الحرية والديمقراطية
ترتبط الحرية بالديمقراطية بعلاقة جدلية، ما يجعل كل منها تؤثر في الأخرى وتتأثر بها بصورة مستمرة؛ إذ فيما تشكل الحرية أهم عناصر الديمقراطية، تشكل الديمقراطية الإطار الذي يحتوي الحرية في داخله ويحميها، ويوفر لها فرص النمو والتطور. وكما أن للحرية أشكالا متعددة وأوجه مختلفة، فإن للديمقراطية نماذج عدة تختلف من بلد لآخر ومن نظام سياسي لآخر، ومن زمن لآخر. ولذلك يمكن القول أنه من الصعب أن تتوفر الحرية بصورها المتعددة في مجتمع إلا ضمن نطاق حكم ديمقراطي، وأن من الأصعب إقامة نظام حكم ديمقراطي تغيب عن سمائه الحرية.
ما هي الحرية؟ الحرية هي أن يكون من حق كل إنسان أن يفكر ويقول ويفعل ما تريد دون خوف من عقاب؛ ولما كان من حق الغير أيضا أن يفكر ويقول ويفعل ما يريد دون خوف من عقاب، فإن الحرية لا يمكن أن تسود إلا حين يتمتع كل فرد في المجتمع بالحرية، بغض النظر عن مستوى التعليم واللون والانتماء الفلسفي والديني.
في ظل نظم الحكم الاستبدادية تنحصر الحرية في شخص الحاكم دون غيره من أفراد المجتمع، إذ يرى الحاكم عادة أن من حقه احتكار صلاحية اتخاذ القرارات الهامة، والتصرف أحيانا على أساس أن من حقه أن يقرر من يحصل على وظيفة حكومية ومن يحرم من وظيفة حكومية، من تتم ترقيته من الموظفين ومن يحرم من الترقية، من يحصل على جنسية الدولة ومن يحرم من الجنسية، وفي بعض الأحيان من يعيش ومن يموت. وفي ظل انظمة الحكم التي تدعي الديمقراطية دون تطبيقها كبعض الدول العربية، فإن الحرية تصبح حكرا على النخبة السياسية والاقتصادية والإعلاماتية التي تتحكم في إدارة شؤون الدولة. إذ فيما تقوم النخبة السياسية بالتحكم في أرزاق الناس والفرص المتاحة لهم، تقوم النخبة الاقتصادية بسرقة أموال الناس بالتواطئ مع النخبة السياسية. أما النخبة الإعلاماتية فتقوم بالعمل على تزييف وعي الشعب، والترويج لنظام الحكم، واقناع الشعوب بأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن من مصلحتهم القبول بواقع حياتهم. أما في ظل نظم الحكم الديمقراطية، فإن الحرية تتوفر لأغلبية أفراد الشعب ولكن ليس لجميعهم، لأن تحكم الشركات التجارية والمنظمات الحزبية والعقائدية في ملكية وسائل الإعلام تحول دون توفر حرية الفكر والرأي للجميع.
الحرية إذن هي شعور بامتلاك حق ذاتي ثمين، وفضاء يتحرك الإنسان فيه أثناء ممارسته لذلك الحق. وما دام كل فضاء تحده أسوار ويسكنه مخلوقات وأشياء كثيرة، فإن حرية كل إنسان لا بد وأن تتوقف عند حدود غيره من تلك المخلوقات والأشياء؛ الأمر الذي يعني أن الحرية محدودة وليست مطلقة. لذلك كلما حصل فرد أو فئة من الناس على المزيد من الحرية كلما ضاق فضاء الحرية المتاح لغير تلك الفئة من أفراد المجتمع. مع هذا علينا أن ندرك أنه لا يمكن أن تكون الحرية مطلقة لأن قيام كل فرد بفعل ما يريد يقود إلى الفوضى واستيلاء القوي على حقوق الضعيف بمن فيها حقه في الحرية.
الحرية متعددة الأوجه والصور، فهناك حرية فكرية، وحرية رأي، وحرية اجتماعية، وحرية سياسية، وحرية اقتصادية، وحرية عبادة وغيرها إلى جانب ذلك، هناك حرية من الظلم والفساد، وحرية من الفقر والحاجة، وحرية من الخوف، وحرية من الاستغلال، وهذه حريات تعكس حقوقا تحتاج لدولة عادلة وقانون يقرها ويحميها. وفي اعتقادنا تشكل حرية الفكر والرأي، وحرية العبادة، والحرية من الفقر والحاجة والجهل، والحرية من التسلط والاستبداد أهم الحريات التي لا يستقيم مجتمع ولا تتحقق المساواة في الحقوق والفرص من دونها.
الحرية التي يتمتع بها كافة أفراد المجتمع ويتقاسمها الناس بالتساوي ليست سوى صورة خيالية لا وجود لها على أرض الواقع، إذ ليس هناك حرية حقيقية لفقير أو ضعيف أو جاهل او مناوئ لفكر النخبة الحاكمة في دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية. ولنأخذ أمريكا على سبيل المثال التي تعتبر قلعة الديمقراطية كما يدعي مثقفوها وساستها ووسائل الإعلام فيها والمعجبون بها. إذ لا توجد اليوم حرية رأي في أمريكا، فحرية الرأي لا تعني أن يكون لك الحق في أن تقول ما تريد أن تقوله من دون خوف، وإنما تحتاج أيضا إلى أن يكون لديك الحق في الوصول إلى فئات الشعب التي ترغب في الوصول إليها، وهذا حق أصبح حكرا على من يملك محطة تلفزيون أو راديو أو جريدة أو مجلة، ومن يحابي أصحاب تلك الوسائل الإعلامية ويتبنى رؤيتهم للأمور العامة؛ أما من هم غير ذلك فليس لهم حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم.
أعلنت امريكا استقلالها في عام 1776 بعد حرب طاحنة ضد بريطانيا، وفي عام 1787 أعلنت دستورها الذي قام على الانتخابات والديمقراطية. لكن المؤسسين الذين قاموا بكتابة الدستور وإقراره كانوا مجموعة من الرجال البيض، ما جعل الدستور ينص على أن حق الانتخاب محصورا في الرجال البيض الذين يملكون عقارات دون غيرهم؛ الأمر الذي جعل من يحق لهم المشاركة في العملية الانتخابية لا يزيد عددهم عن 6 % من سكان أمريكا، كان بعضهم يملك اقطاعيات كبيرة يعيش عليها ويعمل فيها أعداد كبيرة من العبيد من الرجال والنساء. في عام 1807 أصدر الرئيس قرارا بمنع تجارة العبيد عبر الحدود الدولية، لكن القرار سمح بتجارة العبيد داخل البلاد. في عام 1856 تم حذف شرط ملكية العقارات من حق المشاركة في الانتخابات؛ وفي عام 1868 أصبح من حق كل الرجال البيض الحصول على الجنسية الأمريكية. في عام 1920 تم إقرار حق المرأة في الانتخاب، ما يعني أن امريكا الديمقراطية انتظرت أكثر من 140 سنة قبل أن تمنح المرأة حق الانتخاب. في عام 1924 منحت الحكومة سكان امريكا الأصليين حق الحصول على الجنسية الأمركية، وفي عام 1943 منحت المهاجرين من الصين حق الحصول على الجنسية. في عام 1965 تم منح السود حق الانتخاب. وهكذا استكملت المسيرة الديمقراطية الأمريكية رحلتها لتصبح نظاما ديمقراطيا. لكن مع وصول عربة الديمقراطية إلى تلك النقطة كانت العملية الديمقراطية قد أصبحت خاضعة خضوعا شبه تام لأصحاب المال، فيما أصبحت المؤسسة العسكرية والمخابراتية تلعب دورا هاما في سياسة الدولة وتوجهاتها على الساحتين الداخلية والخارجية.
أما في دول أوروبا الغربية فإن حال الديمقراطية ليس بنفس الدرجة من السوء كما هو في أمريكا؛ مع ذلك تعاني الديمقراطية في دول الغرب عامة من ثلاثة مشاكل رئيسية: أولا، عودة التيارات اليمينية المتطرفة التي تقترب في فكرها من النازية إلى ساحة العمل السياسي وتراجع قدرة الأحزاب التقليدية على التعامل معها بحسم بسبب تراجع شعبيتها؛ ثانيا، تراجع حماس عامة الناس للعمل السياسي بسبب فشل السياسة في التعامل مع مشاكل الحياة اليومية بصورة مرضيه، خاصة الاقتصادية منها؛ وثالثا، تدهور قيم العمل وأخلاقياته بسبب اتجاه رجال الأعمال والشركات الكبيرة إلى استغلال الشعوب وتزييف وعيها وتضليلها وتوريط البسطاء من الناس في قروض تستنزف جزءا كبيرا من وقتهم ودخولهم المتواضعة، وسكوت الدولة على تلك التصرفات، ما يجعل الفساد الاقتصادي يتسرب إلى مجال السياسة.
الدستور- موقع حزب الحداثة.