حداثة و ديمقراطية

معوقات الحداثة في العالم العربي

يتلخص جوهر الحداثة في مختلف مراحلها في نتاج ثلاثة عمليات تاريخية‏,‏ عملية تحرير وميلاد الفرد المتحرر من سطوة أنماط التفكير السابقة علي الحداثة‏,‏ 

وعملية انطلاق العقل وتفعيل قدرته علي الشك والنقد والتفكير والابتكار والاكتشاف, أما العملية الثالثة فهي عملية تنظيم الوجود الاجتماعي والإنساني واعتبار ذلك مهمة الفرد والجماعة بعد تحررهما من سطوة أنماط التفكير والقيم ما قبل الحداثية, وبهذا المعني فإن الحداثة في البلدان العربية قد واجهت معوقات بنائية, ظلت معها منقوصة ومعيبة وغير مكتملة.
أحد أهم هذه المعوقات في طريق الحداثة العربية يتمثل في ضغط الماضي علي الحاضر وخاصة الميراث الإسلامي في الانتقال إلي الحداثة, حيث ظل هذا الماضي يمثل في نظر قطاع كبير من النخبة والمواطنين علي حد سواء هو النموذج الذي ينبغي التوجه إليه واستعادته وأنه النموذج الذي ينبغي أن تنتظم في إطاره العقول والجهود في السعي لاستعادته وإعادة بنائه في الواقع المعاصر, أي أن يكون الماضي هو المرجعية التي ينبغي الاحتكام إليها وتقويم الحاضر من خلالها والحكم عليه سلبا أو إيجابا.
ويعود احتفاظ الماضي بسطوته علي الحاضر وقدرته علي تعويق كافة المساعي الفكرية والسياسية والعقلية التي تحاول صياغة النموذج الحداثي إلي أسباب عديدة, من بينها أن طريق العودة إلي الماضي كنموذج واستعادته يمثل نفسيا مصدرا للراحة والخلاص; فهو أي الماضي نموذج عرفناه وخبرناه وتم تجريبه ومن ثم فهو يحظي بدرجة من اليقين والقداسة; لأنه يرتبط بالدين, وذلك بدلا من الولوج إلي عالم الحداثة المجهول واللا يقيني وأن هذه العودة إلي الماضي تكفينا مؤونة التجريب والدخول في مسالك لم نعهدها من قبل ولا نعرف النهايات التي يمكن أن تقودنا إليها, ومن بين هذه الأسباب أيضا التي تجعل للماضي تأثيرا حاسما في موقفنا من الحداثة أن أغلب تيارات ومفكري النهضة في مراحلها المختلفة لم تتفق علي تحديد القيمة النسبية للماضي, بل حاولت الاقتباس والدخول للحداثة من منظور هذا الماضي نفسه عبر تأويل جزء من خطابه وأقواله تلك التي تسوغ الاقتباس والتحديث وهو ما يعني أن الماضي قد أصبح مرجعية الحديث ومصدر شرعيته, ومن ثم فإن التوجه للحداثة شابه تعميق التعلق بالماضي والموروث وليس تحجيمه وهو ما عني في السياق العملي أن الحداثة أصبحت رهنا للماضي والموروث ومحلقة به وامتدادا له, وذلك في أضعف الأحوال يعني التنكر للأصول العقلية والفلسفية والعلمية للحداثة والمصادر المعرفية التي فتحت الطريق أمامها.
أما ثاني هذه المعوقات للحداثة في العالم العربي فهو يرتبط بما سبق حيث أدي إلحاق الحداثة بالماضي وتأسيس شرعية الحداثة من خلال الماضي العربي والموروث العربي وليس من خلال التجديد والمصادر المعرفية والعلمية والفلسفية للحداثة, إلي اعتماد العالم العربي في تطوره علي ما يسمي’ بالحداثة النصفية’ أي تلك الحداثة التي تركز علي الجانب المادي المتمثل في المنتجات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية مع رفض وإنكار وتجاهل المصادر العلمية والقيم الفلسفية والأخلاقية التي مثلت الإطار المرجعي للحداثة المادية ومنتجاتها, ذلك أن منتجات الحداثة لا تنفصل بحال عن قيمها ومعارفها وفلسفتها بل هي تجسيد تطبيقي لهذه القيم والاكتشافات العلمية والتطبيقية التي انخرطت في منظومة الحياة المعاصرة والحديثة.
هذه الازدواجية التي واجهنا بها الحداثة أي الفصل بين منتجات الحداثة وبين مصادرها التكوينية العلمية والفلسفية لا تزال حاكمة في نظرتنا للغرب, ولم نعد بموجبها قادرين علي تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية, أو علي الاعتراف بالجديد الذي يموج به العالم, فكل ما هو جديد من وجهة نظرنا- له أصول ومصادر في تراثنا ومعارفنا المنقولة من الماضي, وقد مثل ذلك في حقيقة الأمر هروبا من الواقع المعاش الذي أضفي إليه التطور العلمي والاجتماعي الحديث, وعدم قدرة علي تفهم آلياته ودينامياته ومرجعياته الفعلية والعلمية, بل والأدهي من ذلك وأمر أننا أصبحنا قادرين علي توظيف منتجات الحداثة بكافة صورها ومظاهرها في معركة استعادة الماضي كنموذج, وكأننا نريد أن نعمق التناقض بين هويتنا وبين الحداثة, والمثل الواضح علي ذلك هو استخدام الجماعات الإسلامية التكفيرية والجهادية والقاعدية تقنيات التفجير عن بعد والعبوات الناسفة في معركتها من أجل استرداد المضي بل صورة محددة من المضي ومشوهة وذلك عبر تقنيات واكتشافات الحداثة.
أما ثالث هذه المعوقات فيتمثل في الاستعلاء علي الحداثة, فالعديد من المواقف والأفكار لدي قطاع من النخبة تذهب في اتجاه أننا السابقون- أي العرب والمسلمون- وأن الغرب والغربيين هم اللاحقون لنا, في إشارة للتقدم المعرفي والعلمي الإسلامي في العصور الوسيطة وإسهامات هذه الحقبة من تاريخنا في حداثة أوروبا ونهضتها وتتجاهل هذه المواقف والأفكار السؤال المهم المتعلق بلماذا توقف الاجتهاد وتعطل العقل العربي والإسلامي عن البناء والتطوير لهذه الإسهامات العلمية والمعرفية والتي تلقفها الأوروبيون وبنوا عليها وأسسوا نموذجا معرفيا وعلميا واسترشاديا جديدا يؤطر البحث والتفكير والابتكار والتجديد وهو ما لم نفعله نحن؟
تنطوي هذه النزعة علي إنكار الجديد وعدم الاعتراف بوجوده, بل وعدم الإقرار أننا أصبحنا في عالم جديد وفضاء جديد مقطوع الصلة بمعارفنا المتوارثة والمحدودة والتي لم نعرف كيف نضعها في سياقها, وكيف نطورها ونحدثها ونبني عليها, بل ذهبنا في عكس الاتجاه; أي المبالغة في أوضاعنا وذواتنا وتضخيم ماضينا ومعارفنا, وهو ما أفضي إلي أننا لم نتعلم بتواضع المعارف الحديثة وأصولها النظرية والمعرفية والعلمية بل غلب علي هذا التعلم الطابع الاستعمالي الأداتي والنفعي, وليس الطابع المعرفي والنظري الذي يذهب إلي أعماق هذه المعارف وطبيعتها المنهجية والعلمية, بل وقفنا عند حدودها الاستعمالية والنفعية والتي بمقدورنا أن نستوردها دون تكبد عناء إنتاجها, وتملك مصادر إنتاجها المعرفية.
وأخيرا وليس آخرا فإنه يندرج في إطار معوقات الحداثة في العالم العربي والإسلامي الصعوبات التي تواجه عملية ميلاد الفرد وبناء الشخصية الفردية, المتحررة بين سطوة التقليد والإتباع الاجتماعية والفكرية, الفرد الساعي إلي تحقيق ذاته وإطلاق عقله وتفكيره للفهم والإدراك والابتكار, والذي يسعي إلي رفض ونقد ما آل إليه من معارف وأفكار, بهدف التأكد من صحتها ومطابقتها لمنهج التفكير العلمي النقدي, وتوافقها مع شروط ومتطلبات بناء شخصيته وتطوير قدراته العقلية في إطار الجماعة التي ينتمي إليها.
صعوبات ميلاد الفرد والشخصية الفردية المسكونة بهاجس الفضول والتفكير واستخدام العقل للفهم واكتساب المعارف الجديدة, ونقد الأطر المرجعية الاجتماعية والفكرية التي تعوق قدراته علي التفكير والحركة والبحث والإبداع والابتكار, دون الإضرار بجماعته التي ينتمي إليها بل في تناغم مع احتياجات هذه الجماعة وانتقالا إلي آفاق أرحب للحياة والازدهار.
وأعتقد أن إنتاج حداثة عربية وإسلامية في العالم العربي والإسلامي ليست مستحيلة إذا ما توفرت بعض شروطها الأساسية والتي يتمثل أولها في فض الالتباس في علاقة الثقافة العربية بالزمن, وتقليص سطوة الماضي علي توجهاتها ومنطلقاتها, عبر تأسيس نواة ثقافية تؤمن الاجتهاد والابتكار والانطلاق نحو الزمان الثقافي الحديث وكذلك توفر شروط ازدهار الفرد والشخصية الفردية وتحريرها من الأطر الجماعية القبلية والعشائرية والأسرية عبر مختلف المعارف النقدية وتعظيم قدرات وشروط الشك والنقد والابتكار, فضلا عن معالجة إشكالية الازدواجية والانتقائية في التعامل مع الحداثة.

لعبد العليم محمد

الاهرام ـ موقع الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate