في نقد ما بعد الحداثة : مراجعة كتاب الحداثة و ما بعد الحداثة لبيتر بروكر
يشكل التراث الفلسفي والسياسي للفكر الليبرالي الكلاسيكي الغربي، والفكر الماركسي سواء بسواء، سلسلة متصلة من الحلقات بعضها ببعض، على مستوى الفكر الإنساني، على الرغم مما قد تجد بينهما من تناقضات ومفارقات غاية في الجذرية والعمق، السلطة المرجعية المعرفية والنظرية والأيديولوجية والثقافية، في تعريف مفهوم الحداثة، عبر المراحل والمحطات، التي قطعتها في سيرورة تطورها، وفي ارتباطها بأشكال وصور الدولة السياسية الحديثة.
وليس من فيلسوف أو مفكر سياسي مهما أسبغ على الحداثة من مفهوم وتعريف مجددين يستطيع أن يكون خارج هذا الإطار المرجعي الكلاسيكي الغربي، منذ بداية عصر النهضة الأوروبية 1450 ـ 1600، وامتداداً إلى عصر هيغل وماركس وغرامشي.
الحداثة أيقظت وعي الفلاسفة
ولقد أيقظت دراسة الحداثة وعي الفلاسفة المختصين، والمفكرين السياسيين، من أجل بلورة المكونات المعرفية والنظرية، والأيديولوجية الواضحة عنه، الأمر الذي جعل الحداثة هذه، موضعاً لصراعات أيديولوجية، في سيرورة تطور المجتمع الغربي الحديث، حيث أصبح المجتمع الرأسمالي أو الصناعي التعبير التاريخي عنها بين مختلف المدارس الفكرية، سواء داخل النظرية الليبرالية بكل تفرعاتها، بداية من عصر النهضة والأنوار، باعتبارها التعبير التاريخي العام الفلسفي الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي عن المجتمع والدولة في العالم الرأسمالي الحديث والمعاصر، أو بين الليبرالية، والمدرسة الماركسية الكلاسيكية، ولعصرنا هذا.
في نظر العديد من المحللين والنقاد، تُعَدّ ما بعد الحداثة نزعةَ عدميّة على نحوٍ خطير؛ فهي تقوِّض أيّ معنى للنظام وللسيطرة المركزيّة للتجربة،
أمَا مفهوم ما بعد الحداثة فقد برز أكثر خلال العقود الأربعة الأخيرة، إذ يعود الفضل في نشوئه إلى الناقد الأمريكيّ من أصل عربي الدكتور إيهاب حسن في النصف الثاني من أربعينيات القرن المُنصرِم. وكان مفهوم ما بعد الحداثة ولايزال من المَفاهيم والمُصطلحات التي أثارَت جدلاً واسعاً والتباسات كثيرة في الأوساط الثقافيّة والفلسفيّة العالَميّة وذلك بسبب اختلاف النقّاد حوله والدارِسين، نظراً لتعدّد مَفاهيمه ومدلولاته من ناقدٍ إلى آخر. لكنْ، على الرّغم من هذا، هناك شبه اتّفاق يصل إلى حدّ الإجماع على ارتباط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض والعدميّة والإقصاء، وتحطيم المقولات المركزيّة الكبرى التي هَيمنت على الثقافة الغربيّة.. من أفلاطون حتّى يومنا هذا.
في نظر العديد من المحللين والنقاد، تُعَدّ ما بعد الحداثة نزعةَ عدميّة على نحوٍ خطير؛ فهي تقوِّض أيّ معنى للنظام وللسيطرة المركزيّة للتجربة، فلا العالَم ولا الذّات يغدوان وحدة مُتماسِكة. وفي هذا السياق نجد الخطاب ما بعد الحداثي خطاباً فوضويّاً يقوم على تغييب المعنى وتقويض العقل؛ بل ممّا يزيد الأمر خطورة، هو أنّ فلسفات ما بعد الحداثة تمثِّل مَعاوِل للهدْم والتفكيك، وأنّ هذه الفلسفات تعمل جاهدة أيضاً على تحرير الإنسان من المقولات المركزيّة التي تحكَّمت بالثقافة الغربيّة.
هذا كلّه يتمّ في سياق التسلُّح بمجموعة من الآليّات الفكريّة والمنهجيّة، كالتشكيك والتفكيك والاستلاب. فهي تجعل من الإنسان كائناً عبثيّاً فوضويّاً لا قيمة له في هذا الكون المغيَّب، يعيش حياة الغرابة والمُفارَقة، ويتفكَّك أنطولوجيّاً في هذا العالَم الضائع بدَوره تشظّياً وضالّة وانهياراً و تشتُّتاً.
ظاهرة تميز الثقافة الأنجلو ـ أمريكية
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “الحداثة وما بعد الحداثة”، للكاتب بيتر بروكر، الباحث بقسم الدراسات الأدبية والثقافية الحديثة بكلية العلوم الإنسانية بمعهد ثيمر، والذي يتكون من ستة أبواب، و19 عشرة فصلاً، ويغطي 375 صفحة من القطع الكبير، يقدم بروكر بعضًا من وجهات النظر التي كان لها الأثر الكبير في موضوع الحداثة وما بعدالحداثة.
ويتضمن الكتاب مقالات ومختارات لعددٍ من نقاد الأدب الأهم ومنهم بنيامين أدورنو، ريموند وليامز، ليوتار، بودريار، جيمسون. ويجمع الكتاب بينهم في مناظرات تمثل ما يدور حاليًا من نقاش يرتبط بمنظور العالم الثالث وأدب الزنوج و الأدب النسوي.
هل “ما بعد الحداثة” صورة جديدة من “الحداثة” ولدت على هيئة مسلسل تلفزيوني؟ هل هي مجرد “صرعة” فقدت جدتها بالفعل؟ وهل تعبر عن نمطية ثابتة حالياً أم عن تنوع جديد ونهج مستقبلي؟
إن كلاً من “الحداثة” وما “ما بعد الحداثة” ظاهرة تميز الثقافة الأنجلو ـ أمريكية والأوروبية في القرن العشرين في المقام الأول وإن ارتبطت بنوع من العلاقات المتغيرة بتلك الثقافة. وفي حين تتجه الأولى نحو التقادم والانزواء في أركان الحضارة الغربية نجد الأخيرة تهجر ما تعارفت عليه المتاحف والمعارض الفنية والمكتبات وفي جعبتها شيء من نصوص وصور لترتمي في أحضان التقنيات المحلية وما تتيح من إمكانات، وتندفع نحو الإثراء الأطر الثقافية الخارجية والتوجهات المتقلبة. وما هذه إلا مجرد نظرة واحدة إلى “ما بعد الحداثة”.
والحقيقة أن هذه التسمية تصف ثقافة تتسم بالضحالة والرتابة وفي الوقت نفسه بتعددية الأنماط، فهي ثقافة فرعية وجديدة في آن. وهي بإيجاز تمثل مجتمعاً بكل ما تعنيه الكلمة من تنوع وضحالة وما إلى ذلك من سمات تميز معبودته الأثيرة شاشة التلفزيون. ولكن هل “ما بعد الحداثة” صورة جديدة من “الحداثة” ولدت على هيئة مسلسل تلفزيوني؟ هل هي مجرد “صرعة” فقدت جدتها بالفعل؟ وهل تعبر عن نمطية ثابتة حالياً أم عن تنوع جديد ونهج مستقبلي؟
يقول الكاتب بيتر بروكر: “ليس هناك من لم يسمع ببعض من هذه التساؤلات والردود عليها إلا لو كان آتياً من أركان أحد المتاحف. ففي أواخر ثمانينات القرن العشرين ظهرت موجة متلاحقة من الدراسات والتعليقات يسعى هذا الكتاب لتسجيلها، وفي الوقت نفسه إلى الانضمام إليها ببعض من نقاد الأدب والمجتمع وعلماء الاجتماع والفلاسفة والجغرافيين ومؤرخي الفن ونقاد “الروك” وهواة الفرجة على كل جديد. وفي النهاية آلت “ما بعد الحداثة” إلى ما تعبر عنه. فلا مجال لدائرة الكتب والمقالات ولتلك البرامج التلفزيونية الليلية التي تتناول كتباً أخرى أو للبرامج الأخرى التي تتخذ من الأفلام والمباني والبرامج التلفزيونية موضوعاً لها، بل تعرض دينامية الإنتاج المكثف والنزعة الاستهلاكية الحادة في قلب مجتمعات ما بعد الحداثة بعد الحرب”.
ويضيف: “هذا الانكفاء القلق على الذات وذاك الضجر الراهن واليأس من ثقافة ليس أمامها إلا أن تكرر نفسها، كلها من أكثر السمات شيوعاً في النغمة والأسلوب السائدين في “ما بعد الحديث”. ويجد البعض أملاً جديداً يبزغ مع نهاية هذه الحقائق اليقينية العتيقة، أو بعبارة أخرى سقوط مدوٍ في قاع الحياة اليومية من ذرى التعالي الفكري والفني والسياسي، بينما يحاول غيرهم جاهدين أن يتفادوا مزالق “ما بعد الحداثة” وأسطحها الملساء الزلقة أملاً في استرداد مساحة نقدية مفقودة ومنظور منطقي ينظر من خلاله إلى الماضي والمستقبل”، (ص 15 من الكتاب).
فرانك كيرمود وإعادة البناء
يُعَدُّ الناقد البريطانى الشهير فرانك كيرمود، العضو السابق فى الأكاديمية البريطانية وفى الجمعية الملكية للآداب، وعضو شرف سابق فى الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم والأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، والذي كان أستاذاً للغة والآداب الإنجليزية فى جامعة كامبريدج من عام 1974 إلى عام 1982، كما أنه كان أستاذاً رائداً في العديد من الجامعات العالمية كجامعة شيكاغو، ليفربول، نيوكاسيل، ييل، أمستردام، من أهم النقاد لعصر ما بعد الحداثة.
في أواسط الستينيات يقول كيرمود: “لا بد من رصد تاريخ كلمة حديث (modern) “وكان يقصد بمقولته هذه أن لفظ “حديث” يعني في مضمونه، وبالتالي فهو مصطلح له ثقل يفوق ما لكلمة “جديد” New أو “معاصر” contemporary من ثقل. ويطلق كيرمود على جماعة اسم “الحداثة السلفية” (Traditionalist Modernism)؛ إلا أنه يحذر من تعرضها للتشويه الأيديولوجي ومن إمكانية اعتبارها اتجاهًا أكاديميًا عتيقا في عالم يطلق فيه لفظ “حديث” يختلف عن لفظ “ابداعي” (Garde avant).
نرى من جانبنا مبدئيا أنَّ هناك اتجاهات عديدة لما بعد الحادثة وكذلك للحداثة، وأن ما بينهما الحوار والجدال المتبادل وبناء القواعد الأصولية وهدمها.
يقول بتر بروكر: “يطرح كيرمود هنا عديدًا من التساؤلات الشائعة عن التقسيمات الزمنية وعن الاستخدام الأكاديمي والشعبي وعن التوجيهات الأيديولوجية والنقدية وعن التذوق وعن التعريفات. هناك لا شك أكثر من مدرسة للحداثة. ولا تستوي مدارس الحداثة جميعا في ما بينها. والحقيقة أن كيرمود في مقاله “مدارس الحداثة”(Modernisms) يبحث ويحقق بعضا من صورها، إلا أنه يبدو مهيأ لأخذ بعض النقاط مأخذ التسليم البدهي كما يستنتج من قوله: “إنَّ كلا منا لديه فكرة عامة أو يعرف شيئا عن معنى الأدب الحديث أو الفن الحديث أو الموسيقى الحديثة. فالتسميات نفسها أصبحت علما على جويس وبيكاسو وشوينبرج وشترافينسكي وتجارب جيلين أو ثلاثة أجيال مضت”.
ويضيف: “هذه العبارة على ما بها من تعسف وصعوبة تخفي “خفة اليد” أو البراعة التي ظهرت بها السلفية الأدبية إلى الوجود، أي عن طريق دمج “الحداثة السلفية” مع “الحديث” لتكوين ما اصطلح على تسميته “الحداثة السلفية”. وهذه الحداثة عند بيترفوكنر في كتابه الأخير (Modernist Reader القارئ الحداثي،1968)؛ حيث يحدد فوكنر في يقين قاطع يحسد عليه تاريخ الحداثة في إنجلترا فيما بين 1910 و1930؛ ثم يعود إلى سيندر للاستشهاد بتعريفه هذه التسمية (حيث تبدو “الحداثة” عنده مرادفة للفن الحديث في هذا المقام). يقول سيندر :”إنّ الفن الحديث يعكس الوعي بموقف حديث لا سابقة له في شكله أولغته (ص 20 من الكتاب).
لقد أصاب كيرمود في دعوته لتدوين تاريخى لفظي “حديث”و”إبداعي”، لكنه لم يصب في دعوته لتحديد تعريف لكل منهما. ويصدق ذلك أيضا على الحداثة وبالطبع على ما بعد الحداثة، إذ يكمن معنى كل منهما في استخدامه وتوظيفه في ظهوره واضمحلاله. فتشكلت تلك المعاني كل في علاقته بالآخر في تواريخ محددة ثقافيًا لا سيما في النموذج الرئيس، وهو أمريكا ما بعد الحرب، حيث زاد انغماسها خلال تلك الفترة في عملية تبادل ثقافي وحوار معقد مع الثقافات الأخرى.
فالهدف الأول لهذا الكتاب تقديم مادة غزيرة لهذا التاريخ الفكري والثقافي. إلا أن كتابًا كهذا لا يمكن أن يخلو من مشكلات تتعلق بالتعريف والتقويم. ولكن هل يدخل هذا الكتاب ومضمونه في دائرة ما بعد الحادثة لمجرد أنه ظهر في الفترة بعد الحديثة الراهنة؟ وهل تندرج افتراضاته وتوجهاته ولغته تحت مسمى “ما بعد الحداثة”؟
يقول الكاتب بيتر بروك:” إن فريدريك جيمسون يرى أننا لا نستطيع أن ننظر إلى ما بعد الحداثة كموقف تاريخي أو أن نقدم نقدا لها من موقف المتفرج من الخارج؛ إذ كيف يتسنى لنا أن نكون خارج التاريخ؟! بالتالي لا نستطيع أن ننظر إلى الحداثة من خارج ما بعد الحداثة. على أي حال فهذا الجدال كغيره يوجه ناظريه إلى الباطن. ولكن هل معنى هذا أنه وقع في شرك ؟! أليس ثمة شيء في الخارج سواء قبل ظهور فقاعة ما بعد الحداثة أو بعده؟! واذا كان هناك شيء فهل ينتمي إلى “المعاصر” (Modernity) أم إلى “الحداثة ” Modernism؟
نرى من جانبنا مبدئيا أنَّ هناك اتجاهات عديدة لما بعد الحادثة وكذلك للحداثة، وأن ما بينهما الحوار والجدال المتبادل وبناء القواعد الأصولية وهدمها. فليس ثمة كيان ثقافي منفرد أو تحول تاريخي مطلق؛ وبالتالي ليس ثمة جزء داخلي أو خارجي من عمليات البناء الأيديولوجي الذي يتطلبهما. وهذا معنى الربط بين الجدل ذي النزعة الحديثة (عن التوجهات السائدة والطارئة) والنزعة المضادة للنظرية الجوهرية Essentialism أو نزعة الهروب إلى مواقف ومعان بعينها ترتبط بما بعد الحداثة. وينطوي هذا في الوقت نفسه على نبذ أي منظور آخر لما بعد الحداثة لا نهاية فيها للخلافات ولا سبيل لصده”، (ص 23 من الكتاب)
مراجعة جابر عصفور