إرث الشعوب والزمن السيء.
ماذا قدمت روسيا للعالم غير السلاح والنساء؟”. سيبدو سؤال كهذا عاديًا جدًا ومتوقعًا في ظل الظروف الحالية لو أن من قام بطرحه على وسائل التواصل الاجتماعي شاب سوري نشأ وعيه على حرب طاحنة تدمر بلده وتنغمس بها روسيا إلى الحد الأقصى، وتدعم فيها طرفًا مجرمًا مكنه من استمرار بقائه في حكم سورية حتى اللحظة، يقابله تحوّل روسيا إلى دولة وصاية كاملة تسيطر على كل المرافق الحيوية والمهمة في الإقتصاد والسياسة والجغرافيا السورية، وتحولت سورية معها إلى دولة محتلة لا يملك حاكمها المجرم، الذي شرّد وقتل ملايين من شعبه، شيئًا من أمره، بحيث فَقَد كل هيبة الرئاسة حتى في البروتوكلات الرسمية حينما يتعلق الأمر بروسيا وحكامها؛ ما يؤكد للجميع أن سورية وضعت تحت الوصاية الروسية، وغالبًا بموافقة دولية مضمرة، كون روسيا كانت حتى لحظة إعلانها الحرب على أوكرانيا هي رأس المفاوضات الدولية والضامن الأول في كل ما يتعلق أو يختص بالأزمة السورية وتداعياتها الكثيرة.
سيكون السؤال الأول عاديًا لمن فعلًا لم
يعرف من روسيا سوى حربها في سورية وتداعيات هذه الحرب، أو لمن لم تتح له ظروف حياته أن يقرأ عن تاريخ العالم وحضاراته، بسبب حداثة السن أو عدم توافر الإمكانات أو عدم الاهتمام بشأن كهذا لأسباب عديدة، لكن من قام بطرح السؤال، ويا للعجب، هو إعلامي سوري قديم ومشهور ويملك قدرًا واسعًا من الثقافة والإطلاع، ومؤكد أنه يعرف جيدًا ماذا قدمت روسيا للعالم غير السلاح والنساء، كما يقول.
لم يعد من المفيد النقاش حول استخدام النساء في الخلاف السياسي، ذلك أن هذا أصبح على ما يبدو أمرًا عامًا لا يجدي معه
أي شيء، ولن ينفع معه حتى مناقشته من نفس الخلفية: فمثلًا إن كان الحديث عن تجارة الرقيق فالأوكرانيات أيضًا يتم وضعهن بنفس المكان مع الروسيات، ومن تابع ما اعتقده البعض طرافة على السوشيال ميديا في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا فسوف يرى أنها كلها كانت تتعلق بالنساء الأوكرانيات. من المفيد التذكر أيضًا أنه خلال السنوات العشر الماضية تم استخدام سردية المرأة السورية بطريقة مشابهة في كل الأزمات التي مر بها السوريون، سواء من قبل السوريين أنفسهم أو من قبل (ثقلاء يدعون الطرافة) من ذكور بلاد العرب التي يعيش السوريون فيها، خصوصًا في أوقات الأزمات الداخلية لهذه البلدان حين كان يتم التسليط على الطرف الأضعف لتحميله جزءًا كبيرًا من مسؤولية ما يحدث، ولطالما كان اللاجئون السوريون خلال السنوات العشر الماضية هم الطرف الأضعف، ولطالما كانت النساء السوريات عرضة للاستخدام اللفظي والمادي أحيانًا كثيرة في تلك الأزمات. الأمثلة كثيرة ولا مصلحة لأحد في تذكرها كونها تثير الكثير من الشجون.
يعود تاريخ روسيا إلى عام 862 ميلادي، وكانت مؤلفة من مجموعة من الثقافات البيزنطية والسلافية وقبل أن تصبح الامبراطورية الروسية العظمى مرت بمراحل عديدة من الضعف والنهوض من جديد ظهرت موسكو فيها بوصفها مركزًا سياسيًا وثقافيًا، أما التاريخ الروسي القيصري فقد قدّم للإنسانية في الفلسفة والأدب والموسيقى الكلاسيكية والعمارة والرسم والسينما والرقص (الشعبي والباليه)، ما كان له بالغ الأثر في الثقافة العالمية وفي كتاب الحضارات البشرية، ولم يختلف الأمر كثيرًا مع المرحلة الشيوعية (مرحلة الإتحاد السوفياتي)، بل يمكننا الحديث عن أثر علمي كبير أيضًا يضاف إلى الأثر الثقافي والفكري والفني، وعن تنوع مذهل في الأثر الثقافي نتيجة تنوع الثقافات التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، ولا يمكن الحديث عن ثقافة وفكر بشريين دون أن يكون لروسيا منها مكانة كبيرة، ولا يمكن حصر الثقافة الروسية في إطار واحد فقط، فلا يجوز الحديث عن التنوع الهائل في الأدب الروسي دون الحديث عن التنوع في السينما أو العروض الكلاسيكية الكبرى أو لدى كبار التشكيليين والمصورين الروس، أما العمارة الروسية فتتحدث عنها آلاف الشواهد الباقية كما هي حتى اللحظة في روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق.
كما أن روسيا في كل مراحلها لم تتوقف عن التطور في مختلف المجالات العلمية، جنبًا إلى جنب مع التطور العلمي الغربي، في الطب والذرة والفضاء وعلم الأحياء.. إلخ. يحتاج الحديث عما قدمته روسيا للبشرية والإنسانية صفحات مطولة، وهو بكل الأحوال بات متوافرًا على صفحات الإنترنت منذ زمن طويل ويمكن بجهد بسيط جدًا الإطلاع على هذا التاريخ بدلًا من كتابة كلام مرسل في صفحات العالم الإفتراضي كل ما يفعله أنه يزيد في جهل الدهماء من متابعي هذا العالم الذين لا يحاولون حتى معرفة تاريخ أعدائهم لفهم آلية تفكيرهم ومحاولة استنباط حلول مستقبلية إن كنا فعلًا ندّعي حرصنا على بلادنا وحاضرها ومستقبلها وليس فقط إطلاق تصريحات وتعليقات وشعارات فارغة نتهرب من تحمل نتائجها لاحقًا.
دون شك لقد أثّر الحكم والفكر الشمولي الذي نتج عن مرحلة الشيوعية على الإبداع البشري الروسي، هذا أمر لا جدال فيه، إذ لا إبداع حقيقيًا دون حرية مرافقة، وأثبتت التجربة البشرية أن قيمة الفرد بوصفه ذاته هي الأساس في عملية الخلق والإبداع، لا قيمته بوصفه جزءًا من مجموع على الطريقة البلشفية، فما بالكم إن كان القمع مترافقًا مع هذه الشمولية. ومع الصدمات التي نتجت بعد البريسترويكا نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، كان من الطبيعي أن يصاحب ذلك خلخلة في الثوابت المجتمعية التي سادت لعقود طويلة، نتج عنها أزمات معيشية مهولة، ما زال الشعب الروسي يعاني منها حتى اللحظة، مع حكومات فاسدة أسوأها على الإطلاق حكومة بوتين، كون الأخير يمتلك أوهامه القومية التوسعية مدعمة بترسانة نووية وبحق فيتو امتلكته روسيا زمن الاتحاد السوفياتي كإحدى الدول العظمى في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبمصالح إقتصادية مؤثرة في العلاقات الدولية، ما سمح له أن يلعب ويعربد في بلد مثل سورية كما يشاء، فلم تعد سورية بلدًا مهمًا لأحد، لا هي ولا شعبها، فقدت كل ما كان يميزها أو يجعلها دولة محورية في إقليمها.
لا يظهر من روسيا حاليًا سوى الأسوأ، ليس لأنها لا تملك سوى الأسوأ، بل لأننا نعيش في أوقات زمنية بالغة الخطورة، ولأن ما يريد حكام روسيا استعراضه حاليًا هو القوة
فقط والغرور والعنجهية، ولأن ما يسلط الإعلام الضوء عليه حاليًا هو القوة وضحاياها، أما عن الشعب الروسي فهو مثله مثل باقي الشعوب يدفع أثمانا باهظة جراء سياسة حكامه وحكام العالم والمصالح العسكرية والإقتصادية والسياسية. لا يمكننا كسوريين معرفة إن كان الشعب الروسي موافقًا على احتلال سورية وقصف شعبها من قبل حكومته، هل عرف أحد ذات يوم إن كان السوريون موافقين على دخول جيشهم في الحرب ضد العراق بعد غزو الكويت؟ في الحروب واستعراض القوى لا صوت للشعوب ولا قيمة لها، ولا قيمة للإرث الثقافي والفكري والعلمي الذي يمتلكه بلد ما يعيش تحت رحمة الحرب أو التسلط، لكن واجب من ما زال يمتلك القليل من التوازن والوعي التذكير دائمًا أن الحضارات والإرث البشري لا يقاسان بمقياس الزمن المعاش إن كان الزمن زمن التردي كما هو حاليًا، ذلك أن للشعوب قدرة فائقة على النهوض من جديد يوما ما، ومن ينهض أولًا هي الشعوب التي تتكئ على إرث حضاري وفكري وعلمي ثري، أما معايرة الشعوب في أوقاتها الاستثنائية فهو من شيم المهزومين نفسيًا وأخلاقيًا فقط. لم يعاير الغربيون السوريين في محنتهم، بل فعلها العرب والقريبون، فعلها من هم مهزومون فعلًا، فعلناها نحن السوريين أنفسنا وعايرنا بعضنا البعض في محنتنا وتساءلنا مشمئزين: ماذا قدّم كل طرف منا للبشرية؟
لرشا عمران.
ضفة ثالثة-موقع حزب الحداثة.