا ينسحب عليها، أو على الأقل لا ينسحب عليها بالضرورة. حالما نستطيع التخلص من مكانة الأقليات التي نحتلها، سوف تفقد المنظمات النسائية ضرورتها. ولكن إلى ذلك الحين، سوف نبقى بأمس الحاجة إليها.

حين نقرر سلفاً أن نتخذ موقعنا كأقلية كنقطة انطلاق لممارسة السياسة، سوف ينفتح الطريق للوصول إلى النساء والمجموعات النسائية في الأحزاب الأخرى كي نتشارك على صياغة باقة من المطالب ونحدّد الفترة الزمنية لتحقيقها. لأنه مهما كانت الاختلافات الإيديولوجية والسياسية، إلا أنها حسب تجربتي لا تنسحب على هذا المجال.

في حال تحقق ذلك التعاون، سنتمكن من ترجمة الأماني إلى اقتراحات سياسية. لطالما تمّ تجاهل رغبات النساء بحجج من قبيل «غير ممكن!» أو «قولوا لنا كيف نتصرف!». ولطالما قسَم ظهرَنا نقصُ المعرفة الاقتصادية والقانونية والاجتماعية العامة. إلا أن المعرفة يمكن شراؤها أو الحصول عليها مجاناً إن اشتغلنا على مشروع مفيد ومدعوم من قبل عدة جهات تضمن نجاحه. حين تنجح المجموعات النسائية بصياغة باقة مشتركة من المطالب، ستكون الخطوة التالية في الحصول على وعد بالالتزام بها من قبل إدارات الأحزاب، والمطالبة بتشكيل لجنة تنسيق من أجل وضع خطة للسنوات القادمة. وفي حال تشاركت تلك المجموعات على ذلك، وكانت مستعدة أن تستخلص النتائج، فسوف يصعب على أي تحالف حكومي، مهما كان تشكيله، أن يتغاضى عن رغبات النساء. هذا يستوجب العمل الجماعي والمنظّم لتحقيق موقع تفاوضي، كالذي بنتهُ النقابات لنفسها.

هذا ليس مهماً من الناحية السياسية فحسب، وإنما نفسياً أيضاً. لأن دور النساء يملي علينا أن نعتبر السلطة «قذرة» أو أمراً يزاوله الأنذال من قبيل نيكسون وغيره. إن التطلع إلى السلطة لا يليق بالذين يعتقدون أن مهمتهم هي السهر على راحة الآخرين. والمحصلة هي أن تصبح فعّاليتنا السياسية معدومة تماماً، ونتمتم بحذر «أليس من الأفضل أن … »، ونرسل في آخر لحظة تلغراماً، ليَخيب بعد ذلك أملنا لأننا لم ننجح للمرة الألف. أن نمارس السياسة يعني أن نكون قادرات على تشكيل التكتلات، ورسم الاستراتيجيات، والاتفاق الجماعي على العقوبات. وأن نكون مستعدات أن نغضب علناً على حزبنا، ونعلن عند الضرورة أننا سوف نمنح التضامن مع النساء الأولية فوق التضامن مع الحزب. لأن الأحزاب وسيلة من أجل تحقيق مجتمع أكثر عدلاً، وليست هدفاً بحد ذاته.

وتبعاً لحبل الأفكار نفسه، سوف يسترد شعار «تصويت النساء للنساء» رونقه. ففي ظل نظام العموميات، كان قد أصبح مشبوهاً. كما أنه لم يظهر للتصويت على النساء تأثير فعلي، نظراً لعمليات الاحتواء التي يقوم بها ذلك النظام. ولكنه سيغدو مهماً، حالما نكرّس أنفسنا لصناعة النساء السياسيات. وقتئذ قد نحتاج إلى قوة العدد، ولكن إلى ذلك الحين ينبغي أن نستبق الأمور بالتخطيط لحملات نعمل عليها سوية. كما نحتاج إلى الترويج للشعار، لأن الناس ملّوا من «العنصر النسائي»، على الأقل مجازياً.

ليس هذا سوى جزء من القصة. إذ لا يحق للأحزاب السياسية ترك مهمة تحقيق مثُلهم العليا على الكادر النسائي. بل ينبغي أن تسعى جدياً إلى هدم تقسيم الأدوار وتزويد النساء بما يَحتجنه. في السياسة، بالمعنى الضيق، لا ينبغي ترك مجرى الأمور لرب العالمين. فالنساء لن يدخلن البرلمان إن اعتمدنا اللغة البناءة للشخصيات البارزة فقط. لذلك يجب أن يكون الحزب واضحاً بخصوص خطط الرفع التدريجي لمعدل مشاركة النساء في لوائح الترشيح. على الأرجح ألا يبلغ المعدلُ المستهدفُ الربعَ في عام 1974-1975، ولكن في 1978-1979 سيكون ذلك ممكناً. يا ليتنا نباشر منذ الآن بالتناوب على العمل التأسيسي، فيتضمن ما يلي:

-حملة منهجية لتنظيم دورات لإعداد الكوادر الحزبية، والحرص على أن يكون نصف المشاركين من النساء، وعلى أن يتعلمنَ رفع صوتهنّ كما الرجال، ويقيّمنَ جميع الدورات بعد انتهائها (أين هي العقبات، وأين تكمن الفجوات في المعرفة؟). 

 التحضير بشكل جيد لاستبيان رأي بين عضوات الحزب بغية معرفة من أين جاءت مقاومتهنّ للعمل السياسي بالضبط.

لا يُستبعَد أن تشجع نتائج هكذا استبيان على التفكير بنموذج خاص للتنظيم السياسي. ذلك أن التعامل مع الطاقة البشرية والحماسة ما زال حتى الآن مخيباً للآمال وغير فعال. في التنظيم الحالي تسيطر الأقسام والمناطق عبر الهيئات العامة التي يسيرها الشباب الصغار أو الرجال الذين لم يبلغوا سن الرشد حتى الآن، وما زالوا يلعبون لعبة الأولاد المتنافسين على أكبر مساحة ممكنة عبر الكلمات. والمحصلة أن تتحول اللقاءات السياسية إلى لعبة مشاعر تفضي إلى لعبة مشاعر.

وهذا ما يخيب آمال النساء، لأن الكلمات في المجال العام بالنسبة لهنّ عبارة عن مقالة وظيفية نستخدمها من أجل الفضفضة عمّا في قلوبنا. لذلك تختصر النساء عادة أثناء الكلام – في مؤتمرات الرجال غالباً ما يضطر رئيس الجلسة أن يذكّر المتحدثين بالالتزام بالفترة الزمنية المحددة، أما في مؤتمرات النساء فقلما يحتاج الأمر إلى ذلك.

حتى ولو كانت النساء مهتمات بالسياسة، إلا أنهنّ سوف ينزعجنَ من أسلوب الاجتماعات الرسمي. لا يحبذنّها، ولا تبرق عيونهن من شدة الاستمتاع بـ«اللعبة». ولكن هذا ينسحب كذلك على كثير من الرجال الذين بلغوا سن الرشد. هؤلاء رجال يرون السياسة كوسيلة من أجل تغيير العالم أو تحسينه، وهم محقون جزئياً حين يكتشفون أن الأمر لا يحتاج إلى الأحزاب السياسية (إن نفور مجموعات العمل من السياسة الرسمية له دلالات واضحة). هؤلاء رجال يسرّهم أن يتشاركوا في معرفتهم واهتماماتهم، ولكنهم يتضايقون من النقاشات التي يسيطر عليها الغباء والصراخ. يصبر البعض من أجل القضية، إلا أن غالبيتهم تختفي بسرعة. في السياسة سرعان ما تتبدل الشخصيات.

لعل الحلّ يكمن في تركيز تنظيم الحزب على العلائق الأشبه بورشات العمل. ففي ورشات العمل الناجحة ثمة توازن بين الأخذ والعطاء، كما أنها بمثابة النعمة على نوّاب الشعب المضطرين أن يكونوا مُطّلعين على شتى القضايا، والمحتاجين بشدة إلى معلومات وأفكار وناس يساعدونهم على تحقيقها. كذلك هي نعمة على المشاركين الآخرين الذين يرون أنه سوف يتم استخدام أفكارهم.

ومن المهم البحث عن السبل التي سوف تمنح أعضاء الورشات فرصة المشاركة في الترشيحات واتخاذ القرار. حالياً لا تملك الأحزاب تلك الإمكانيات، بل يتم السيطرة عليها من قبل محاضرات الثرثرة. وهذا يعني أن حق التصويت متاح فقط للمشاغبين والقادرين على أن يتحملوا كمية كبيرة من الضيق والملل. أظن أنها عملية فرز خاطئة.

ليوكه سميت.

الجمهورية-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate