المرأة بين مطرقة التقاليد وسندان التنميط (٢)
ثانياً: تنميط المرأة في المجتمعات العربية
إن الصورة الشعبية للمرأة العربية، منذ تكونها جنيناً في رحم أمها حتى موتها، محاطة بجملة من العادات والأمثال التي تعزز الصورة النمطية لها، وسنعرج سريعاً على بعض نماذج تلك الصورة.
فالأم الحامل بالولد يحلو وجهها، ولا تطرأ تغييرات على ملامحها، بينما الحمل بالبنت يجعل الوجه: الشفاه، الأنف تحديداً متضخمة، ما يضفي على ملامحها بشاعة. وبالطبع، لا ننسى نصيب البنت من الأحلام؛ فالمرأة إذا حلمت بأنها ولدت بنتاً، فذلك يدل على الفتنة واللهو في الحياة الدنيا. أما إذا حلمت بأنها ولدت ولداً، فإنها ستتخلص من همٍّ يقضّ حياتها الواقعية.
وعندما تأتي البنت إلى الدنيا، تبدأ عملية تنميطها وتقييدها ضمن أدوار محددة؛ فغالباً ما تحبس البنت مع أمها لمساعدتها في شؤون المنزل وتربية أخواتها وإخوتها، خاصة في الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بينما الأولاد، في مثل هذه السن، يلعبون ويمارسون نشاطاتهم الترفيهية بشكل أكثر حرية.
وهذا ما ينتقل تماماً إلى الكتاب المدرسي، فمقرر القراءة في المراحل الابتدائية كلها تجمع على صورة واحدة للمرأة، وتغذي عقل الطفل: فهي الفتاة المطيعة، الأم، الزوجة، الممرضة، الفلاحة، الشهيدة في سبيل الوطن. وذلك كله، يقدم المرأة بوصفها نموذجاً للعطاء اللامحدود والتضحية والتفاني، لا مواطنة تملك استقلاليتها التامة ومشاريعها الخاصة.
إن الرؤية حيال وضع المرأة في مجتمعنا تتسم بالازدواجية والتناقض؛ فهي من جهة أولى بنت تحمل شرف العائلة وتمثل عرض الأب والأخ، وهي أيضاً أمٌ تصل إلى مرتبة القداسة من حيث إنها مصدر للحنان والحب والعطاء، ورمز للعفة والشرف والطهر، ومن جهة ثانية هي كائن ينقصه العقل والإدراك، كما أنها رمز للعيب والضعف والعورة (والمقصود من العورة هنا المفهوم المشوّه عن المقصود القرآني)، لذلك لا بد أن تظل تحت حراسة مشددة، وإلا فإنها ستغدو موضوعاً للغواية والشر والخداع.
تنميط المرأة في التعليم والعمل
يوجه الأهل عادة فتياتهم لدراسة الاختصاصات التي، كما يُعتقد، أنها تتفق وطبيعتها الأنثوية أو رسالتها الأمومية، بل إن شرائح من النساء المثقفات يعززن هذه الصورة النمطية.
كما يرسخ في عقلية شريحة كبيرة من النساء همُّ العثور على رجل حياتها؛ فبمجرد الزواج، مهما بلغت الفتاة من تفوق أو تحصيل علمي، سرعان ما تنهي حياتها العلمية والمهنية. ونظراً لسيطرة هذه الفكرة، غالباً ما تصاب المرأة التي تخطت سن 30 بالعديد من الضغوط النفسية، وتأخذ بالتخبط والقلق بسبب الخوف من أن يفوتها قطار الزواج، وتقل فرصها في الحصول على الرجل أو إنجاب الأطفال.
نمطية في القوانين
من المعلوم أن وضع المرأة في القوانين العربية جد معقد ومتشعب، فتنحدر حالة المرأة من الناحية الحقوقية، كلما ابتعدنا عن المدن الكبيرة واقتربنا من الريف، حيث المرأة على صعيد المواطنة محرومة من حقوقها الإنسانية والقانونية، وعلى صعيد الفاعلية هي غائبة عن صنع القرارات وسنّ القوانين. ولم تختلف الصورة النمطية للمرأة كثيراً في تلك القوانين؛ فهي بشكل عام تعتبرها فاقدة الأهلية في التصرف بملكيتها وأموالها، أو حتى أنها في غالب الأوقات لا تملك حق اختيار الزوج أو حق الطلاق… كما يسوّغ للرجل حق الطلاق بحجة أن عقله وسلوكه أقرب إلى الحكمة والتروي. بينما يطلب من المرأة إذا ما طالبت بالطلاق إثبات الضرر الحادث عند استمرار الحياة الزوجية، والتنازل عن قدر من المال، مؤخر الصداق/المهر، وغالباً ما يملك الرجل من الوسائل الكثيرة، ليبتز بها المرأة ويجعلها تعفيه حتى من النفقة، وذلك كله تحت غطاء القانون والشرع!
ومن مفارقات القوانين العربية ما حدث في نظام القذافي؛ ففي حين يؤكد القانون على أن المرأة أنثى لا غير، وأنها ذات طبيعة بيولوجية مختلفة عن الذكر، وأن على الأنثى أن تتعلم الأعمال التي تناسب طبيعتها الأنثوية كالحياكة والطهي والتمريض والطب وإيلاء عملها كأم المكانة الأولى، إلا أنه لم يمنعها من تولي أمور الاستخبار العسكري، “فالمحافظة على عفة المرأة لا يتعارض مع تلبية رغباتها في تعلم الفنون العسكرية” (الكتاب الأخضر)، وهذا ما يعطينا مثالاً على أن عمل المرأة ودورها في المجتمع الذي يعزز غالباً بالقانون خاضع لظروف مختلفة، كما هو الحال في مثال ليبيا الأيديولوجيا الثورية المتمثلة في حشد كافة أفراد المجتمع للدفاع عن السلطة الحاكمة في ذلك الوطن!
نمطية في الإعلام المرئي والمقروء
المرأة كائن مستهلِك ومُستَهلَك في وسائل الإعلام، تستعرض نفسها من خلال ملبسها وحليها وزينتها وقدرتها المالية، ومن جهة أخرى هي سلعة، شيء يستخدم في الإعلانات كموضوع لترويج المنتجات الاستهلاكية، جسد يتم حشد كل الطاقات والإمكانات لإظهار مفاتنه وجماله؛ فنجد الاهتمام الشديد بالأزياء واتباع الموضة وفنون الماكياج والعناية بالجسد. وهذه الإعلانات بالطبع تحاكي الطبقات الغنية، وإلى حد ما الوسطى، مما يعزز أيضاً التفاوت الطبقي بين النساء، ونادراً ما نشاهد إعلاناً يحاكي المرأة الريفية أو الفلاحة، إلا من خلال أدوات التنظيف المنزلية وغيرها…
أما الصورة الغالبة في القصص والروايات، فهي صورة المرأة التي تولي وجودها في المنزل أهمية كبيرة على حساب حياتها الشخصية أو طموحها، ما يضع مفهوم التضحية في المقام الأول. ويجري التلميح دوماً إلى أن خروجها إلى العمل ناجم عن العوز الاقتصادي فقط، دون الإشارة إلى ما يمكن أن تحرزه المرأة من نضج عقلي أو اكتساب للخبرة الاجتماعية من جراء خروجها، أو ما قد تقدمه من قيم إيجابية وثقافة توعوية والنهوض بمجتمعها.
اغتراب الكتابة مرآة اغتراب المرأة
لما تكرست مفاهيم التبعية والخضوع والطاعة العمياء لكل من المرأة والرجل، أصبح كلاهما مقهوراً في مجتمعه، هذه التبعية ظهرت في مجالات الحياة والثقافة كافة، ولم يُستثن الأدب من هذه المنظومة. مع ذلك، لا بد أن نعترف بفضل بعض النسوة اللائي برزن بوصفهن أديبات مرموقات، ووفقن إلى حد ما في تشخيص جوانب من مجتمعهن المتخلف والتركيز على: العادات الموروثة، وحياة الأسرة العربية، ونظرة المجتمع إلى البنت، والعلاقة بين المرأة والرجل. كما أنهن عملن على توظيف الأدب للاهتمام بالقضايا الوطنية في مواجهة الاحتلال، والنضال من أجل الوطن، والحرب والسلم، بالإضافة إلى القضايا الكبرى كحقوق الإنسان، واغترابه، وبؤسه…إلا أن أغلب أديباتنا – دون قصد التعميم بتاتاً- لم يولين الاهتمام بواقع النساء الأخريات وظروف معيشتهن، والتوصل حقاً إلى عمق عوامل تخلف المرأة العربية، بل إن أغلب كتاباتهن كانت لوصف تجاربهن وحياتهن الخاصة، باعتبارهن متمردات أو متحررات.
إن أساس اغتراب المرأة عن ذاتها يعود في المقام الأول، إلى خضوعها للرقابة الداخلية، ولا تلبث أن تأخذ بعين الاعتبار كل المحرمات، فتبقى تتحايل على النص
دون الدخول مباشرة إلى جوهر المشكلة. فضلاً عن ذلك، فهي مغتربة أصلاً عن مجتمعها، الذي يشكل الرقابة الخارجية. وتأثير الرقابة الداخلية والخارجية عليها كفيل في حد ذاته، بأن يبعدها عن الصدق والتجرد، ويتضح ذلك جلياً عندما ترسم لنفسها صورة ما تحب أن تكونها، مما يعبر عن محاولتها للهيمنة على الواقع، وعلى شروط حياتها، ولو على مستوى الخيال، من خلال هيمنتها على النص في مقابل الهيمنة الفعلية للمنظومة المستبدة على الواقع.
وخير دليل على سيطرة النظام الأبوي في عالم الكتابة النسوية، وجود نمطين تتبعهما المرأة؛ الأول: عندما تكتب بضمير المتكلم الرجل، في محاولة للتخلص من خصوصيتها وهويتها الأنثوية. ومن هنا، يحدث ما يسمى بالاستلاب اللغوي عند المرأة الكاتبة، حيث غيبت تأنيث اللغة، بل هناك العديد من الكاتبات اللائي يكرسنّ ذكورية الكتابة واللغة والتاريخ، ولم يستطعن الخروج عن هذا النمط من الكتابة، فعلى سبيل المثال، تقول سعاد الصباح في كتابها (والورود… تعرف الغضب): “هل تستطيع امرأة… في زمن الإحباط والكآبة… أن تدعي الكتابة… وكل شيء حولها مذكر… السيف في قاموسنا مذكر… والفكر في تاريخنا مذكر… والشعر في آدابنا مذكر… والقمر الجميل في سمائنا مذكر…”.
والنمط الثاني: أولئك اللائي غيّبهن هذا النظام، وجعلهن مغتربات عن ساحة الإبداع. أولئك اللائي يكررن عبارات من مثل “المجتمع الذكوري”، “التسلط الأبوي”، “المرأة مغلوب على أمرها” عند تحدثهن عن غياب الحركة الإبداعية بين النساء العربيات. وعبارة “المرأة مغلوب على أمرها” مغلوطة في الأصل تماماً، بالنسبة إلى المثقفات أو الكاتبات اللائي ينتمين في الغالب إلى الطبقة البرجوازية، وصحيحة تماماً، في الطبقات الفقيرة والوسطى المسحوقة، وقد بدأنا نشهد فئة جديدة من تلك النساء الكاتبات اللواتي ما زلن أسيرات فكرة القهر والتبعية، حتى وإن كنّ متحررات إلى أكبر حد.
إن أغلب الكاتبات العربيات من الطبقة البرجوازية اللواتي لم تقلقهن الماديات، ومعظم دعواتهن للحرية تأخذ شكلاً مادياً أحادياً، فبالجسد وحده تدخل المرأة الكاتبة عالم الحرية من أوسع أبوابها.
أما الكاتبة الاجتماعية أو المهتمة بشؤون المرأة، فإنها تركز على الجانب الأحادي لمشكلة تخلف المرأة وتدني مكانتها، فتحلل صراعات المجتمع العربي (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) من وجهة نظر الرجل نفسه، كما يقدمها هو عن نفسه وعن المرأة. وبالتالي تكرر المرأة نظريات الرجل، ومن ثم تعيد طرح نموذج المرأة المسلوبة، وكأني بالمرأة الكاتبة، تنتظر الرجل الكاتب أن يعيد قراءة التاريخ وكتابته، وتصوير الواقع بشكل مختلف عن فكرة النظام الأبوي المتسلط، ليبسط لها النظريات والآراء التي تعلن عن بداية طور جديد في المجتمع العربي (إن كان هناك من جديد!).
ختاماً، مع الأُفُق الإيجابية المفتوحة، وإن كانت لازالت خجولة إلى الآن، المرافقة لانتفاضات الشعوب العربية والمطالبة في الأساس بالكرامة والحرية والعدل والتخلص من قيم الاستبداد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أقول إن قضية المشاركة الفاعلة للمرأة على كافة الأصعدة التنموية، تتعلق بادئ الأمر بالحرية والحقوق الإنسانية، وحرية التعبير التي تؤهل المرأة امتلاك الحق في المشاركة الفاعلة في سن القوانين وصنع القرار، وألا تكون رهناً لوظائف تتعلق بحاجات بنية المجتمع التي تمثل الوعي العام بالمرأة كأنثى فقط، والاعتماد دوماً على مبدأ تكافؤ الفرص ليس فقط بين المرأة والرجل، بل بين المرأة والمرأة أيضاً، وألا نكتفي بالمطالبة بالحقوق التقليدية، فزيادة الوعي السياسي للمرأة مثلاً يخلصها من الكسل الفكري، ويجعلها تحيا القضايا المصيرية التي تعاني منها أمتها، بل والعالم أجمع.
إن تحرر المرأة العربية يجب أن يُفهم أولاً، على أنه تحرر من الاغتراب والازدواجية والاستلاب والحالة اللاإنسانية التي يحياها المجتمع العربي أجمع.
لشيرين محمود دقوري.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.