تاريخ الحركة النسوية و مآلاتها (١)
وجدت عددًا من الرسائل تتوافد عليَّ، مئات الرسائل. تصل الرسالة الواحدة إلى 12 و14 صفحة. جميعها من نساء يحكين آلامهن ويصفن قهر الرجال والأزواج لهن. وقتها أحسست بالضيق، لم أشعر بالفخر مطلقًا، بل بالضيق».
هكذا سردت الروائية الأمريكية «مارلين فرنش»، في فيلم وثائقي يتناول حركة التحرر النسوية من إنتاج «بي بي سي»، رد فعل جمهورها من النساء حيال رواية لها بعنوان «غرفة النساء». تقدم الرواية وصفًا لمظالم النساء وقهر الرجال لهن، وتشدد على واقع غير عادل يستطيع الزوج فيه أن يحصل على عشيقة أو اثنتين، ولا تستطيع الزوجة أن تعترض لأنها لا تملك مورد رزق، ولا تعرف كيف تربي أبناءها إذا انفصلت عن زوجها.
نُشِرت رواية فرنش عام 1977، أي بعد أن كانت «الموجة الثانية» من الحركة النسوية بدأت فعلًا، وحصدت للنساء عددًا من المكاسب النسبية، إلا أن الطريق ما زال طويلًا، وظلت المرأة تشعر بظلم وتهميش، حتى فى العالم الغربي. فكيف بدأت هذه الحركة التحررية، وما هي موجاتها الأربعة كما يقسمها المؤرخون، وكيف تبلورت، وإلام انتهت؟
الموجات الأربعة لحركة التحرر النسوية
يقسم الباحثون تاريخ الحركة النسوية إلى موجات. يرجع تاريخ الموجة الأولى إلى أربعينيات القرن التاسع عشر، عندما نادت النساء فى أمريكا وبريطانيا بحق الاقتراع، أما الموجة الثانية التي يرجع تاريخها إلى ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فقد نادت بالمساواة مع الرجل، ليس فقط في الحقوق السياسية، لكن أيضًا في نطاق الأسرة والجنسانية والعمل.
بشكل عام، تميزت الموجة الثانية لحركة تحرير المرأة بمحاولة تحرير الجسد وإعادة حق السيطرة عليه للمرأة، إذ ظهرت مطالبات بالحق في الإجهاض، والحق في ممارسة حياة جنسية حرة، إما بين امرأة ورجل، وإما بين امرأة وامرأة.
أما الموجة الثالثة، فظهرت في تسعينيات القرن العشرين، وبدأت بنقد الموجتين الأولى والثانية من الحركة النسوية، واللتين تأسستا فى نظرهن بتصوير المرأة على أنها ضحية وضعيفة، وأغفلت قضايا العرق، إذ كان تركيزها على قضية التوجه الجنسي ضعيفًا ومشوَّشًا. وعكس الموجتين الأولى والثانية، تضمنت الثالثة نساء من جميع الألوان، وأعلنت الحرب على الصورتين النمطيتين للمرأة، إما باعتبارها ضعيفة ومنساقة، وإما عاهرة ومتسلطة. حاول هذا الجيل أن يصدِّر صورة المرأة القوية الواثقة من نفسها، التى تمتلك التحكم في جنسانيتها وتحتفي بها.
كان المنطق الأساسي الذي تأسست عليه الموجة الثالثة، نقد الموجتين الأوليين باعتبارهما ذكوريتي التوجه. إذ هدفت الحركة النسوية قبل الموجة الثالثة، إلى توسيع حقوق النساء لمساوتهن بالرجال، لكن الحركة كانت تعترف في هذا النشاط بتفوق نمط الحياة الذكوري ومعياريته، كما لو كان تحرير النساء يتمثل في تحويلهن إلى رجال. على النقيض من ذلك، بذلت الموجة الثالثة جهدًا كبيرًا في الاحتفاء بتجارب النساء كما يعشنها فعلًا، وتمكينهن من الفخر بجنسياتهن ومشاعرهن وخبراتهن باعتبارهن نساء.
بالنسبة إلى «ريبيكا ووكر»، من أشهر ناشطات الموجة الثالثة، لا يعني هذا التوجه رفض الخبرة الذكورية أو تضامن الرجال مع الحركة، بل على العكس، إذ أكدت في إحدى ندواتها أن الموجة الثالثة قائمة بالأساس على إنهاء «نحن» و«هم» اللتان أشعرتا الرجال، خلال الموجة الثانية، بأنهم أعداء، وأشعرتا النساء من ألوان أو أعراق مختلفة بأنهن لسن جزءًا من الحركة، لذلك تسعى الحركة إلى ضم جميع البشر، سواء رجالًا أو نساءً، وأيًّا كانت ألوانهم أو ميولهم الجنسية.
أما حديثًا جدًّا، فقد بدأت الموجة الرابعة. وإذا كانت الثالثة تنبهت لأهمية استخدام وسائل الإعلام فى التسويق للحركة النسوية، فإن الموجة الرابعة، التي ما زلت الأدبيات حولها قليلة لأنها لم تتبلور بعد، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمواقع التواصل الاجتماعي. ويربط كثير من الناشطات بداية ظهور الموجة الرابعة بحملة «#أنا_أيضًا» أو «#MeToo» التى تتبنى قضية التحرش، وتلجأ إلى منصات التواصل الاجتماعي كوسيط أساسي للتعبير.
استخدمت نساء من كل مكان حول العالم تقريبًا، هذا الوسم ليحكين قصصهن مع التحرش، وللتوعية بالأضرار النفسية التي تلحق بهن بسببه. إن ما يميز الموجة الرابعة عن بقية الموجات إذًا، عالميتها، إضافة إلى درجة أعلى كثيرًا من اللامركزية الناتجة عن استخدام الإنترنت كوسيط للنشاط النسوي، بعيدًا عن القاعات الأكاديمية والمكاتب المغلقة لمنظمات المجتمع المدني.
النوع الاجتماعي: المقولة المركزية للحركة النسوية
تاريخ النضال النسوي طويل جدًّا، إذ بلغ صداه جميع أنحاء العالم تقريبًا، ممتدًا في جميع موجاته ليشمل الدول العربية، مثل مصر التي تملك تاريخًا نسويًّا ثريًّا، قادته شخصيات مثل ملك حفني ناصف ونبوية موسى وهدى شعراوي وسيزا نبراوي، وغيرهن ممن ناضلن من أجل حق تعليم المرأة وحقها فى الانتخاب والعمل. استند تاريخ هذا النضال النسوي إلى جهد ضخم من النقد المستمر، والمراجعة الدائمة للحركة النسوية وتاريخها ونتائجها، وهو نقد يظل واجبًا إلى اليوم من أجل تطوير الحركة.
من أجل فهم هذا النقد، وتحليل التطور المستمر للحركة، لا بد من تسليط الضوء على مصطلح مهم أدى إلى تغيير شكل الجدل الخاص بالمسألة النسوية، وهو مصطلح «النوع الاجتماعي» (Gender) الذي يمكن القول إنه أصبح المفهوم المركزي للحركة النسوية كلها، والتي كانت تزدهر في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته داخل أروقة الجامعة، في أقسام دراسات «النوع الاجتماعي» (Gender studies).
يعود مفهوم «النوع الاجتماعي» إلى واحد من النصوص الأساسية للحركة النسوية، وهو كتاب «سيمون دو بوفوار» عن «الجنس الثاني»، مع أنها لم تستخدمه بشكل مباشر. لكنه انبنى على مقولتها الشهيرة إن «المرأة لا تولد امرأة، وإنما تصير كذلك». هذا التصور بالضبط ما اسخدمته «آن أوكلي» للتعبير عن النوع الاجتماعي، أي الصفات والوظائف التي يسندها المجتمع إلى شخص ذي جنس بعينه، بينما النوع هو الخصائص البيولوجية التي يولد بها الإنسان، أي إن الاثنين يوضعان في تقابل، يعد الجنس فيه طبيعيًّا، عند معظم النسويات على الأقل، فيما يعد النوع الاجتماعي ثقافيًّا.
تتمحور معظم نقاشات الحركة النسوية حول مفهوم الدور الاجتماعي إذًا، فتعمل على نقده أو التأريخ له أو إعادة بنائه، وبالنظر إلى مركزية هذا المفهوم بالنسبة إلى الحركة، عادة ما يدور نقدها كذلك في فلكه، وهو النقد الذي أدى إلى انتقال الحركة من موجة إلى موجة، كما عرضنا آنفًا، وربما يؤدي إلى انتقالها لشيء جديد في المستقبل كذلك.
كيف وصلنا إلى هنا: النقد النسوي للحركة النسوية
من الموجة الثانية إلى الثالثة: نقد أفضلية الدور الاجتماعي للرجال
تقول الباحثة والنسوية الأمريكية «ريتا غروس» إنه «بعد ثلاثين عامًا من حركة التحرر النسوية، أنظر إلى المجتمع الذي أعيش فيه وأقول: ما الخطأ الذي حدث؟ فرغم أننى لا أريد العودة إلى الحال الذي كان النساء عليه قبل حركة التحرر النسوية، لكن من الواضح أن كثيرًا من أحوال حياتنا قد ساء، ولم يتحسن منذ انطلاق الشرارة الأولى للحركة النسوية حتى الآن».
تنزعج غروس تحديدًا بسبب اعتقادها أن دعوة النساء للمساواة مع الرجل، بإسناد مهمات الرجل إلى المرأة، ومحاولة إثبات أن المرأة قادرة على أداء المهمات التى يؤديها الرجل، تحكمه نظرة إلى الدور الاجتماعي الذى يؤديه الرجل باعتباره الدور الأفضل من ذلك الدور الذي تؤديه المرأة، ومن ثم تُسلِّم النسويات بأفضلية مكانته، فإن ذلك في الواقع قلل من شأن المرأة ورفع من شأن الرجل.
كان هذا الخطاب مميِّزًا للموجة الثانية أكثر من غيرها، إذ صاغت الموجة قضيتها في ما يشبه القول إن الرجل أفضل من المرأة، وعلى هذا نريد أن نكون رجالًا، ما يعني سجن المرأة والرجل في أدوار ثابتة ترتبط أساسًا بنوع اجتماعي واحد، هو «الرجل».
مثال على هذا، الدور الذي أُسنِد إلى المرأة بناء على قدرتها على الإنجاب على عكس الرجل، والذي يجعلها ذات ارتباط وثيق بالمولود، أي تربية الأبناء. وكي تتحرر منه المرأة، فإنها تنكر هذا الدور الاجتماعي وتطالب بالأدوار والصفات الاجتماعية للرجل.
تقول غروس إن هذا يسحب المرأة إلى منطقة الرجل، فيما لا يسحب الرجل إلى منطقة المرأة. وبالنسبة إلى غروس، لا يجب أن تتمثل مطالب الحركة النسوية في رفض المرأة دور تربية الأطفال، وإنما بضرورة اكتساب الرجل بعض الأدوار الاجتماعية للمرأة، مثل تربية الأطفال.
ربما كانت محاولة الانسحاب من دور الأمومة هذه سببًا في جعل نسويات الموجة الثانية، يطالبن باستخدام موانع الحمل، ويشددن على الحق في الإجهاض، واستخدام أساليب لفض حيض الدورة الشهرية في يوم واحد كي لا يعانين منها طوال عدة أيام، فيتمكنَّ بذلك من أداء الدور الاجتماعي الذي يؤديه الرجل بكفاءة. لا يعني هذا النقد بالتأكيد أن هذه المطالب زائدة عن الحاجة أو دون فائدة، لكنه يعني أنها ربما كانت قاصرة في رؤيتها. وحتى الآن، يظل هاجس أن الحركة النسوية نفسها مسكونة بنزوع ذكوري، قائمًا عند بعض النسويات.