اصلاح ديني

غياب المؤسسة الدينية في الاسلامية (٢).

ثانياً: المؤسسة اليهودية

بالتوافق مع أنماط التدين المجاورة، نشأت اليهودية منذ البداية كديانة كهنوتية ذات طابع طقوسي. وحسب الرواية التوراتية (سفر الخروج 35-40) بدأت مؤسسة الكهنة في عصر موسى، أي قبل دخول كنعان، بأمر إلهي مباشر؛ لم يكتف الرب بتعيين هارون في منصب الكاهن الأكبر وتخصيص المنصب بالوراثة لأبنائه اللاويين، بل وجه بإقامة خيمة مقدسة كمقر (دائم بالمقاييس الصحراوية المتاحة) للكهانة، وأبدى اهتماماً بالتفاصيل، من مواد البناء، وتصميم المبنى، وترتيب محتوياته، إلى صناعة التابوت، والمائدة، ومذبح البخور، ومذبح المحرقة، ومرحضة الاغتسال، وبناء دار خارجية، حتى الثياب الكهنوتية، وصحيفة الإكليل المقدس:

“وكلم الرب موسى قائلاً في الشهر الأول، في اليوم الأول تقيم مسكن خيمة الاجتماع، وتضع فيه تابوت الشهادة، وتستر التابوت بالحجاب، وتدخل المائدة وترتبها، وتدخل المنارة وتصعد سرجها، وتجعل مذبح الذهب للبخور أمام تابوت الشهادة، وتضع سجف الباب للمسكن، وتجعل مذبح المحرقة قدام باب مسكن خيمة الاجتماع (…) وتأخذ دهن المسبحة وتمسح المسكن وكل ما فيه وتقدسه وكل آنية ليكون مقدساً، وتمسح مذبح المحرقة وكل آنيته، وتقدس المذبح ليكون قداس أقداس، وتمسح المرحضة وتقدسها، وتُقدِّم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع وتغسلهم بماء، وتُلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليكهِّن لِي. وتُقدم بنيه وتُلبسهم أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم كي يُكهِّنوا لي، ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتاً أبدياً في أجيالهم” (40/1-15).

يكشف النص عن طبيعة طقوسية كهنوتية فجة تنتمي إلى نسق التفكير الديني التقليدي السائد في الشرق الأدنى القديم، ويكشف من ثم عن أن الديانة العبرية وهي تصدر في بدايتها عن هذا النسق شبه البدائي وتتطور عنه، إنما هي تكرار اعتيادي للتقاليد المعروفة في الديانات المصرية، والآشورية البابلية، والكنعانية الفينيقية التي يحملها الكهنة، وتدار من “المعبد” كمقر مركزي يسكن فيه الإله، أو يأتي كي يتجلى بالقرب منه.

يحتاج الرب إلى طاقم احترافي متخصص لخدمته في مكان محدد خاص، يقوم هذا الطاقم -الذي عليه ارتداء ملابس معينة كزي رسمي– بتقديم الخدمات المطلوبة للرب وفي مقدمتها الأضحيات القربانية، التي بقيت، ضمن شعائر طقوسية أخرى، كشاهد على التوافق مع ميراث التدين “الطبيعي” الأقدم، ويختص الطاقم دون غيره بعملية التواصل مع الإله والتوسط بينه وبين الناس.

يبدو التدين العبري المبكر امتداداً لنسق التدين التقليدي المجاور، وليس إنشاءً مبتدءاً لنسق جديد يولد بغرض التعبير عن الفكرة الإلهية المطلقة كمطلوب في ذاته، كما سيظهر في الطرح النظري المتأخر، الذي يعرض الدين من نقطة نظرية مجردة عن تاريخ التدين.

الممارسات العبرية المبكرة تكشف عن روح طقوسي قرباني اعتيادي، سيتراجع تدريجياً بشكل نسبي لصالح نوع من التجريد التوحيدي خصوصاً في “الكتابات” التي تمثل القسم الأخير من العهد القديم.

ظل الكهنة يقومون على خدمة الطقوس خصوصاً تقديم الأضاحي، ويستطلعون إرادة يهوه من خلال الوسائل القديمة بما في ذلك القرعة (القريبة من الأزلام المعروفة في شبه الجزيرة) والإيفود (ثياب ذات أصل مصري منقول إلى كنعان، توضع على الصور والتماثيل).

فيما يتصل بالعلاقة مع الدولة، يبدو استقلال المؤسسة العبرية مسألة بدهية، فوجود المؤسسة لا يسبق وجود الدولة زمنياً فحسب، بل إن الدولة لم تنشأ أصلاً إلا بتصريح مباشر من قبل المؤسسة؛ ففي قصة الملكية كما يرويها سفر صموئيل الأول: طلب الشعب من صموئيل أن يعين لهم ملكاً، وعلى الرغم من تحذيرات صموئيل للشعب من مغبة الخضوع لسلطة “علمانية” بديلة لسلطة القضاة الثيوقراطية “أبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا، بل يكون علينا ملك فنكون نحن أيضاً مثل سائر الشعوب، ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا، فسمع صموئيل كل كلام الشعب وتكلم به في أذني الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوتهم وملِّك عليهم ملكاً” (8/19-22).

في السياق العبري القديم –حيث يصعب الفصل بين الديني والسياسي– كانت مؤسسة الكهنة قريبة من السلطة السياسية، ولكنها حافظت على حضورها القوي داخل المجتمع في المجالين العام والخاص.

تقليدياً، كانت العملية الدينية تدار وتوجه من قبل مؤسسة الكهنة. وظلت ممارسات التواصل مع الرب تصدر أساساً عن هذه المؤسسة على الرغم من وجود رواة ومتنبئين مستقلين، وعلى الرغم من وجود أنبياء “معارضين” تواصل حضورهم إلى ما بعد تدمير الهيكل والنفي إلى بابل، لقد لعب هؤلاء الأنبياء المعارضون دوراً ملموساً في التراث الأدبي الذي سجله العهد القديم، ولكن الدور الأساسي في بناء الديانة يرجع إلى الكهنة، من خلال الإشراف على عمليات “التنصيص” الرئيسة المتتابعة، من مرحلة الملك يوشيا في القرن السابع (ق.م) حيث ظهر سفر التثنية الذي أعلن عن اكتشافه في المعبد الكاهن الأكبر حليقا، حتى مرحلة التأسيس الختامية في المنفى البابلي وعقب العودة.

بعد انهيار مملكة يهودا تزايدت أهمية الكهنة كممثل وحيد للهوية الوطنية، سواء بين البقية التي استبقها البابليون في يهودا أو بين المنفيين في بابل، حيث سيتحول الكاهن حزقيال إلى نبي ويؤدي بالصفتين معا دوره المعروف في التمهيد لإعادة تأسيس الهيكل، ومن المنفى سيعود عزرا الكاتب وسليل عائلة الكاهن الأكبر هارون، ليضع الصيغة النهائية للديانة كما تبلورت في المنفى تحت ضغوط القهر والأمل في الخلاص.

بعد العودة من النفي لم ينقطع حضور الأنبياء “الكبار”، ولكن سلطة المؤسسة ممثلة في الكاهن العظيم كما تسمية الأسفار المتأخرة ظلت تحتل موقعها المتقدم المكرس من الرب، وظل الأنبياء –الذين يقرون لها بهذا الموقع- بحاجة إليها لتمرير مطالبهم الدينية التي يفترض أنها صادرة عن الرب (راجع احتياج حجي النبي إلى موافقة الكاهن العظيم لإعادة بناء الهيكل (1/1-4)، ثم مكافأة الرب للكاهن العظيم على هذه الموافقة عبر الوحي إلى زكريا النبي: “خذ فضة وذهبا واصنع تيجاناً وضعها على رأس يهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وكلمه قائلاً: هكذا قال رب الجنود هو ذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب، وهو يحمل الجلال، ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهنا على كرسيه” (زكريا 6/9-13).

التطورات اللاحقة أسهمت في تعزيز السلطة الكهنوتية. توزع اليهود على جاليتين رئيستين في محافظة يهودا وبلاد ما بين النهرين، ومع الضغوط اليونانية ثم الرومانية التي انتهت بتدمير الهيكل الثاني سنه 70م تشتت كثير من اليهود في أنحاء العالم الروماني، ولكن سلطة الكهنة ظلت تجاور سلطات الحكم الذاتي في الجاليتين، وامتدت إلى الجاليات اليهودية في الشتات، مؤيدة في الغالب بتصريح رسمي من السلطات المحلية، يمنحها صلاحيات لاهوتيه وتشريعية ذات طابع اجتماعي.

لعبد الجواد يس.

حفريات- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate