حداثة و ديمقراطية

نماذج تنموية معاصرة سنغافورة نموذجا(١).

أثبتت تجربة سنغافورة أن المساحة ليست عاملاً هامًا فى نهضة الدول، حيث نجحت في أقل من أربعة عقود بدءًا من الستينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة في تحقيق قفزة تنموية شاملة، فتلك الدولة الحديثة التي تبلغ مساحتها قرابة 648 كم2 ، وعدد سكانها يبلغ ٥٫472,301 مليون نسمة فقط بما يعادل كثافة سكانية حوالي 6000 شخص كل كيلومتر واحد, شهدت فى تحولاً كبيرًا من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ٥٠٠ دولار، الى بلد متقدم أغلب شعبه متعلم ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن ٧٠ ألف دولار، فعندما يزيد دخل الفرد ١٤٠ ضعفًا فى غضون ٥٠ سنة، فهذا إنجاز يستحق الدراسة عن كثب لاستنباط مواضع القوة الحقيقية لهذه التجربة وكيفية الاستفادة منها.


الديموغرافيا والموارد الطبيعية
تمتاز سنغافورة بتوليفة عرقية يطغى عليها العرق الصيني الذي يمثل غالبية السكان 74,3% بجانب أعراق أخرى كالهنود 9% والماليزيين 13,4%، واخرين 3,2% كما أنها تضم خليطًا سكانيًا متنافرًا من الرحالة من الدول المجاورة لها مثل الصين وماليزيا والهند والعديد من الأقليات الآسيوية والأوروبية، استطاعوا جميعأ التعايش في سلم رغم اختلافاتهم العرقية والدينية، وذلك لأن الدولة سعت لإيجاد هوية واحدة استطاعت ان تجمع الكل.
سنغافورة كدولة تندرج ضمن الدول الفقيرة في الموارد الطبيعة (بترول، معادن)،فهي أرض لا يتوافر فيها أي نوع من المصادر الطبيعية التي يمكن الاعتماد عليها لتطويرها, لكن ذلك لم يعق خطواتها الطموحة نحو التنمية بقيادة رئيس وزرائها “لي كوان يو”، فاستطاعت أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالي ولوجيستي عالمي، والتركيز على الصناعات التكنولوجية، مما أدى إلى زيادة إنتاجية ودخل الفرد بشكل كبير لتصنف ضمن النمور الآسيوية الأربعة بجانب كوريا الجنوبية، وتايوان وهونج كونج، حيث 90% من نمو الاقتصاد العالمي يحدث في قارة آسيا.

خريطة سنغفورة

الموقع الجغرافي
تتألف جمهورية سنغافورة من جزيرة رئيسية، بالإضافة إلى 59 جزيرة صغيرة متناثرة عند الطرف الجنوب الشرقي من شبه جزيرة ملقة، أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق (جوهر) عند الشمال، وعن إندونيسيا من الجنوب عبر مضيق سنغافورة، وتبلغ مساحتها الإجمالية 648 كم2، وهي ذات موقع استراتيجي حيوي باعتبارها صلة وصل بحرية بين المحيط الهندي غربًا وبحر الصين شرقًا. أما مدينة سنغافورة، القائمة عند الطرف الجنوب الشرقي للجزيرة فهي واحدة من أهم المراكز التجارية في جنوب شرقي آسيا، وهي تعتمد على مياه ستة من الأنهار الصغيرة تستخدم أيضًا في نقل البضائع.وبرزت أهميتها اللوجستية عندما أقامت شركة الهند الشرقية التابعة للإمبراطورية البريطانية أحد الموانئ بها عام 1819، في نطاق التوسع الأوروبي في آسيا من أجل الأسواق والموارد الطبيعية. وفي أواخر الستينيات عندما بدأت شمس الإمبراطورية البريطانية في الأفول تم تقليص القواعد العسكرية البريطانية، بما في ذلك قواعدها في سنغافورة، وخلال هذه الفترة كانت قد بدأت المطالبه المحلية باستقلال سنغافورة، وأعلنت الاستقلال عن بريطانيا من طرف واحد في أغسطس عام 1963.

الإستقلال والقرار السياسي
 وكانت الشرائح التي طالبت بالاستقلال مكونة من المثقفين الذين تعلموا في الجامعات البريطانية ومجموعة من اليساريين من المتعلمين في الصين وغيرهم، واشتركت هذه الشرائح في توجهها الاشتراكي، ومنها تأسس حزب العمل الاشتراكي عام 1954، وحاز على الأغلبية البرلمانية عام 1959 والذي سبقه الاستفتاء على انضمام سنغافورة إلى ماليزيا عام 1953.
غير أنه في 9 أغسطس 1965 صوت البرلمان الماليزي بالأغلبية على طرد سنغافورة من الاتحاد بسبب العديد من الاختلافات الأيديولوجية، ثم أعلن البرلمان السنغافوري الانفصال وإعلان جمهورية سنغافورة البرلمانية المستقلة بعدها بعدة ساعات(1)، حيث اصبح “يوسف بن إسحاق” أول رئيس لها، و” لي كوان يو” أول رئيس وزراء.
من الصعب الانخراط في فهم التجربة السنغافورية بدون التعرف على قائد هذه النهضة الاقتصادية والاجتماعية ورئيس وزرائها على مدار ثلاثة عقود “لي كوان يو”.
وفي إطار توثيق هذه الرحلة التي يصفها “لي كوان” بأنها رحلة وطن بأكمله وليست تجربة شخصية، أصدر كتابه في عام 2000 بعنوان “من العالم الثالث إلى الأول.. قصة سنغافورة”، والذي يعتد به حتى الآن كمصدر مهم في توثيق الخطوات التي اتخذتها هذه الأمة نحو التقدم والتنمية. كان “لي كوان” قد تلقي تعليمه الجامعي في جامعة كامبريدج ببريطانيا في القانون، ثم عاد إلى سنغافورة وعمل محاميًا لعدة سنوات، بعدها أسس حزب “العمل الشعبي” في منتصف الخمسينيات، ثم فاز الحزب بانتخابات رئاسة سنغافورة عام 1959، وعين رئيسًا للوزراء وعمره 35 عامًا، وبعد 6 سنوات أعلن “لي كوان” استقلال سنغافورة عن ماليزيا، واستمراره في منصبه كأول رئيس وزراء في جمهورية سنغافورة بعد الاستقلال، واستمر بعد ذلك لمدة 25 عامًا رئيسًا في منصبه كانت خلالها سياسة البلاد الخارجية هي الحياد وعدم الانحياز، وهي سياسة شبيهة بسياسة سويسرا، مع الاهتمام بالجانب العسكري والأمن القومي والاقتصاد وقضايا المجتمع السنغافوري إلى حد سواء.
وعندما انفصلت سنغافورة عام 1965 عن ماليزيا لم تكن تملك من الموارد الطبيعية ورأس المال ما يمكنها من التأسيس لنهضتها، إلا أن “لي كوان” بذل العديد من المحاولات للاعتماد على التصنيع التكنولوجي والسياحة واللوجستيات واستقطاب الاستثمارات الأجنبية في هذه المجالات التي كانت تبحث عن عمالة رخيصة وقرب من الأسواق، خاصة أن هذه الاستثمارات لم تكن مرغوبة في تلك الفترة من قبل الدول المحيطة بسنغافورة كالصين والهند وإندونيسيا، نظرًا لتوجهاتها السياسية المعادية للرأسمالية بوجه عام، مما أتاح لسنغافورة فرصة ذهبية احسنت الاستفادة منها، ونجحت في تحقيق قفزة تنموية انعكست على معدلات دخل الفرد السنوي لتزداد من 500 دولار عند الاستقلال إلى أكثر من70 ألف دولار في بداية الألفية الثالثة.

العوامل الاقتصادية
وجدت سنغافورة نفسها بعد انسحاب القوات البريطانية وخروجها من اتحاد ماليزيا تواجه جيرانها كإندونيسيا وماليزيا وهونج كونج والصين وتدخل معهم في مضمار المنافسة الصناعية والتجارية، بل والعسكرية من أجل الحفاظ على أمن أراضيها وردع أي محاولات لانتزاع حرية قراراتها من قبل الدول المحيطة بها. وكانت أكثر مهام “لي كوان يو” إلحاحًا تتمثل في توفير فرص عمل مستقرة لأبناء شعبه بعد الاستقلال، نظرًا لنسب البطالة المرتفعة حينها والتي قدرت بـ10%، بيد أنه كان يؤمن بضرورة تحقيق “مجتمع العدالة الاجتماعية وليس الرعاية الاجتماعية”.
ولذلك، سعى إلى الاهتمام بالعديد من المجالات وهي على النحو التالي:
التنمية في القطاع السياحة
فقد كان قطاع السياحة في مطلع الستينيات هو المسلك الأول أمام متخذي القرار في سنغافورة لإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل، حيث كان يوفر فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية لابتلاع حجم البطالة المرتفع، خاصة مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظف ما بين (40 إلى 50) ألف عامل محلي، رغم نجاح العديد من الإصلاحات الإدارية والمالية ومحاربة الفساد، وتدارك العجز المالي للحكومة، إلا أن هذه الجهود كانت غير كافية.
التنمية في القطاع الصناعة
فكان المسلك الثاني هو قطاع الصناعة، إذ تم إنشاء المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية في البداية وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهروحرارية يصل إنتاجها إلى حوالي 51,6بليون كيلو واط ساعة في عام 2016 بينما بلغ إستهلاكها 48,63 بليون كيلو واط ساعة(2)، وقد أقنع “لي كوان” البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني. وفى هذه الأثناء ضاعفت سنغافورة من جهودها وقامت بتحسين بيئة العمل وأممت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقص في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة أو خطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لاسيما بعد ظهور أسواق تجارية منافسة ومجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الترانزستور.
ولتعزيز القطاع الصناعي تم تأسيس مجلس التنمية الاقتصادي في الستينيات والذي ساهم مباشرة في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة تم إشغالها بأفضل المهارات والقدرات المتوافرة محليًا بعد تدريب العمالة، ويخلو هذا المجلس من أي توجيه أو سيطرة حكومية، فهو مكون من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية، واتخاذ قرارات تنموية بناء على مدى الاقتصادية، ورؤاها بعيدة المدى.

ليحيى دايخ.

مركز باحث للدراسات الفلسطينية و الاستراتيجية- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate