حداثة و ديمقراطية

نماذج تنموية معاصرة سنغافورة نموذجا (٣).

معدل النمو الإقتصادي السنوي
مرت سنغافورة بالعديد من الصدمات الاقتصادية بدءًا من السبعينيات وحتى الأزمة الأسيوية التي بدأت في يوليو 1997، تبعها انهيار حاد في الأسواق المالية للدول الآسيوية خاصة النمور الآسيوية، إلا أن الاقتصاد السنغافوري استطاع تخطي هذه الأزمة التي أطاحت بمعدلات النمو ليصل إلى 0,6 في العام 2009، إلا أن هذه المعدلات ارتفعت بعدها لتصل إلى 3,6% في العام2017. وبذلك تكون حكومة “لي كوان” قد نجحت في تحقيق معدلات نمو مرتفعة وجمح معدلات البطالة التي وصلت في العام 2013 إلى 2%، وبمتوسط دخل للفرد يتجاوز الـ80 ألف دولار في العام 2014.
التجارة الدولية واللوجستيات
تلعب سنغافورة دورًا تاريخيًا بارزًا في منظومة التجارة العالمية واللوجستيات بما يماثل دولتي بنما ومصر، فبجانب دورها في تجمع الآسيان(APEC) الذي كانت من الدول المؤسسة له وعضويتها في منظمة التعاون الاقتصادي للآسيا باسيفيك ومجموعة (الآسيان + 3) ومجموعة شرق آسيا، إلا أنها تملك موانئ جوية وبحرية ساعدتها في تحقيق 21 مليار دولار سنويًا كعائدات للخدمات المقدمة في موانئها في مطلع الألفية الثالثة، وساهم قطاع الملاحة بنسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي وتوفير 170,000 وظيفة للمواطنين المحليين.
وتضم المدينة الميناء الأشهر في آسيا “ميناء سنغافورة” ، كما أنها تحوي 4 محطات لمناولة الحاويات بطاقة إجمالية تصل إلى 20 مليون حاوية حجمها 20 قدمًا سنويًا نتيجة استخدام أحدث المعدات والتدريب المستمر والمكثف للعنصر البشري، وهي تستقبل نحو 70% من تجارة الحاويات في العالم.
ويقوم الميناء بدور كبير ومهم في اقتصاد سنغافورة، إذ تمر به خُمس حاويات الشحن العالمية وخاصة شاحنات إمداد النفط، ويتبادل الميناء سفن البضائع مع 600 ميناء في 123 دولة حول العالم، حيث وصل الى الميناء حوالي 1,15 مليار طن من البضائع في عام 2005، هذا بخلاف القيام بدور الترانزيت في تزويد السفن المارة بالوقود، وقد اعتبر ميناء سنغافورة فى عام 2011 أكثر الموانئ العالمية ازدحامًا. هذا إلى جانب موانئها الجوية حيث تصنف الخطوط السنغافورية كأحد أفضل الخطوط في العالم، واستطاعت سنغافورة أن تجعل من خطوطها ومطارها مجال استقطاب للربط بين الشرق والغرب وأستراليا وأمريكا الجنوبية والشمالية.
التطوير التعليمي والصحي
التعليم
استفاد “لي كوان” من تجربة الدراسة في المملكة المتحدة, وتعد الخطوة الأولى التي انطلق منها هي إيجاد نظام تعليمي متميز وقوي في محاوره المختلفة: المنهج, المعلم, المكان, الأسرة, الإدارة, ثم الطالب كمستفيد من هذا الربط التعليمي المتميز والمتقن.
وقد شكل التعليم المفتاح الحقيقي للانتقال للعالم الأول والمنافسة الاقتصادية العالمية من خلال الاستثمار الحقيقي في العنصر أو الموارد البشرية, بحيث مكن سنغافورة من استقطاب كبرى الشركات العالمية للعمل فيها نظرًا لحسن تعليم وتدريب وانضباط السنغافوريين رجالاً ونساء.
في العام 1968 لم تخرج الجامعات أي مهندس، أما حاليًا فهي تخرج نحو 20 ألف مهندس سنويًا، إلى جانب المئات من المعاهد الفنية والمهنية المتطورة.
فالتعليم بكامله من المرحلة التمهيدية وحتى الجامعية باللغة الانجليزية, واللغة الرسمية للدولة هي اللغة الانجليزية, وتبقى اللغة الثانية خيارأ لكل فئة من فئات الشعب.
الصحة
استطاعت سنغافورة ترسيخ نظام صحي شبه متكامل, حيث تتمتع العناية الصحية بمستويات متقدمة, فهناك طبيب لكل 837  مواطناً، وسرير في مستشفى حكومي لكل 269 مواطنًا.
 علاوة على ذلك، طبقت الحكومة إبان خطتها التنموية سياسات رقابية دقيقة على التناسل السكاني لتكون الزيادة في عدد السكان الحالي بنسبة لا تتجاوز 2٪ كأقصى حد للنسل، نظرًا للمخاوف من صغر مساحة الدولة وزيادة أعداد العمالة الأجنبية، لكنها انتهجت سياسات سكانية مغايرة مؤخرًا بتشجيع المواطنين على إنجاب مزيد من الأطفال، حيث ارتفع عدد سكان سنغافورة بنسبة 1,2% خلال العام الماضي في أبطأ وتيرة له منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه تقليص عدد العمالة الأجنبية، وبلغ إجمالي عدد سكان سنغافورة 5,54 مليون حتى يونيو 2015.
معالجة مشكلة الفقر والبطالة
كان أكثر من ثُلثي سكان سنغافورة يعيشون في أحياء فقيرة، تفتقر الى الصرف الصحي، والبنية التحتية المناسبة، وإمدادات كافية من الماء، إلا أنها بفضل سياستها المحكمة في إدارة مواردها المحدودة استطاعت التغلب على هذه الأزمات لاحقًا.
الإنفاق العسكري وبناء الجيش
وكانت الدولة الحديثة الاستقلال حينها تواجه ثلاثة تحديات رئيسة.
الأول: انتزاع الاعتراف الدولي بسنغافورة وقبولها بشكل رسمي في الأمم المتحدة.
الثاني: بناء جيش عصري قوي يضمن الحفاظ على الأمن والقانون.
الثالث: وهو الأكثر أهمية وصعوبة فيتمثل في بناء اقتصاد وطني قوي في بلد صغير يفتقر إلى الثروات الطبيعية, وكل ذلك دون المساس بالطبيعة الديمقراطية البرلمانية للدولة.
وجدت سنغافورة نفسها في مأزق استراتيجي عندما قررت بريطانيا إنهاء وجودها العسكري عام 1971 وإغلاق ثكنتها الكبرى في البلاد، واحتج “لي كوان” على ما قررته بريطانيا والمخالف لتعهداتها السابقة، وهدد باستدعاء اليابان لسد الفجوة العسكرية، غير أنه رضخ بعد ذلك للأمر الواقع وقرر الاعتماد على قدراته الذاتية، حيث عمل على تنفيذ خيارات سياسية واقتصادية صعبة تقطع الخضوع للدعم الأجنبي، وتعتمد ركائز التنمية المحلية كوسيلة لتحقيق التطور المطلوب.
واستطاعت هذه الدولة الصغيرة وبالاستعانة بالعديد من الخبرات العسكرية الدولية تكوين الجيش السنغافوري المكون من القوات البرية والبحرية والجوية، والقائد الأعلى لهذه القوات هو رئيس الجمهورية السنغافوري مع وجود وزير للدفاع, ويبلغ عدد هذه القوات مع الزامية التجنيد لأبناء الدولة71,600 فرداً.
ارتفع إنفاق سنغافورة على التسليح بنسبة 4% سنويًا ليصل إلى 12,3 مليار دولار سنغافوري في العام  2009 أي ما يوازي 3,35% من إجمالي الناتج المحلي مقابل 10,7 مليار دولار سنغافوري  في العام 2008، رغم الأزمة المالية العالمية التي كان لها تأثير على معدلات النمو في سنغافورة, لكن هذا يؤثر على مجريات التنمية الاقتصادية كدول أخرى مثل كوريا الشمالية.
مكافحة الفساد
في مجال مكافحة الفساد، تم إنشاء جهاز خاص بالتحقيق في قضايا الفساد ومكافحتها ومُنح هذا الجهاز كافة الصلاحيات في التحقيق والاعتقال واستدعاء الشهود، بالإضافة إلى صلاحية الاطلاع على الحسابات البنكية والذمم المالية الخاصة بالمتهمين بشبه الفساد وكل أفراد عائلتهم أيضا. ويعد القضاء النزيه الذي تم تشكيله الركيزة الأساسية والقوة الداعمة التي اعتمد عليها في القضاء على الفساد، مما ساعده على تطبيق هذه القوانين والسياسات بنزاهة ومصداقية وحزم، وهذا ما جعل نزاهة وشفافية القضاء مثالا يحتذى به عالميا، وباعتراف المفوضية الدولية للقضاء.
وبقي أخيرا الحديث عن الإعلام، فقد تمتع الإعلام بالاستقلالية والحرية، وأعطي الصلاحيات المطلقة للنقد والكتابة والنشر عن الحكومة وشخصياتها بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه، وكان التعامل مع وسائل الإعلام مبنيا على قاعدة النزاهة والشفافية. فمرونة قيادات الحزب الحاكم ونزاهتهم ألهمتهم الثقة بالنفس وعدم الخوف من السلطة الرابعة. ولكن هذا التعامل كان يتسم أيضا بالحزم والمحاسبة من قبل الحكومة. فطالما وقف كوان أمام القضاء رافعاً القضايا على وسائل إعلامية اتهمته بدون أدلة وبدون حجج، وكسب هذه القضايا.
وبهذا يكون كوان يو وحزبه من حوله قد نجحوا في خلق بيئة مجتمعية مدنية تتأخر فيها المصالح الفردية لحساب المصالح العامة، وتتغلب فيها النزعة الوطنية على النزعة العرقية والطائفية والدينية، ويتساوى فيها الحاكم والمحكوم أمام القضاء. وهو ما جعل من سنغافورة أرضاً خصبة للاستثمارات الأجنبية والتبادلات التجارية.
الصعوبات التي واجهة خطة التنمية في سنغافورة
المدة الطويلة التي استغرقتها الخطة للتمكن من تغيير سلوك الشعب.
غلاء المعيشة: فهي مرتفعة للغاية في مدينة سنغافورة، وقد وضعتها مجلة Economist  على قمة مؤشر تكاليف المعيشة في العالم. بالاضافة الى غلاء ايجار الشقق (4-7) الاف دولار، وغلاء اسعار السيارات، لكن الحكومة انشأت مواصلات عامة رخيصة.
على صعيد الزراعة لم تسمح مساحة سنغافورة القليلة وندرة المياه من تطوير الانتاج الزراعي، وهي تستورد 93% من استهلاكها الغذائي من الخارج، وهذا ما جعلها عرضة لاضطراب امدادات الغذاء والاسعار.
الدروس المستفادة من هذه التجربة التنموية الفريدة
1ـ الاهتمام بالتسليح لا يتعارض مع التنمية
ان الإنفاق العسكرى الكبير نسبيًا لم يعق سنغافورة عن تحقيق تنمية مستدامة بالاستثمار في قطاع التعليم وتنمية الصناعات التكنولوجية، ومن المهم أن يكون هناك توازن بين الإنفاق العسكري والاستثمار في التنمية المستدامة.
2ـ مبدأ التجربة والخطأ في تطبيق السياسات الاقتصادية
استطاع “لي كوان” وحكومته باحترافية تجريب العديد من الحلول لأزمات سنغافورة الوجودية من نقص الموارد والمياه وصغر المساحة والبطالة من خلال تنفيذ السياسات الاقتصادية وإعادة تقييم آثارها والرجوع عنها أو تعديلها إذا لم تتوافق هذه الآثار مع النتائج المرجوة سلفًا من هذه السياسات.
3ـ الاضطرابات السياسية الإقليمية لا تتعارض مع التنمية
سنغافورة ليست منعزلة عن مشاكل إقليمها، حيث ولدت من رحم مشكلة إقليمية أخرجتها من التحالف مع ماليزيا على خلفية تهديدات من إندونيسيا وتعصبات عرقية بين مواطنيها،لكن سنغافورة استطاعت أن توازن بين إدارة أجندتها الإقليمية والنهوض باقتصادها المحلي.
4ـ الإستفادة من الموقع الجغرافي
إستفادت سنغافورة من موقعها الجغرافي وموانئها المحلية في الربط بين التجارة الدولية من آسيا واستراليا الى اوروبا, ومن تقديم خدمات متكاملة لنقل الحاويات عبر مرافئها وتحقيق اقصى العائدات, وكذلك إستفادت من مطارها الدولي الذي يؤمن خدمات الملاحة الجوية من صيانة الطائرات ومواصلة الرحلات للعديد من شركات الطيران العالمية. وبلغ عدد المسافرين 33290544 مسافراً في عام 2016(3).
5ـ تحقيق مزيد من العدالة والوفاق المجتمعي
نجحت سنغافورة في احتواء زمام العديد من الأزمات الداخلية ذات الطابع العرقي، إلا أنه بمبدأ مساواة الفرص والاهتمام بالتعليم استطاعت زرع هوية وطنية بداخل هذا التجانس الاجتماعى يعطى لابنائها بعيدة تمامأ عنأصولهم العرقية والاثنية.
وحاليا تعد دولة سنغافورة من الدول المتقدمة جدا بنسبة بطالة 1% , جواز سفر السنغافوري من أغلى جوازات السفر , واصبح متوسط دخل الفرد الان 85000 دولار امريكي سنويا ,. ما يوازي حوالي 7000 دولار امريكي شهريا  , الناتج القومي 300 مليار دولار امريكي ل 6 مليون نسمة , رئيسة دولة سنغافورة امرأة اسمها حليمة يعقوب , متزوجة من رجل ماليزي من اصل يمني , منذ توليها الحكم للان زاد دخل سنغافورة 2 ترليون دولار امريكي , انجزت ما يقارب 10000 مشروع عملاق , نسبة الفساد الان صفر , شطبت جميع الضرائب على المنتجات السنغافورية , ليصبح زيادة الدخل القومي 5 ترليون فائض .

من هنا يتبن لنا نموذجا لدولة تتشابه في اغلب صفاتها ” بالكيان اللبناني “, من حيث المساحة الجغرافية, والموقع الجيوبولوتيك, وعدد السكان, وبدل التنوع الديموغرافي الاثني والعرقي, تنوع ديني طائفي, مع قلة الموارد الطبيعية , لما يمكن ان تصبح دولة مثل لبنان في عداد الدول المتقدمة , اذا توافرت لدى السلطة الحاكمة ارادة التنمية والنمو والازدهار, والتغلب على المحاصاصات الطائفية, والفساد وسوء الادارة ,والاستقلالية السياسية.
بالاستفادة من موقعه الجغرافي بغض النظر عن الاضطرابات السياسية المحيطة به , في تحقيق العدالة الاجتماعية, والوفاق المجتمعي, ووضع سياسات اقتصادية منتجة وسياسات مالية وضرائبية عادلة تراعي الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل , ونظام قضائي مستقل وشفاف , والاهتمام بالسياسات التربوية والتعليمية من خلال وضع خطط للتعليم الموجه ( أكاديمي ومهني ) بناء لاحتياجات التنيمية الاقتصادية, مع عدم اغفال الخطط الاسكانية في دعم الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل من الشعب اللبناني .

ليحيى دايخ.

مركز بتحث للدراسات الفلسطينية و الاستراتيجية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate