الإصلاح الديني.. و الاحتدامات الاجتماعية(٢)
جذور الصدام؟
ما النظام الديني الذي أتحدث عنه؟ كيف يتكون عموماً، ولماذا ينتهي دائماً إلى الصدام بالاجتماع الخام؟
النظام الديني ليس مرادفاً للدين. بل هو من إنتاج التدين، أي من إنتاج الاجتماع. الدين كما أكرر هو المطلق الإلهي المفارق القادم من خارج الاجتماع. والتدين هو ممارسة الدين في العالم أو داخل الاجتماع. تاريخياً، وبفعل الدور الإنشائي للمؤسسة الدينية، كانت ممارسات التدين البشرية، تتراكم فوق فكرة المطلق الإلهية، وتنضم إليها مكونة بنية دينية أوسع من منطوق الفكرة المطلقة، ولكنها تتمتع بالقداسة الإلزامية المؤبدة التي تختص بها هذه الفكرة. هذه البنية الدينية الواسعة هي النظام الديني.
بوجه عام، وعلى المستوى التوحيدي، النظام الديني ينطوي على إشكاليات هيكلية ثلاث، تضمن استمرار التوتر بين الدين والاجتماع الخام، وهي تمثل ما أسميه بالمعضلة النظرية:
1- إشكالية التناقض مع قانون التطور (النظام الديني يطرح مفرداته الاجتماعية الناتجة عن حقب التأسيس، كمطلق يتمتع بإلزامية مؤبدة أي يدخل التشريع والدولة في نطاق الدين).
2- إشكالية التناقض مع قانون التنوع (النظام الديني- كل نظام ديني يطرح ذاته كممثل وحيد للمطلق، أي كمرادف حصري لمعنى الدين وهو ما يجعل من نفي الآخر فكرة مقدسة).
3- إشكالية النص (الرؤية المفهومية: التي ترادف بين النص والمطلق. فهو لا يعترف بأن النص يحتوي إلى جوار المطلق الإلهي (الإيمان والأخلاق)، أحكاماً نسبية خاصة بسياقات إنتاجها التاريخية + مشاكل التوثيق الخاصة بالرواية السنية)
في هذه المعضلة يكمن المشكل، وهي لب المسألة، التي يؤدي تجاهلها إلى استمرار التوتر في علاقة الدين بالاجتماع الخام. ويجعل من محاولات الإصلاح الديني المتعاقبة معالجات جزئية وموقوتة.
المعضلة في الواقع لا ترجع إلى الدين المطلق في ذاته (بحكم طبيعة المطلق كمفارق). بل نشأت من التدين (ممارسات البشر التاريخية تحت اسم الدين) أي أن مصدرها داخل النظام الديني هو كتلة الثقافة التاريخية الملحقة بالدين.
والسؤال الآن هو: ما الذي يمنع من استبعاد هذه الكتلة التاريخية الاجتماعية من دائرة الدين الملزم؟
الذي يمنع من استبعاد هذه الكتلة هو أنها تختبئ داخل النص، أي صارت محصنة بسلطات النص وصلاحياته الإلزامية المقدسة.
محاولات الإصلاح الحديثة والمعاصرة، وقفت جزئياً على كنه المشكل، ولكنها ظلت تحوم حوله دون اقتحام. في الحد الأقصى: تجرأت هذه المحاولات على استبعاد الثقافة التاريخية الممثلة في الفقه الاجتهادي، فقالت بالتفريق بين الفقه والشريعة، الفقه اجتهاد بشري، والشريعة نص. ولكنها تجاهلت أن سؤال التطور لا يطرح ذاته في مواجهة الفقه فحسب، بل في مواجهة الأحكام «المثبتة» أياً كان مصدرها، أي أنه يطرح ذاته في مواجهة النص أيضاً.
بحسب أطر النظام الديني النص يرادف المطلق، دون تفريق في داخله بين ما هو مطلق إلهي ثابت، وما هو اجتماعي بشري، أي نسبي قابل للتغير.
إن التفرقة داخل النص الصحيح بين المطلق الإلهي، والنسبي الاجتماعي، أي بين ما هو دين ثابت، وتدين يجوز تغييره، هي وحدها ما يكفل تحصين الدين ضد نسبية الاجتماع، أي ضد التناقض الحتمي مع الزمن المتغير. وإلا فإن الدين سيظل معرضاً على الدوام لمشكل مصداقية، لأن الواقع المتطور سيكشف لا محالة عن نسبية الاجتماعي وسيفرض عليه التغيير.
إن قانون التطور قانون طبيعي، أي قانون إلهي. ولذلك فالسؤال الواجب طرحه ليس: هل يجوز تغيير التشريعات التي ترجع إلى زمن التأسيس؟
بل هو: هل تغيرت الظروف في الواقع إلى الحد الذي يستدعي التغيير؟
وباستقراء الواقع التاريخي، فإن الظروف لم تكن تنتظرنا حتى نطرح الأسئلة فهي كانت بالفعل تفرض التغيير فرضاً، وكنا دائماً نرصده بعد وقوعه. كيف تطورت بالتوازي مع تطور النظام الاجتماعي؟ لدينا مراحل ثلاث (وهذا عام في جميع الديانات التوحيدية).
* مرحلة الوحي أو مرحلة التأسيس الأولى.
* مرحلة التدوين أو مرحلة التأسيس الثانية.
* مرحلة التجميد التي لا تزال سارية حتى اليوم.
في مرحلة التأسيس: يكون النظام الاجتماعي مطبوعاً بالخصائص العامة لمجتمع صحراوي قبلي بسيط نسبياً، ومحكوم بثقافة البداوة الخشنة ذات الطابع الشفوي. ولكنه عرف أيضاً تسريبات جزئية من ثقافة التوراة، وأعراف ما بين النهرين البابلية والآشورية، إضافة إلى بعض اللمسات الفارسية والبيزنطية. وقد انعكست هذه المؤثرات البيئية على النص التأسيسي ذاته، في بنية التصور اللاهوتي، وفي الخيارات الطقوسية، والتشريعية.
في مرحلة التدوين: كان حضور الدين قد أحدث حركة توتير عالية في عوامل الاجتماع المحلية والإقليمية. شهد المجتمع العربي عملية تقليب واسعة النطاق في مكوناته القبلية. ومع نشوء الدولة، وبروز قريش كقوة سياسية مهيمنة، عبرت اجتماعيات الغزو العربية عن ذاتها في حروب الفتح، التي أطلقت العنان لغرائز الحرب، وعجلت باندماج القبائل في مشروع الدولة قبل اندماجها في مشروع وروح الدين، وفي هذا السياق تفجر الصراع على السلطة، ليتحول في مناخ الشحن الديني إلى صراع مذهبي، فرض التعددية السنية، الشيعية، الإباضية.
نحن هنا أمام تطورات ثلاثة كبرى في النظام الاجتماعي: الأول هو تبلور الدولة: الذي سيطبع الإسلام بطابع اجتماعي صريح. والثاني هو الفتوح العسكرية، التي جلبت تعددية ديموجرافية مؤثرة. والثالث يتمثل في الصراع على السلطة، الذي أفرز تعددية سياسية تحولت إلى التعددية المذهبية المعروفة.
ولكن فيما كانت هذه التطورات تظهر تباعاً، كان النظام الديني في مرحلة التكون. وقد ظل في هذه المرحلة حتى نهاية عصر التدوين، أي عصر التأسيس الثاني. في غضون ذلك كان النص التأسيسي (القرآن) قد أغلق، ولكن «النص» السني كان لا يزال مفتوحاً (كتب الصحاح والسنن والمسانيد) وهو ما سهل تداخل الفقه مع النص، وفتح الباب واسعاً أمام المؤثرات البيئية الجديدة لتدخل في بنية النص من خلال التنصيص، أي الوضع.
لقد كان على النص بعد إغلاقه بفترة وجيزة أن يواجه محيطاً اجتماعياً أوسع: مؤثرات اجتماعية أكثر تنوعاً، وأسرع إيقاعاً، إلى الحد الذي سيفرض على النص أن يعود فيفتح أبوابه من جديد أمام التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي تريد – الآن – أن تعبر عن ذاتها تعبيراً دينياً.
في السياق الإسلامي عبرت حالة التدين القصوى عن ذاتها باستحداث «نصين» كاملين كل منهما أكبر حجماً من القرآن، ومكافئ له في الحجية.
الأول: مجموعة الروايات الآحادية التي ستعرف سنياً بالأحاديث النبوية. والثاني: مجموعة الروايات التي أسندها الشيعة إلى أئمة أهل البيت. وإضافة إلى هذين النصين الكبيرين، وبالتركيب عليهما تكونت منظومتان مذهبيتان كبريان كل منهما تقوم على ترسانة منظمة من علوم التفسير، والكلام، والفقه وأصول الفقه. وهنا كان النظام الديني قد اكتمل بصيغته المذهبية المعروفة.
إذن النظام الديني الإسلامي اكتمل في لحظة فوران اجتماعي سياسي متوترة، وقد ترجم هذه اللحظة وحنطها.
لفترة طويلة لاحقة على عصر التدوين، ورغم التمدد الجغرافي للاسلام عبر الشرق الأوسط بكامله، ظلت حركة التطور الاجتماعي بوجه عام قريبة من خصائص الاجتماع الذي أفرز النظام الديني في حقبتي التأسيس: البنى الاقتصادية ظلت غالباً رعوية أو ريعية – والبنى الاجتماعية ظلت قبلية – عشائرية – والبنى العقلية ظلت أسيرة لنمط التفكير اليوناني السابق على التجربة.
ولذلك فإن النظام الاجتماعي ظل متناغماً في المجمل مع النظام الديني. واستطاع هذا النظام الأخير، استيعاب التطورات الاجتماعية الجزئية من داخل آلياته التقليدية (في الكلام – الفقه – أصول الفقه).
لعبد الكوتد يسن.
ثقافات- موقع حزب الحداثة.