اصلاح دينيحداثة و ديمقراطية

الأصولية الداعشية في مرآة المثقفين الفرنسيين.

السؤال المطروح الآن هو التالي: ما رأي مثقفي فرنسا فيما يحصل في بلادهم من أحداث جسام؟ سأقتصر على بعض الأسماء؛ لأن الموضوع شاسع وواسع ويملأ كتابا كاملا بسهولة.
ماذا يقول لوك فيري مثلا؟ يرى أنه من الغباء أن نتهم القتلة الذين يرتكبون التفجيرات بأنهم مرضى نفسانيون كما فعل القضاة الذين أخلوا سراح أحد القتلة قبل فترة قصيرة من ارتكابه الجريمة، بل ونصحوا بمعالجته نفسيا ومتابعته طبيا! وهذه حماقة منقطعة النظير. هذا خطأ قاتل ينبغي تحاشيه بأي شكل؛ فالحقد الديني أو التعصب الأعمى ليس مرضا نفسيا تمكن معالجته عن طريق علماء النفس وأطباء المصحات العقلية. هذا وهم وتضييع وقت. فالشاب الذي «تمرجل» على شيخ عجوز عمره 86 سنة وذبحه لم يكن مريضا عقليا أبدا، وإنما كان في كامل صحته النفسية والعقلية. ولكنه كان مفعما بالحقد الديني على كاهن مسيحي لسبب بسيط هو أنه كافر من وجهة نظره وعدو للإسلام. أو هكذا لقنه شيوخه؛ لأنه هو ربما يجهل كل شيء عن الإسلام. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وإلا كيف يتجرأ على قتل شخص عجوز في عمر جده، أو جد جده وليس والده. كان يكفي أن ينفخ عليه نفخة بسيطة لكي يسقط على الأرض. وعلى أي حال فالداعشيون القتلة ليسوا أقل جنونا من النازيين الذين قتلوا الناس بالملايين، وأحيانا كثيرة على الشبهات. وإنما هم ككل أتباع الآيديولوجيات التوتاليتارية العمياء مفعمون بالحقد على كل من لا يشاطرهم عقيدتهم. وما الحل في رأي لوك فيري؟ الموقف الصارم بلا هوادة ضد الدواعش من جهة، والموقف الأخوي المتضامن مع الجالية المسلمة الكريمة من جهة أخرى. ولكن ينبغي عليها بالمقابل أن تتحرك أكثر لتحييد هؤلاء القتلة الذين يخرجون من أحشائها ويقتلون باسمها، أو باسم معتقدها ودينها. لا ينبغي أن تبقى صامتة أو مكتوفة الأيدي تتفرج؛ فإدانتها الصريحة لهؤلاء المنحرفين الضالين وتبرؤها منهم علنا هو أضعف الإيمان. لكن لنعد إلى مسألة الاضطرابات العقلية. في كل مرة يرتكب أحدهم جريمة نكراء، كما حصل في نيس مثلا، يطلع عليك بعض المثقفين أو أشباه المثقفين لكي يقولوا لك: يا أخي هذا الشخص مجنون. يا أخي لا علاقة للدين بذلك، يا أخي هذه مؤامرة، الخ.. وهم بذلك يريدون صرف الأنظار عن المشكل الأساسي. إنهم يرفضون الاعتراف بالمرض الحقيقي الذي ينخر في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية منذ عقود، بل وقرون: أي منذ أفول العصر الذهبي والدخول في عصر الانحطاط والجمود. ويجن جنونهم إذا ما تحدثت لهم عن إسلام الأنوار، أو عن ضرورة مرور العرب والمسلمين بالمرحلة التنويرية كما حصل للشعوب الأوروبية. كل الثقافة القديمة المهترئة البالية لا تشكل أي مشكلة بالنسبة لهم. كل العفن التاريخي المتراكم لا وجود له في نظرهم. كل الفتاوى التكفيرية التي تدعو علنا إلى ذبح الآخرين على الهوية الطائفية بريئة مما يحصل حاليا في رأيهم. من المسؤول إذن؟ بمثقفين كهؤلاء سنصل إلى حضيض كهذا! لحسن الحظ؛ فإن عبد النور بيدار ليس من هؤلاء الديماغوجيين؛ فهو يقول صراحة ما يلي: «ينبغي على العالم الإسلامي أن يعترف بأن جذور المرض التي تسرق اليوم وجهه موجودة في داخله لا خارجه».
أما الفيلسوف ميشيل أونفري، فيرى أن فرنسا دخلت في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية المقبلة لا محالة. وهي حرب ستخاض بين طرفين اثنين: أتباع النظام الديمقراطي الأنواري من جهة، وأتباع النظام الثيوقراطي الظلامي من جهة أخرى. ونضيف من عندنا: ولكنها لن تكون حربا بين المسلمين ككل من جهة وعددهم خمسة ملايين – والفرنسيين الأصليين ككل من جهة أخرى وعددهم ستون مليون. هذا خطأ قاتل ينبغي تحاشيه بأي شكل. لماذا؟ لأن أتباع الحداثة والأنوار موجودون أيضا داخل الجالية الإسلامية ذاتها، بل وموجودون بكثرة لحسن الحظ. فالنخب العربية والإسلامية المتنورة أصبحت ضخمة في بلاد فولتير وموليير. يضاف إلى ذلك أنه داخل الفرنسيين أنفسهم فإن أعداء الأنوار يشكلون أقلية لا يستهان بها: غلاة اليمين المتطرف. في كل الأحوال، يعترف ميشيل أونفري بأنه سيكون هناك تياران للإسلام في فرنسا: التيار المتزمت الظلامي – والتيار الآخر المضاد له. إسلام الظلمات ضد – إسلام الأنوار؟ ربما. لم لا؟ بل وبالتأكيد. هذا هو أيضا أحد رهانات المستقبل ليس فقط داخل فرنسا، وإنما في العالم العربي أيضا. وهذا هو رأي المفكر الجزائري مالك شبل مؤلف كتاب «من أجل إسلام الأنوار». للأسف توجد في التراث فتاوى تكفيرية وأفكار متطرفة تبرر للدواعش ذبحهم ضحاياهم من الوريد إلى الوريد. وهي فتاوى لبعض شيوخ الظلام مترجمة إلى الفرنسية من قبل جماعات «داعش» وموضوعة على الإنترنت. والذي ذبح الكاهن الفرنسي كان يعتقد أنه يتقرب إلى الله تعالى بذبحه شخصا «كافرا ينجس الأرض بوجوده». في حين أن هذا الكاهن المسكين كان تقيا ورعا، ويفعل الخير من حوله باعتراف الجميع. ولكن لحسن الحظ توجد فتاوى أخرى وآراء رحيمة تمنع ذلك منعا باتا. التراث تراثان يا جماعة! أو وجهان. هذه حقيقة. وابن سينا أو ابن عربي يساوي عندي كل مشايخ التكفير والظلام ماضيا وحاضرا. ولكن المشكلة هي أن الوجه المكفهر لهذا التراث العظيم هو المتغلب منذ نحو الألف سنة: أي منذ إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط. عدنا إلى المشكلة نفسها، إلى نقطة الصفر.. فما العمل إذن؟ ينبغي أن ينتصر يوما ما إسلام الأنوار على إسلام الظلمات. لا يوجد حل آخر. في الحالة الراهنة للأمور فإن إسلام الإخوان الدواعش هو المنتصر وهو المتغلب على برامج التعليم العربية وعقول الشبيبة الإسلامية، ناهيك عن الفضائيات! وناهيك عن أشباه المثقفين العرب الذين يتواطأون مع التيارات التكفيرية والإخوانية من جهة، ثم يتشدقون بالديمقراطية والحرية وثورات الشعوب من جهة أخرى! ومن قلب باريس عاصمة الأنوار العالمية يعتقدون بأن حيلتهم الواهية هذه يمكن أن تنطلي على الناس. لتسقط الأقنعة إذن! شاهت منهم الوجوه.
أما إمام جامع بوردو الشيخ المستنير طارق أوبرو، فيخترع مصطلحا جديدا هو: اللاهوت الوقائي. فما الذي يقصده بذلك؟ إنه يقصد أنه ينبغي على أئمة الجوامع في فرنسا أن يعرفوا كيف يعظون المسلمين ويثقفونهم ويعلمونهم دينهم بشكل صحيح. ينبغي أن يختاروا الآيات والأحاديث والتفاسير التي تتماشى مع العصر، ومع المجتمع الحديث الذي يعيشون فيه. نحن لم نعد في القرون الوسطى، ولا في عصر السلطنة العثمانية، ولا في أيام حسن البنا والإخوان المسلمين! بمعنى آخر ينبغي نشر ثقافة التسامح والتعايش في الجوامع الفرنسية التي يزيد عددها على الألفين وخمسمائة على الأراضي الفرنسية كافة. باختصار شديد: ينبغي تقديم تفسير جديد لهذا الدين الحنيف، تفسير قادر على تحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة. هذا هو معنى اللاهوت الوقائي أو التفسير الوقائي والأنواري للإسلام. وهو الحل الوحيد لمواجهة الإرهابيين الدواعش الذين يعتمدون على مقولات لاهوتية عتيقة بالية: أي فتاوى قروسطية تكفيرية لا تزال تحكم العالمين العربي والإسلامي كليهما حتى الساعة. بمعنى آخر، فإن المشكل الأساسي اليوم هو: مادة التربية الدينية. إنها أخطر من القنبلة الذرية! فإما أن تخرج أجيالا صالحة وإما طالحة، إما عقلاء مستنيرين وإما ظلاميين تكفيريين، إما نخبا رائعة وإما كاميكاز انتحاريين. ولكم الخيار! وبالتالي، فالمعركة أصبحت داخل الإسلام ذاته. وستكون بين لاهوت قديم ضد لاهوت جديد، أو فقه العصور الوسطى – ضد فقه العصور الحديثة. ثم يضع إمام جامع بوردو الكبير يده على الجرح؛ إذ يحمل الطرف الآخر بعض المسؤولية، ويقول: نتغنى بقيم الجمهورية الفرنسية والعلمانية والديمقراطية والأنوار، ولكن ماذا فعلنا ضد الفقر المدقع الذي يصيب الجالية إلى حد كبير، وكذلك البطالة والعطالة وانسداد الآفاق؟ ماذا فعلنا ضد التهميش والاحتقار والإقصاء؟هل تعتقدون ألا علاقة لذلك بما يحصل؟ على هذه الأرضية المدقعة تنمو الأفكار المتطرفة السوداء وتنتعش الدواعش. أخيرا، ينبغي القول بأن جاليتنا في أغلبيتها الساحقة مسالمة طيبة لا تبحث إلا عن الخير لنفسها وللآخرين. وهي جادة، عاملة، مخلصة، صبورة. من يعرف المغاربة جيدا يفهم ما أقول. ولكن هناك أقلية خرجت من أحشائها وقلبت في الجهة الأخرى: جهة التطرف الديني، بل وحتى الانحراف الخلقي والمخدرات والإجرام. كل الذين ارتكبوا التفجيرات الوحشية الأخيرة في فرنسا لهم سوابق إجرامية قبل أن ينتقلوا إلى صفوف «داعش» ويتبركوا ببركتها.. كلهم دون استثناء.
أخيرا، سأقول ما يلي: من الواضح أن العالم العربي، بل والعالم كله انقسم الآن إلى معسكرين اثنين: معسكر التكفيريين الدمويين الذين ينتمون إلى عصور غابرة منقرضة، ومعسكر الآخرين، كل الآخرين الذين يقبلون بأن يعيشوا بسلام مع بعضهم بعضا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم. ولن تنتهي هذه القصة قبل انتصار أحد المعسكرين على الآخر بشكل قاطع ونهائي.

لهاشم صالح.

الشرق الأوسط – موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate