اصلاح ديني

غياب المؤسسة الدينية في الاسلامية ( ٣).

ثالثاً: المؤسسة المسيحية

المسيحية –التي تبلورت كتطور عن اللاهوت العبري بعد انتقالها إلى الجغرافيا الهيلينية الأوسع– بدأت كديانة كهنوتية تدار من داخل المعبد عبر هيئة متخصصة لها صلاحيات التواصل مع الإله، كما في سائر السياقات الدينية المجاورة. بالطبع، ومع تطور آليات التنظير (اليونانية أساساً) ستظهر تأصيلات أكثر تجريداً وأقل تاريخانية لمفهوم الكنيسة ودورها في العملية الدينية، ولكن هذه التأصيلات لم تغير من طبيعتها كمؤسسة تختص دون غيرها، كما في الديانات القديمة، بالتواصل مع الوحي الإلهي.

الرب الذي كان يبدو في العهد القديم قريباً جداً من البشر (ممثلين في الشعب العبري) ومنغمساً إلى أقصى حد في تفاصيل التاريخ، نزل بنفسه إلى العالم (في هذا الشعب بالذات) وكشف عن ذاته في شخص المسيح، فصار المسيح “هو وسيط الوحي وموضوعه في آن واحد”. لم يعد ثمة حاجة إلى الأنبياء، فوظيفتهم كانت تنحصر في تعريف الأمة العبرية بالإله الأب الوحيد الحي تمهيداً لمجيء المخلص الموعود، وبمجيئه تم الوحي واكتمل، “فالعهد الجديد نهائي لا يزول أبداً”، ولن يرجع أي وحي “علني”، وبشكل حصري أوكلت إلى الكنيسة مهمة تفسير الكتاب باسم يسوع المسيح.

لكن سلطة الكنيسة لا تنحصر في مهمة التفسير، بل تتجاوزها إلى صلاحيات إنشائية على مستوى اللاهوت والتشريع. فالكنيسة “لا تنهل اليقين عن محتويات الوحي كلها من الكتاب المقدس وحده، بل أيضاً من التقليد المقدس الذي ورثته عن الرسل”، وهي في الحالتين ودائماً مؤيدة بإلهام الروح القدس”. (الدستور العقائدي حول الوحي الإلهي –مجمع الفاتيكان الثاني 1962-1965).

من حيث المبدأ كان ظهور هيئة منظمة تمثل الديانة الناشئة واقعة مفهومة في إطار الثقافة الدينية السائدة، وخصوصا الثقافة اليهودية التي انشقت عنها. كان الهيكل نموذجاً قريباً وموازياً لنماذج المعابد الوثنية الشائعة في المحيط الروماني المتوسطي. وكانت الحركة المسيحية تعمل في سياقات جدلية عنيفة في مواجهة أطراف يهودية ووثنية متعددة، وساعدت سياسات الاضطهاد الرومانية على تنشيط حاجاتها التنظيمية المبكرة.

قبل نهاية القرن الثاني كانت الحركة المسيحية قد أفرزت بالفعل كياناً إدارياً شبه منظم، بمسميات وظيفية مرتبة لإدارة النشاط المسيحي المتعاظم، وتمثيل ديانته الجديدة، لكن هذا الكيان –ولكي يتحول إلى مؤسسة نهائية راسخة- كان بحاجة إلى التطورات السياسية والاجتماعية التي انتهت بتحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع.

في المرحلة المبكرة لعبت الكنيسة دوراً تأسيسياً معروفاً في بناء المسيحية (صياغة اللاهوت النيقاوي الذي يمثل رؤية بولس، وفرضه كقانون إيمان حصري بإنشاء النص المسيحي الرسمي الذي يتضمن الأناجيل الأربعة بشكل انتقائي من بين الكتابات المسيحية المتعددة في القرن الرابع، واستبقاء الأسفار اليهودية كجزء من الكتاب المقدس، وهي خطوة ضرورية لفهم وتكريس سلطة الأناجيل، ولكنها أسهمت في تثبيت الديانة اليهودية، وتمديد حضورها، على الرغم من عوامل التعرية السياسية والاجتماعية المتعاقبة.

وبامتداد العصور الوسطى فرضت الكنيسة حضورها السياسي والتشريعي مقابل الدولة، وفي المجال الخاص، وكرست هيمنة صريحة للدين على مفردات الثقافة والاجتماع العام.

مع المسيحية اكتمل مفهوم المؤسسة الدينية بخصائصه الكلاسيكية في نموذج الكنيسة الكاثوليكية: استقلال كامل عن الدولة، مع تبلور فكرة التمثيل الحصري للديانة، وحراسة اللاهوت، التي كرست طابعها الشمولي التسلطي، وأسفرت عن نتائج سياسية وثقافية واجتماعية فادحة، تظهر بشكل واضح في سلسلة الحروب المذهبية، ومن خلال محاكم التفتيش التي ظلت لعدة قرون تعاقب بالموت على التفكير خارج إطار الكنيسة.

في واقع الأمر، جسدت الكنيسة الكاثوليكية، بشكل مثالي، خصائص الدور السلبي الذي لعبته المؤسسة الدينية عبر تاريخ التدين الطويل: فرض التنميط الجمعي للدين وتحويله عن مساره الطبيعي الذي ينبع من الذات ويستجيب لقانون التعدد، مع تكريس ثقافة التسلط وخلق قابليات دائمة لتوليد العنف.

لكن الكنيسة الكاثوليكية كشفت بعد عصر النهضة، عن دور إيجابي يمكن إسناده إلى المؤسسة الدينية بوصفها الممثل الحصري للديانة، وهو دورها في تنظيم عملية التراجع والانسحاب الجزئي التي اضطرت إليها المسيحية تحت ضغوط التطور الحداثي. الجانب الإيجابي لهذا الدور يظهر بوجه خاص على ضوء المقارنة مع الحالة الإسلامية المعاصرة، التي توشك على مواجهة ضغوط حداثية مماثلة، فيما هي تعاني من فوضى تمثيلية ناجمة عن مشاعية التحدث باسم الديانة، خصوصاً في ظل تفاقم المد الأصولي.

وبشكل نسبي، ساعد حضور المؤسسة، كممثل حصري للديانة، على تقليص حجم الظواهر الأصولية في السياق المسيحي، حيث ظلت الانشقاقات الفرعية تعامل بوصفها حركات هرطقية خارجة عن خطوط رسمية معترف بها من قبل الجمهور.

لعبد الجواد يس.

حفريات- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate