اصلاح دينيحداثة و ديمقراطية

رسالة في التسامح لجون لوك

ألف هذه الرسالة باللغة اللاتينية الفيلسوف جون لوك(1632ـــ 1704) وقد تم طبعها في هولندا سنة 1689, وترجمت في نفس العام للانجليزية, وبعد طباعتها نفدت في فترة وجيزة, ثم كرر الناشر طباعتها, وترجمها عن اللاتينية مع مقدمة مستفيضة وتعليقات الدكتور عبد الرحمن بدوي. وتتلخص دعوة جون لوك للتسامح بقوله: ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على انسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا يعني أيّ انسان آخر. ان الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأية جماعة، ولا يمكن أي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقاً. ويرجع هذا إلى سببين: 

الأول: هو أن الناس في كل الدول معرضون للخطأ، سواء أكانوا حكّاماً أم كانوا محكومين، علماء أو أساتذة، فليس من المعقول أن يوضع الانسان تحت التوجيه المطلق لأولئك الذين يمكن أن يقعوا في الخطأ في مسألة بهذه الخطورة ـــ الخطورة الأبدية ــــ إنهم إن أساءوا إرشادنا فلن يستطيعوا تعويضنا. 

والثاني: إنه لا فائدة في استعمال القوة لجعل الناس على الجادّة المستقيمة نحو النجاة. ذلك لأنه لا يمكن أيّ إكراه أن يجعل إنساناً يؤمن بضد ما يقتنع به على ضوء عقله واقتناعه… وإن كان قد يحمله على الإقرار باللسان؛ لكن الإقرار باللسان غير المقترن بالإخلاص لن يقدم الإنسان إلى أيّ مكان غير ذلك الذي يتقاسمه مع المنافقين، ولن يفعل شيئاً في عبادة الله لا يحكم ضميره بأنه العبادة التي يتطلبها ويقبلها الله. لهذا لا يجوز إرغام أحد على الدخول في مشاركة يحكم هو في أعماق ضميره بأنها مضادة لما يراه الغرض من الدخول في هذه المشاركة، أي نجاة روحه.

ويمكن ايجاز افكار جون لوك الاساسية الواردة في ثنايا رسالته في التسامح بمفاهيم رئيسية, هي:

1ـــ لابد من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية, وبين مهمة السلطة الدينية, واعتبار الحدود بينهما ثابتة لاتقبل أي تغيير.

2ـــ رعاية نجاة روح كل انسان هي امر موكول اليه هو وحده, ولا يمكن ان يعهد بها الى أية سلطة مدنية أودينية.

3ـــ لكل انسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.

4ـــ حرية الضمير حق طبيعي لكل انسان.

5ـــ يجب الا تتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. ان هذه التهمة لن يكون لها أي مبرر اذا ما قام التسامح, فإن السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو مايعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فإنه متى مازال الاضطهاد واستقر التسامح معهم, زالت أسباب النوازع الى الفتنة والعصيان. فوجود نوازع الفتنة بينهم انما مرجعه الى مايلاقونه من اضطهاد وعذاب.

6ـــ من أسباب التآمر والفتن استبداد الحاكم ومحاباته لأتباعه ولبني دينه. ولو ان الحاكم اتبع النزاهة والإنصاف مع الرعية لما تآمروا عليه. فإن زعم الحاكم انه انما يفعل مايفعل لأن هذا هو ما يقتضيه((الصالح العام)). بينما قال المخالفون ان هذا ليس من الصالح العام. فمن ذا الذي يستطيع ان يفصل في الأمر بينهما ؟

يجيب لوك بأن الله وحده هو الذي يستطيع ان يفصل في هذا الخلاف, لأنه لايوجد على الأرض حكم بين الشعب وبين الحاكم. لهذا يرى لوك ان من حق الأفراد ان يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد السلطة الظالمة.

جون لوك كتب كتاب (رسالة في التسامح) الذي نشر أول مرة باللاتينية عام 1689 وترجم إلى الإنجليزية والفرنسية، وترجمه إلى العربية المرحوم عبدالرحمن بدوي مبكرا، وربما نفدت طبعته اليوم. نحن نتحدث الآن عن أجواء الربع الأخير من القرن السابع عشر الميلادي الذي ظهر فيه الكتاب. وقتها احتدم النقاش بين المدارس المسيحية المختلفة، ووصل الأمر إلى أن تتهم كل طائفة من تلك الطوائف الطائفة الأخرى بالهرطقة والخروج عن الدين القويم، ووصل الأمر إلى الاقتتال الدموي الشرس بين تلك الطوائف. على هذه الخلفية كتب جون لوك رسالته في التسامح، وهو عالم الاجتماع والفيلسوف الذي رأى أن هذا الصراع المذهبي بين الطوائف المسيحية وقتها هو تعبير عن صراع البشر على السلطة ومحاولة احتكار المرجعية، أكثر مما يعبر حسب تعبيره عن (كنيسة المسيح) فالذي يظل يفتقر إلى الرحمة والرأفة والعدالة والمعاملة الحسنة حيال البشر جميعا لا يستكمل الانتماء إلى الدين.
ويسير جون لوك في تأكيد نظريته من فهمه لنصوص الإنجيل في تأكيد التسامح الذي هو صلب الإيمان الحقيقي.
وإذا كان جون لوك قد استوحى رسالته في التسامح من نصوص دينه المسيحي كما فهمه، فليس أكثر من النصوص الدينية الإسلامية في التسامح والحض عليه وتعظيم تأثيره الديني والدنيوي. عدد من الإشارات هنا واجبة التذكير كقوله تعالى (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) أو (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، والكثير من النصوص الماثلة، هكذا وجه الله تعالى نبيه محمداً إلى التسامح وقبول الآخر، تأكيدا للأثر المتميز الذي يتركه التسامح بين الناس ويشيع الألفة في تجميع القلوب، لأنه طريق الإقناع بالحسنى من خلال استخدام العقل الإنساني الحر. ولعل من المفيد أن نذكر أن جون لوك في كتابه (التسامح) ذكر باشمئزاز سلبي ممارسة العنف فما سماه بـ (الميليشيات المسيحية) المدججين بالأسلحة كما قال لهداية الناس، ويحثهم على السير فيما اختطه السيد المسيح ( الذي لم يسلح أصحابه لا بالحديد ولا بالنار ولا بالسيف ولا بالعنف عندما أرسلهم كي يهيبوا بأمم الأرض ويدعوهم إلى الهداية) لا نعرف على وجه اليقين فيما إذا كان جون لوك قد تعرف على فلسفة الدعوة الإسلامية في نبذ العنف واستخدام العقل في الدعوة، فيما ملاحظاته هذه تذكرنا بعد ثلاثة قرون ونصف من نشر تلك الرسالة، بما يدور بين ظهرانينا اليوم، من انتشار العنف الأعمى باسم الدين، وتحليل ما حرم قطعا في قتل النفس دون وجه حق، وتكفير الناس وإخراجهم من الملة، زعما من هؤلاء أنهم بذلك الفعل يدعون إلى الدين الحنيف. يكتب جون لوك قريبا من هذا المفهوم فيقول (إن التسامح حيال أصحاب الآراء الدينية المختلفة أمر يتفق مع العقل، وهو من الوضوح بمكان بحيث إن عجز بعض البشر عن رؤيته، رغم كل هذا الوضوح، أمر أشبه بالفضيحة). 
إن ما انطلق منه جون لوك يصح أن نتمثله اليوم، فالخلاف في ( الأزمنة والأمكنة) هو ليس خلافا يدعو إلى نبذ الآخر في الدين،

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate