ديمقراطية وتعذيب!
هنالك تناقض كبير في الجمع بين الديمقراطية والتعذيب، والأغرب هو التباهي والتطبيل المزيف، وخداع الجماهير بتلك الديمقراطية الممزوجة بالتعذيب؛ ولهذا فلا يمكن تقبل وجود الديمقراطية وسط أمواج التعذيب والتهميش!
يمكن تعريف الديمقراطية ببساطة بأنها “شكل من أشكال الحكم، ونظام سياسي اجتماعي يوفر لجميع المواطنين المشاركة الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة بواسطة ممثلين منتخبين بحرية كاملة?”.
وفي المقابل، فإن التعذيب كما عرّفه “داريوس رجالي”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ريد بالولايات المتحدة، في كتابه “التعذيب والديمقراطية”، بأنه “أي عمل ينتج عنه ألم، أو عذاب شديد، جسدياً كان أو نفسياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول منه، أو من شخص ثالث على معلومات، أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه، أو يشتبه في أنه ارتكبه”.
ويرى “رجالي” أن “الديمقراطيات تمارس التعذيب لضمان استمرار سيطرتها على المجتمع وتنفيذ سياساتها”!
والصحيح أن المزج بين الديمقراطية والتعذيب يُعدّ تناقضا كبيراً، وقد ظهر هذا التناقض بوضوح في العديد من الأنظمة القائمة على التعذيب حقيقة، والديمقراطية ادعاءً وإعلاماً.
هذه المقدمة تقودنا للحديث عن الديمقراطية الهشة في العراق، وقد سجلت في بلاد الرافدين آلاف الصور المؤلمة والقاسية لجرائم التعذيب المنظمة، التي وصلت لمراحل القتل المباشر وغير المباشر للمعتقلين في السجون الحكومية الرسمية وغير الرسمية.
من المسلمات لدى الأحرار في العالم وجود تعذيب مُنظَّم ضد المعتقلين في العراق (الغالب العام منهم اعتقلوا، بل وصدرت بحقهم أحكام قضائية وهم أبرياء). وقد كنا نأمل أن ظاهرة التعذيب (بعد تسليط الضوء عليها من قبل المنظمات الإنسانية والإعلام) قد خفّت على أقل تقدير، لكن يبدو أن التطورات الميدانية الأخيرة ما زالت ترسم لنا صوراً مرعبة عن التعذيب في العراق، وذلك بإعادة تفعيل مشاهد الرعب والتعذيب ضد المتظاهرين المدنيين العزل في مدن الجنوب، والاعتداء عليهم في ساحات التظاهر باستخدام السلاح الحي، والهِراوات، أو اعتقالهم بحملات ليلية مُنَسَّقة، وهذا الإجراء غير القانوني من المُنذِّرات بالخراب في البلاد.
معلوم أن أبسط صور التعبير عن الحرية والديمقراطية تكون عبر المظاهرات، وهذا ما حاول المواطن العراقي “المُهَمَّش” التعبير عنه في المظاهرات المستمرة منذ أسبوعين في مدن جنوب البلاد؛ احتجاجاً على تردي الخدمات وضياع مستقبل ملايين الشباب، دون وجود أي ضوء في نهاية نفق التعذيب والخراب المستشري في البلاد.
حكومة بغداد واجهت مظاهرات الجنوببالقبضة الحديدية والسلاح الحي، بل إن بعض المواطنين من أهالي البصرة صوروا الموقف بكلمات قليلة، وأكدوا أن” القوات الأمنية تعاملت معنا بشدة لا مثيل لها، وكأن بيننا ثأر ويريدون الانتقام منا”!
حصيلة العنف الحكومي في التعامل مع مظاهرات مدن الجنوب الست وبغداد لم تُحدد بصورة نهائية، وآخر إحصائية شبه رسمية أعلنتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، الخميس، أظهرت أنه “ومن خلال فرق تقصي الحقائق الخاصة بها، وثقت وفاة 12 متظاهراً، وإصابة 195 منهم، واعتقال 302 متظاهر، منهم من اعتقل بدون مذكرات قبض، أو في اعتقالات عشوائية”.
العنف الحكومي يؤكد حقيقة ضرب الديمقراطية وانتهاك الدستور (العراقي) الذي يشير بحسب المادة 37 (أولاً)، إلى أن “حرية الإنسان وكرامته مصونةٌ، ويحرم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، ولا عبرة بأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب”!
هذا الكلام الدستوري المنمق، لا يوجد له أي تفعيل في التعامل الحكومي وأجهزتها الأمنية مع المواطن، بل على خلاف ذلك هنالك انتهاكات كبيرة، وإفراط في استخدام القوة ضد المتظاهرين في مدن الجنوب وبغداد، وهذه ظاهرة تستدعي التوقف والدراسة، وكأننا أمام قوات لا تنتمي للعراق، وهدفها الأول والأخير حماية المسؤول، وليس حماية الإنسان والحريات والحقوق والسيادة!
انتهاكات حكومة بغداد لحرية المواطن، واستخدامها لأساليب تعذيب متنوعة ضد المتظاهرين العزل أدانته العديد من المنظمات، ومنها مركز الرافدين الدولي للعدالة، الذي أكد على “شجب عمليات القتل والقمع الذي تمارسه الحكومة ضد المحتجين في العراق. وحذر السلطات وأجهزتها الأمنيّة، من مغبّة استخدام السلاح ضد المتظاهرين المحتجين، والذي يقع تحت طائلة الجرائم ضد الإنسانية، والذي يجرمه القانون الجنائي الدولي”.
التعذيب لا يمكن أن يكون وسيلة صحية لبناء الدول، والنظام العادل هو السبيل الأرقى لبناء الدولة والإنسان، لأن الإنسان – أي إنسان – لا يمكن إصلاحه بالتعذيب والتهديد، وإنما يتم إصلاح البشرية بالعدل والحكمة والكلام العلمي المدروس الهادف للتعاون من أجل بناء الحياة الإنسانية، وتقوية عوامل البناء والعطاء في المجتمع!
لا يمكنني تصور حال البلاد ومستقبلها حينما يكون المواطن المظلوم أو المعذب بريئاً، أو خرج للتعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه الإنسانية في ظل نظام يدعي الديمقراطية.
لجاسم الشمري.
عربي ٢١- موقع حزب الحداثة.