اصلاح ديني

في غياب السؤال النظري لدى الإسلام السياسي(١).

لعلّ من أسوأ الثنائيات التي اغتالت التيّارات العربيّة، إسلاميّة وعلمانيّة، هي ثنائيّة النّظر والعمل. ليس لأنّ الثنائيّة زائفة من أساسها، ولكن لأنّها أنتجت تشوّهاً على المستويين لا يمكن ردمه. فمَن يفصل من الإسلاميين -وهم الذين سأركّز عليهم في المقال- بين النّظر والعمل، هو يفعل ذلك ليس لصالح النّظر، إنّما لصالح العمل بالأساس، ومَن ينظر إلى “عمل” الإسلاميين السياسيّ يشهد كمّ الاضطراب والتسرّع وعدم إنزال الأمور منزلتها التي تستحقّ، وبالنّهاية نجد أنّ عملهم مشوش وغير واضح. ويحلو لهم أن يلقوا كلماتٍ لا معنى لها على مَن ينشغلون بالهمّ الفكريّ والأسئلة النّظريّة عن “الدّولة” و”الشريعة” و”القانون”، إلخ؛ مدّعين أنّ ذلك ما هو إلّا ترف فكريّ. إذن، وحسب الإسلاميين، فعلينا أن نكثر من العمل، وأن نبتعد عن النّظر، أو، على الأقلّ، أن نُحجم النّظر لحدوده.

ولأنّ الثورات عموماً هي عمليّة مساءلة دائمة للنّخب الفكريّة وما تطرحه من أجنداتٍ أيديولوجيّة، أخرج الرّبيع العربيّ سؤال الدّولةإلى السّطح، ويمكن القول إنّ سؤال الدّولة هو سؤال المسلمين خروج الاستعمار. وفي الواقع، كانت النّخبة الإسلاميّة، في مصر مثلاً، لا تملك أفقاً نظريّاً ولا موقفاً فكريّاً من موضوعة الدّولة، وتعاملوا مع السّؤال -كعادتهم- من منطلق براجماتيّ محض، وليس على أساسٍ فكريّ فلسفيّ يفهم مفهوم الدّولة التي نعيش تحت سقفها.

النّخبة الإسلاميّة في مصر لا تملك أفقاً نظريّاً ولا موقفاً فكريّاً من موضوعة الدّولة وتعاملوا مع السّؤال من منطلق براجماتيّ وليس فكريّاً

كان أكبر خلطٍ لدى الإسلاميين بالتّحديد هو تصوّر أنّ الدّولة هي كيان يعتمد على الأفراد، وليس كياناً يُبنى تاريخيًّا على أسسٍ معيّنة، ويشكّل هذا الكيان الرأسمال الماديّ كما الرأسمال الرّمزيّ الذي يمدّ هذا الكيان بالشرعيّة حتى ولو كان مستبدًّا. ظنّ الإسلاميّون أنّ الأمر كلّه هو أمر أفرادٍ يحلّون محلّ أفرادٍ آخرين، بحيث تحلّ النخبة الإخوانيّة محلّ النخبة المباركيّة، وبهذا سيصلح الحال وتستقيم الدّولة. وهذا تصوّر، إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ الإسلاميين المصريين مثلاً لم يكن لديهم مفهوم للدّولة، فضلاً عن معرفة طبيعة الدّولة المصريّة منذ محمّد علي مروراً بعبد النّاصر والتحوّل السّاداتيّ في أيديولوجيّتها. ولعلّ نظرتهم للدّولة من هذا المنطلق البراجماتيّ غير الواعي نابعة من الطّابع التلفيقيّ الذي يشكّل أفق تفكيرهم. ويحتاج أمر التلفيق لبيانٍ ولأثره على مخيالهم النظريّ والعمليّ، فدعونا ننظر فيه قليلاً.

يمكن القول إنّ الإسلاميين، بما أنّهم جماعات إصلاحيّة، هم ورثاء بشكل أساسيّ لتلفيقيّة عصر النّهضة العربيّة، فهم ليسوا حقبةً جديدة على المستوى الفكريّ -وإن اختلفوا بالطّبع على المستوى السياسيّ-، إنّما يجسّدون الأزمة ذاتها: الانشطار بين “الإسلاميّ” و”الحديث”، ويتعاملون مع “الحديث” بوصفه وسيلةً يمكن أن يُملأ بالإسلاميّ عن طريق نخبة “خيّرة” تحلّ محل النخبة الفاسدة. لذلك، فرؤيتهم للدّولة هي رؤية نابعة من هذا التلفيق نفسه؛ لأنّ الدّولة لديهم هي وسيلة للأيديولوجيا، وليست كياناً قائماً له أيديولوجيّته الكامنة فيه، وله نظرة إلى العالَم، ويفترضُ ذواتاً معيّنين، ويعيد إنتاجهم.

حاول المفكّر وائل حلاق، في كتابه: “الدّولة المستحيلة”، أن يُنبّه على هذه الإشكالات والمفارقات المتعلّقة بالسؤال الدولة إسلاميًّا. سعى حلّاق لتبيان أنّ الدولة هي كيان يقوم على مقوماتٍ خمس حصرها في: الطبيعة التاريخيّة للدولة، وامتلاك السيادة وميتافيزيقا السيادة، والقيام بعملية التشريع والقانون والعنف، وامتلاكها لجهازٍ بيروقراطيّ عقلانيّ، وهيمنتها الثقافيّة أو تسييسها للثقافي. وقد فهمَ المعلّقون على الكتاب أنّ حلاق يقول باستحالة الدّولة الإسلاميّة، في حين أنّ الدّرس الأهمّ للكتاب هو إعادة النّظر والتفكير في مفهوم الدّولة من حيث هو مفهوم أساسيّ ومرتكز في الفلسفة السياسيّة الحديثة، وقصور الإسلاميين -الداعين إلى دولة “حديثة” و”إسلاميّة-. وهذا التشوّش المفهوميّ لدى الإسلاميين، بل ابتعادهم عن “النظريّ” لأجل “العمليّ” المتوهّم هو ما يُنتج كلّ هذه السياسات البراجماتيّة الظرفيّة التي تُنتَج عفويًّا دون أيّ أبعاد نظريّة تُبنى عليها.

لكريم محمد.

حفريات- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate