حداثة و ديمقراطية

في صدام السياسة و النظرية4.

ثوريّة لا ثوريّة

والحال أنّ الدور الذي لعبه الاشتراكيّون الديمقراطيّون في ثورة 1918 لا يمتّ بصلة إلى الأجواء الثوريّة التي عبّر عنها البلاشفة الروس في 1917. فهم، ومن خلال سياسيّيهم، استثمروا في الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركيّ وودرو ويلسون في رفضه مفاوضة ألمانيا، إثر هزيمتها في الحرب العالميّة، إلاّ وقد غدت تحكمها حكومة ديمقراطيّة. هكذا، وفي أواخر 1918، وكإنجاز لهدف ديمقراطيّ حصراً، صوّت البرلمان بأغلبيّة كبرى لتعديل الدستور المَلكيّ وحُوّلت الإمبراطوريّة إلى مَلَكيّة دستوريّة وبرلمانيّة، ثمّ تولّى القياديّ الاشتراكيّ الديمقراطيّ فيليب شَيدمان، ومن نافذة الرايخستاغ، إعلان قيام الجمهوريّة (9/11/1918) بوصفها ما يستكمل التحوّل الدستوريّ ويتوّجه. وقد غدا شيدمان، وهو أحد أكثر من هجاهم لينين واتّهمهم بخيانة الطبقة العاملة، أوّل مستشار لجمهوريّة بلده. وأنتج العهد الجديد عدداً كبيراً من الإصلاحات الكبرى في ما خصّ الحرّيّات المدنيّة وحقّ التصويت للنساء، وحقوق العمل (8 ساعات عمل يوميّاً) والإقرار للنقابات بتمثيل العمّال في مفاوضات الأجور، مع الالتزام بالديمقراطيّة البرلمانيّة والليبراليّة.

لكنّ التنافر مع راديكاليّي الحزب كان يذهب أبعد فأبعد. فقد عقد فريدريش إيبرت (الذي كان معارضاً لإعلان الجمهوريّة إذ أنّ إعلاناً كهذا من حقّ الرايخستاغ وحده) تحالفاً مع الجيش ضدّ الشيوعيّين، وهو ما لم يكفّ راديكاليّو اليسار عن اعتباره أحد أكبر الخيانات التي ارتُكبت بحقّ الثورة الألمانيّة. إلاّ أنّ النقابات كانت، في الوقت نفسه، تتوصّل إلى اتّفاق مع أرباب العمل، فيما بدأت نُذر الهزيمة في الحرب العالميّة تدفع الأخيرين إلى فكّ تحالفهم مع اليونكرز. هكذا جاء الاتّفاق يحدّد ساعات العمل اليوميّ بثمانٍ ويعترف بالنقابات التي تخلّت، من جهتها، عن مبدأ التأميم. ثمّ، وبُعيد قمع السبارتاكيّين، الذي سنعود لاحقاً إليه، أجريت انتخابات عامّة حصد الاشتراكيّون الديمقراطيّون فيها 37،9 بالمئة من الأصوات56، فبيّنت أنّ الجمهرة العريضة من العمّال لا زالت مأخوذة بـ «الأوهام» الإصلاحيّة والديمقراطيّة.

ووفّرَ الإشارةَ الأخرى ذات الدلالة مصيرُ «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ» الذي أُسّس في 1917 كاعتراض على الحرب وعلى التقارب مع الجيش. فهذا الحزب، الذي لم يترك كبير أثر على الحياة العامّة، ولم يتحوّل جسداً متجانساً، تناثرَ إلى مجموعات شديدة التباين إلى أن حُلّ في آذار 1919.

ويستعيد بارينغتون مور تلك الحقبة، منبّهاً إلى أسباب بعيدة وقريبة توفّر في مجموعها فهماً أفضل لما شهدته ألمانيا حينذاك. ذاك أنّ قوى المجتمع القديم التي انهزمت وسُحقت في الحرب العالميّة الأولى (اليونكرز والجيش والبيروقراطيّة والبيزنس الكبير) إنّما سلّمت بوصول معتدلي الطبقة العاملة إلى السلطة تجنّباً لولادة خيار راديكاليّ كان قد بدأ يطلّ برأسه. وإذا صحّ أنّ المعتدلين ظلّ في وسعهم السيطرة على تمدّد المتطرّفين وضبطه، فإنّ هذا ألزمهم بدفع كلفة كبرى هي التحالف مع القوى المحافظة، الأمر الذي خلّف شعوراً بالمرارة والإحباط عند كثيرين من العمّال وعند الليبراليّين القلائل.

فبعد هزيمة 1918 والفوضى التي تلت، دفع الشكُّ بالحماسة الجماهيريّة القادةَ الاشتراكيّين «لأن يروا أنّ الأخطار الكبرى آتية من اليسار، ما أعماهم عن رؤية الأخطار الآتية من اليمين والتي أثبتت، قبل أن يطول بها الزمن، أنّها أكثر جدّيّة». ذاك أنّ الخيارات بدت قليلة وضيّقة بين طبقة عاملة محافظة ونزعة عسكريّة ومراتبيّة بالغة الصرامة في ظلّ حراك راديكاليّ شرع يؤزّم الاستقطابات ويستعجل دفعها إلى الصدام.

لقد دمّرت الحرب روتين الحياة اليوميّة للعمّال، ما ترك آثاره على الفوضى السياسيّة للسنوات التالية: كثيرون منهم تغيّرت أعمالهم ومهنهم أو أماكن إقامتهم، والبعض انضمّ إلى الجيش، وكثيرون ماتوا، ومحلَّ العديد من الرجال عملت النساء والأطفال ممّن غادروا سوق العمل بمجرّد انتهاء الحرب. أمّا الذين احتفظوا بأعمالهم فاختلفت شروط عملهم، وإذ توسّعت بعض القطاعات الصناعيّة فإنّ قطاعات أخرى ضمرت. هكذا أصيبت أو انكسرت الشبكات الاجتماعيّة المألوفة التي تربط الأفراد بالوضع القائم، وكان لا بدّ لتحوّلات كهذه أن تنعكس على النقابات كما على الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، فيما كانت تتعاظم مصاعب العمل (الأجور، العلاقات إلخ…) بعد الحرب. بهذا المعنى واكبت الأحداثَ الثوريّةَ (1918-1920)، التي يسمّيها مور «الثورة الإصلاحيّة»، مبارزةٌ حادّة لكسب الطبقة العاملة الصناعيّة بين القادة المعتدلين والإصلاحيّين للاشتراكيّة الديمقراطيّة وخصوم متنافرين جمعتهم خيبة الأمل بالاشتراكيّين الديمقراطيّين خلال الحرب وبُعيدها، كما جمعهم العداء لليبراليّة الضعيفة الأنياب أصلاً. وفي ظلّ عجز الحزب «المستقلّ»، بسبب تنافره، عن استيعاب الناقمين الجدد، بدأ العمّال الراديكاليّون، وهم لا يزالون قلّة، يعتمدون على أنفسهم وعلى تنظيمات يبادرون إلى إنشائها. فثورة 1918 التي بدأت بتمرّد البحّارة في كِيَل، في 28/10-3/11، ممّن رفضوا مقاتلة الجيش البريطانيّ، ما لبثت أن انتشرت وشكّلت مجالس للعمّال والجنود. ومع أنّ التسمية (مجالس) سوفياتيّة المصدر، فإنّ أصحابها الألمان لم يكونوا بأكثريّتهم الساحقة بلاشفة. مع هذا وجد السلوك الثوريّ بعض التعبيرات لأسباب سوف يؤتى لاحقاً على الإشارة إليها: ففي ميونيخ هاجم المثقّف الاشتراكيّ كورت إزنار، على رأس متظاهرين من الحزب «المستقلّ» الثكنات الحربيّة. وفي 8/11 أعلن «المجلس المؤقّت للعمّال والجنود والفلاّحين» بافاريا جمهوريّةً برئاسة إزنار رافعين العلم الأحمر. وإذ راحت الثورة تنتشر وتزداد راديكاليّة وتوكيداً على جذريّتها في مواجهة الرأسماليّة التي «سقطت»، تأسّس الحزب الشيوعيّ الألمانيّ في الثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) 1918، أي بعد أقلّ من شهرين على إعلان شيدمان الجمهوريّة. وكان واضحاً، مع إعلان الأخيرة أنّ القوى الإصلاحيّة لا تملك مفاتيح السيطرة على الوضع العامّ. فالقوى المحافظة والقديمة تتحكّم بأدوات القوّة والأمن، بينما بعض راديكاليّي «المجالس» يفكّرون في انتخاب حكومة مؤقّتة.

ضمن هذا السياق تحديداً تمّ الاتّفاق بين إيبرت والجيش، حيث يبدي الأوّل استعداده للتضحية بـ «البلاشفة» الألمان مقابل ضمان ولاء الجيش للحكم المدنيّ الجديد. لكنْ سريعاً ما وُقّعت بعدذاك (15/11/1918) الاتّفاقيّة التي سبقت الإشارة إليها لمصلحة العمّال، كما راحت ترتفع العضويّة النقابيّة، وبلغ عدد المنضوين في النقابات القريبة من الاشتراكيّين الديمقراطيّين 1،4 مليون عضو، وسريعاً ما ارتفعت إلى 2،9 مليون، واستمرّ التزايد في 1919 بحيث لم ينته العام إلاّ والعدد 7،3 مليون عضو. وفي هذه الغضون انعقد مؤتمر عمّاليّ كبير بين 16 و21/12/1918، أي قبل أسبوع على تأسيس لوكسمبورغ وليبنخت الحزب الشيوعيّ، فرفضت أكثريّة المؤتمرين الكبرى أن يحتلّ الثوريّان المذكوران أيّ موقع استشاريّ في المؤتمر.

فأولويّة الاشتراكيّين الديمقراطيّين كانت استعادة النظام وإنعاش الإنتاج وتسريعه من ضمن تصوّر رأسماليّ وليبراليّ، وهم رفضوا الاستراتيجيّات الراديكاليّة، كاستيلاء العمّال على المصانع وتشغيلها، واعتبروها ضارّة بالعمّال قبل سواهم، كما رفضوا اعتماد سياسة ديكتاتوريّة كالتي أرساها لينين في روسيا. وفي نظرهم، ومعهم النقابات وأجزاء واسعة من المجتمع، بدا كلّ من يعرقل عودة النظام والتركيز على الإنتاج «مخرّباً بلشفيّاً». وما لبث الاستقطاب المتعاظم أن اتّخذ شكلاً عسكريّاً، في ظلّ تعاظم الخوف الراديكاليّ من «ثورة مضادّة»، مقابل تعاظم الخوف الإصلاحيّ من انقلاب راديكاليّ. هكذا أنشأ إيبرت «قوّة الدفاع الجمهوريّة» للدفاع عن الجمهوريّة والنظام، وأنشأ السبارتاكيّون «رابطة الجنود الحمر» التي ضمّت 12 ألفاً. وظلّ الموضوع الرئيسيّ لدى الاشتراكيّين الألمان، وبأعرض معاني الكلمة، هو: هل نمضي في الانتخابات بما يؤمّن ويكرّس الانتقال السلميّ إلى الاشتراكيّة، وهو رأي الاشتراكيّين الديمقراطيّين، أم نعتمد خطوات راديكاليّة خارج البرلمان وعبر مجالس العمّال والجنود؟ وكان لتعاظم التوتّر بين العسكريّين والراديكاليّين، الذين رفعوا مطالب في عدادها انتخاب ضبّاط الجيش، أن فاقم ضعف الحكومة التي لا تستطيع السيطرة على أيّ من الطرفين. وإنّما في هذا المناخ اندلعت يوم 6/1/1919 انتفاضة السبارتاكيّين الذين يبدو أنّ لوكسمبورغ وليبنخت كانا متحفّظين عليها وإن جرفتهم حماسة رفاقهم الذين فاقوهم عدداً.

لقد اجتمع عديد الظروف، فضلاً عن «عدم نضج الحالة الثوريّة»، لإحباط المحاولة السبارتاكيّة، وفي 15/1 اغتيل قائداها، إلاّ أنّ سحق الانتفاضة كان بداية موجة جديدة من التجذّر، يميناً ويساراً. ففي 19/1 جرت انتخابات للجمعيّة العامّة التي ستضع دستور جمهوريّة فايمار، وفيها شاركت النساء للمرّة الأولى في الاقتراع، فأصيب الاشتراكيّون الديمقراطيّون بنكسة خفضت تمثيلهم إلى 42 مقعداً و15 للاشتراكيّ المستقلّ (قبل أقلّ من شهرين على حلّ نفسه) مقابل 40 مقعداً لـ «الأحزاب البورجوازيّة» التي استفادت من النزاع «الأخويّ» ضمن اليسار، وبالنتيجة لم يحصل أيّ من الأحزاب على أكثريّة تخوّله الحكم. وفي هذا المناخ المتزايد التباساً وشللاً وغموضاً ظهرت اندفاعات راديكاليّة تسند نفسها إلى الطبقة العاملة لكنّها كانت في معظمها «ردوداً محلّيّة على شروط محلّيّة (…) من دون أيّ تنسيق مركزيّ». غير أنّ التحرّكات لم تتوقّف، بما فيها الصدامات مع الجيش، كما راح يؤجّجها رفض صلح فرساي وشروطه المذلّة، والذي بدوره عزّز انبعاث القوى القوميّة واليمينيّة التي سبق للهزيمة العسكريّة أن حجبتها. إلاّ أنّ القناعة التي جعلت تتزايد كان مفادها أنْ لا بدّ من التوقيع لتفادي احتلال كامل البلد وتدمير ما تبقّى من حياة اقتصاديّة. وفي 22 حزيران 1919 أعلنت الجمعيّة الوطنيّة قبولها بشروط السلام، ما أظهر جمهوريّة فايمار، منذ ولادتها، جمهوريّةً مذعنة للإملاءات الأجنبيّة، وبات في الإمكان تحميل الديمقراطيّة المسؤوليّة عن التضحيات الاقتصاديّة التي تطلّبتها التعويضات والضرائب الفادحة والتضخّم المتصاعد.

ومن موقعهم سعى القوميّون والعسكريّون إلى تدمير الجمهوريّة من خلال المحاولة الانقلابيّة التي قادها الصحافيّ والموظّف الملكيّ البروسيّ ولفغانغ كاب (3-17 آذار 1920)، بحيث أنّ رموز الدولة، وعلى رأسهم إيبرت، هربوا إلى درسدن ومنها إلى شتوتغارت، بعدما تخلّى الجيش عن حمايتهم. لكنْ بعد سحق المحاولة، وهو ما لعب فيه الإضراب العامّ دوراً أساسيّاً، علت أصوات نقابيّة تطالب بمحاسبة الاشتراكيّين الديمقراطيّين وإبعادهم عقاباً لهم على ذهابهم بعيداً في التحالف مع العسكريّين. وإذ تحوّل الجيش إلى «دولة ضمن الدولة»، ظهرت حالات تسلّح بين عمّال أخافتهم محاولة كاب الانقلابيّة وما حفّ بها وتلاها، فأنشأ بعض هؤلاء «جيش الرور الأحمر» الذي واجه الانقلاب قبل أن يسيطر على بضع مدن كبرى.

والراهن أنّ فشل الانتفاضة السبارتاكيّة ومحاولة كاب الانقلابيّة أدخل عنصراً جديداً في الوضع العمّاليّ، تمثّل في القمع الكثيف والبالغ الدمويّة لليسار. فالإضرابات، قبل محاولة الانقلاب، كانت تواجَه بمزيج من القمع وتقديم التنازلات، كحصول عمّال المناجم بعد إضرابهم (المهزوم) في نيسان 1919 على يوم عمل من سبع ساعات. بيد أنّ القمع شرع يتضاعف فيما راحت التنازلات تتضاءل، وصارت التمرّدات، وإن اتّسع نطاقها ونطاق فاعليها، دفاعيّة الطابع على نحو متزايد.

لقد شكّلت انتفاضة عمّال الرور ردّاً على الانقلاب أهمّ انتفاضات العمّال الصناعيّين، حتّى ذاك الحين، في أيّ بلد صناعيّ حديث. ولئن سُحق انقلاب كاب تماماً في 17 آذار 1920 فيما استعادت حكومة إيبرت سلطاتها، فإنّ هذا التطوّر لم يعد كافياً لوقف العنف والأعمال الانتفاضيّة. فالجيش الأحمر الذي أنشأه العمّال تراوح تعداد أفراده بين 80 و120 ألف مسلّح، واستولى على مدينتي دورتموند وإسّنّ وعلى عدّة مدن صغرى، وبهؤلاء انتقل عمّال الرور من الدفاع عن الجمهوريّة ضدّ الانقلاب إلى الهجوم الثوريّ، إنّما العفويّ أيضاً، عليها.

إلاّ أنّ الانتفاضة، كما يستنتج مور، ولدت وظلّت عفويّة، غير منظّمة ولا مخطّط لها سلفاً، قادها الغضب الذي دفع إلى مهاجمة النظام القائم. فمع الحرب كانت قد توسّعت القوّة العاملة بنتيجة توسّع الصناعات الحربيّة، لكنّ هؤلاء العمّال كانوا، بوجه الإجمال، حديثي الوفادة إلى صفوف العمالة الصناعيّة، ومن دون تقاليد طبقيّة، وهذا فضلاً عن تأثيرات الحرب الأخرى عليهم، تغييراً للعمل أو لمكان الإقامة أو موتاً.

كذلك فإنّ التطوّرات أعلاه لا تعني أنّ الجمهور العمّاليّ بات ثوريّاً: فهم «كانوا غاضبين جدّاً (…) هم لم يريدوا إقامة نظام اجتماعيّ جديد لكنّ الظروف التي لا سيطرة لهم عليها دفعتهم إلى الأعمال الثوريّة. لقد رأوا إلى الثورة –في الحدود التي رأوها فيها-  بوصفها التحرّك الدفاعيّ الوحيد المتاح لهم». وكان ما أغضبهم صمتُ الاشتراكيّين الديمقراطيّين ومعظم القادة النقابيّين الذين لم يُبدوا حساسيّة كافية حيال خوفهم من شبح الديكتاتوريّة العسكريّة أثناء المحاولة الانقلابيّة وبعد سحقها.

وعلى العموم فإنّ تجربة الجيش الأحمر في 1920، والتي لم تطرح الاشتراكيّة أصلاً، انتهت بالتفسّخ والذواء، ما بين انفضاض السكّان عنها وتعرّضها للقمع الشرس، فانقادَ بقايا الثوّار يائسين وراء أعمال نهب وسرقة وتحريق وجدت الإدانة حتّى من القادة الشيوعيّين، من غير أن تعفي الثوّار، من غير تمييز، من التعرّض لعقاب جماعيّ متوحّش. و«في هذه التراجيديا الدمويّة انتهى ما هو أقرب لأن يكون ثورة بروليتاريّة عفويّة تحدث في دولة صناعيّة حديثة». فعلى عكس روسيّا التي عفّنتها الحرب وعفّنت نظامها، لم يكن الأمر على هذا النحو في ألمانيا. فـ «الفلاّحون والطبقة الوسطى المدينيّة، وحتّى قطاعات عريضة من العمّال الصناعيّين، انقلبوا على قادتهم لأنّهم خسروا الحرب، وليس لأسباب تتعلّق بالسياسات الداخليّة».

أيّة حتميّة؟

لقد بدا واضحاً، أقلّه منذ 1914، وخصوصاً مع انهيار الموجة الثوريّة في 1918-1919، أنّ الماركسيّة تراجعت في ألمانيا وفي معظم أوروبا الغربيّة والشماليّة لصالح أحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة التي كسبت جماهير المقترعين وبالتالي المقاعد البرلمانيّة والسلطات التشريعيّة. وبدوره جاء اغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت ليطوي صفحة انطوت على نصاعة الموقف الأخلاقيّ وعلى بؤس السياسة في وقت واحد.

فحتميّة الثورة لم تكن حتميّة، وفي ردّه بيّنَ النظام القائم أنّه قابل للحياة أكثر ممّا توقّع ماركس: حصل هذا عبر نجاح الرأسماليّة في تطويع أسوأ أوجهها وأبشعها، والذهاب بعيداً في دمج الطبقة العاملة في المجتمع عبر الاقتراع العامّ الشامل وتطوّر المؤسّسات العمّاليّة أحزاباً ونقابات. ولئن رأى لينين أن العمّال لا يحرزون بذاتهم إلاّ وعياً مطلبيّاً ونقابيّاً يتعلّق بأجورهم وشروط عملهم، فإنّ العمّال بدوا سعداء بهذا الوعي، مكتفين به، فيما كانت الصناعة تحوّلهم إلى أكبر الطبقات عدداً. وعلى رغم مواسم كساد وتراجع، راحت الأجور ومستويات المعيشة تتحسّن ببطء، بحيث باتت الحتميّة الجديدة حتميّة التدرّج التطوّريّة.

وعلى العموم، وفيما اتّجهت الماركسيّة شرقاً، من خلال روسيا وثورتها البلشفيّة، فإنّ عناية الأحزاب الاشتراكيّة غير الشيوعيّة باتت تتركّز على أمرين يجمع بينهما البناء على واقع الدولة – الأمّة لما بعد انهيار الإمبراطوريّات في الحرب العالميّة الأولى، ومن ثمّ تمتين العقد الاجتماعيّ في بلدانها:

من جهة، تحسين أوضاع الطبقة العاملة من خلال الديمقراطيّة، حيث تحقّقت إنجازات فعليّة وملموسة، ومن جهة أخرى، مسايرة الوطنيّات القائمة، وبشيء من المبالغة أحياناً، ما أضعف الاستعداد لاستقبال الصعود اليمينيّ والفاشيّ اللاحق. وإذا كان لهذا التطوّر الأخير أن طرح أسئلة جدّيّة على صواب الافتراض التطوّريّ، وكونه هو أيضاً مشروع عقيدة مغلقة ودوغمائيّة، فإنّ صعود الفاشيّة في الثلاثينات يتعدّى كثيراً «خيانة» الاشتراكيّة الديمقراطيّة مثلما يتعدّى توأمه الذي هو استفزازيّة اليسار الراديكاليّ ودفعه الأمور إلى استقطاب لا يملك المجتمع الألمانيّ يومذاك مقوّماته. فألمانيا وجمهوريّة فايمار كانتا تئنّان تحت وطأة مشكلات ضخمة تتصدّرها معاهدة فرساي المُذلّة والمطالبات بالتعويض عن الحرب العالميّة الأولى، فضلاً عن التضخّم الفلكيّ ثمّ الكساد العالميّ الكبير في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات. أمّا مدى إسهام العاملَين هذين – «الخيانة» والاستفزاز – في ذاك الصعود الفاشيّ فيبقى موضوعاً آخر.

لحازم صاغية.

ملتقى العربيين- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate