حداثة و ديمقراطية

في صِدام السياسة والنظريّة3.

من «بابا الماركسيّة» إلى هرطوقها

ظلّ كارل كاوتسكي (من أصول تشيكيّة نمسويّة) المرجع الاشتراكيّ المعتمد أرثوذكسيّاً حتى الحرب العالميّة الأولى. ولئن تدهورت علاقته بالماركسيّة والماركسيّين المتشدّدين على مراحل، فقد غدا بعد الثورة البلشفيّة في 1917 العدوّ غير المُنازَع. فهو بات من أبرز نقّاد تلك الثورة، ما شهدت عليه السجالات الحادّة مع لينين وتروتسكي حول طبيعة الدولة السوفييتية الوليدة. وكان لموقفه من الثورة الروسيّة أن عكس موقفاً ماركسيّاً أوروبيّاً، بل موقفاً تقدّميّاً تقليديّاً، من روسيا بوصفها «حصن الرجعيّة»، ومن أنّ المناطق قليلة التصنيع لا تنتج ثورة عمّاليّة.

لقد انتمى كاوتسكي إلى «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ للنمسا» في 1875، وبعد خمس سنوات انضمّ إلى مجموعة من الاشتراكيّين الألمان المنفيّين في زوريخ، فيما ساهم تأثّره ببرنشتاين في اعتناقه الماركسيّة قبل أن يزور ماركس وإنغلز في إنكلترا. بعد ذاك، وبين 1885 و1890، عاش في لندن حيث توطّدت علاقته بإنغلز الذي كلّفه إعداد بعض أعمال ماركس. وفي 1891 كان هو الكاتبَ الأساسيّ لبرنامج إيرفورت للحزب الإشتراكيّ الديمقراطيّ، الذي سنعود إليه، مع مشاركة كلّ من برنشتاين وأوغست بِبِل.

ولئن بات يُعدّ بعد رحيل إنغلز «بابا الماركسيّة» الحيّ فقد اعتُبر، هو وبِبِل، ممثّلَي الماركسيّة الأرثوذكسيّة التي سمّاها البعض «الاتّجاه الوسطيّ». وقد انطوت «الوسطيّة» في استخدامها هذا على إعلاء «الصبر الثوريّ» والاستراتيجيّة بعيدة الأمد والتنظيم العمّاليّ المستقلّ وثورة أكثريّة السكّان (وهو ما يفتح على مبدأ الديمقراطيّة)، إلى جانب رفض المشاركة في حكومات ائتلاف مع البورجوازيّة. ولم يكن كاوتسكي مُنظّراً لحزب اشتراكيّ بعينه بل لجميع أحزاب الأمميّة الاشتراكيّة الثانية، فتأثّر به وبكتاباته قادة لاحقون كلينين وتروتسكي ولوكسمبورغ، بحيث ساد، بعد «ارتداده»، تمييز كاوتسكي «الجيّد» عن كاوتسكي «السيّء». أمّا خارج أوروبا، فكان لتلك الكتابات أن ساهمت في تحويل أفراد كالسياسيّ والنقابيّ الأميركيّ يوجين دِبْس إلى الماركسيّة، هو الذي رشّحه الاشتراكيّون الأميركيّون لرئاسة جمهوريّة الولايات المتّحدة أربع مرّات ما بين 1904 و1920.

لقد شارك كاوتسكي في التصدّي لـ«تحريفيّة» برنشتاين، إذ حين وجّه الأخير انتقاداته إلى الماركسيّة وإلى مفهوم حتميّة الثورة، شجبه كاوتسكي منسّباً آراءه إلى مقاربة غير طبقيّة، وإلى تخلّيه عن المبادىء العميقة والأساسيّة لـ«الاشتراكيّة العلميّة»، مؤكّداً أنّ مواقفه تفتح الطريق إلى التحالف مع العناصر التقدّميّة للبورجوازيّة من ضمن سياق غير طبقيّ، ومنتقداً ما اعتبره ضعفاً لديه في التعويل على التفسير الماديّ للتاريخ. كذلك أخذ كاوتسكي على أرقام برنشتاين ما اعتبره عدم دقّة، ورأى أنّها إحصائيّات تطال المداخيل ولا صلة لها بتوزيع الثروة21، رافضاً استنتاجاته الاقتصاديّة حول الطبقة الوسطى ومدى التركّز، إذ مع تطوّر الرأسماليّة يغدو القطاع الزراعيّ أشدّ فأشدّ اعتماداً على الصناعة، فيما يمضي التصنيع الزراعيّ قدماً. وهو، استطراداً، لم يوافقه نتائجه السياسيّة حول الإصلاحيّة والبرلمانيّة، مؤكّداً على الماديّة الجدليّة من جهة، ومبرّراً، من جهة أخرى، برنامج الحزب وتكتيكاته قياساً باشتراكيّة برنشتاين التي ما هي سوى «استكمالٍ لليبراليّة»22.

مع هذا كان واضحاً، بقياس الانتقادات الماركسيّة الأخرى التي طالت برنشتاين، وكان روّادها من منفيّي الإمبراطوريّة الروسيّة (لوكسمبورغ، بارفوس، بليخانوف…)، رصانة ردّ كاوتسكي وخلوّه من الإسفاف والتشهير المعهودين في سجالات الماركسيّين الروس، ما لامه عليه رفاقه المعتادون على طريقة أخرى في السجال23.

وفي رصد حياة كاوتسكي ومراحله الفكريّة يسود الميل إلى اعتبار العام 1909 ذروته الراديكاليّة، وذلك مع نشره الردّ المُعنوَن الطريق إلى السلطة على ماكس ماورِنبرِشَر الذي دافع عن الطريق البرلمانيّ والسلميّ كطريق وحيد إلى السلطة، وهو الكتاب الصغير الذي ظلّ يُعدّ واحداً من النصوص النموذجيّة في ماركسيّته الأرثوذكسيّة24.

لكنّ كاوتسكي، ومنذ زمن يرقى إلى 1912، رأى أنّ «غزو السلطة السياسيّة» لا يعني سوى غزو التمثيل الانتخابيّ، بالحصول على أكثريّته و«رفع سويّة البرلمان إلى الموقع الآمر ضمن الدولة، وبالتأكيد ليس المقصود تدمير سلطة الدولة»25. وهو اعتبر عامذاك أن العمل الجماهيريّ، أي احتجاجات الشوارع والإضرابات، هو «الطرق غير الطبيعيّة في الصراع» وأنّها «آحاديّة» وتعكس «تعفّن العمل الجماهيريّ»26.

بيد أنّ كاوتسكي كان صاحب رأي خاصّ به في 1914، حين صوّتت الأكثريّة الساحقة من النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين في الرايخستاغ (البرلمان) لصالح تمويل الحرب. فقد حبّذ «بابا الماركسيّة» الامتناع عن التصويت، وإن اعتبر أنّ ألمانيا تخوض حرباً دفاعيّة ضدّ روسيا القيصريّة – موضع الكراهية الأولى والدائمة لسائر التقدّميّين الأوروبيّين. وعلى العموم فموقفه من الحرب استند إلى تصوّر نظريّ أبعد وأشدّ تجانساً مع باقي أفكاره المُراجِعة، وإن كان يومذاك أقلّيّاً جدّاً في البيئة الاشتراكيّة. فالحرب، في نظره، نتيجة للسياسات الحربيّة والقوميّة التي باتت تنتهجها الدول الرأسماليّة المتقدّمة، وهذا على الضدّ ممّا رآه المؤيّدون الاشتراكيّون للحرب، لكنّ الإمبرياليّة، في نظره، ليست حاجة اقتصاديّة للرأسماليّة، بل هي سياسة لا تخدم مصلحتها، وهذا على الضدّ ممّا رآه نقّاد الحرب الراديكاليّون. وعلى أيّ حال، ففي 1915، حين تبدّت لكاوتسكي طبيعة الحرب تلك وقسوتها واحتمال ديمومتها، أصدر هو وبرنشتاين وهوغو هاس، السياسيّ والقانونيّ الاشتراكيّ والباسيفيّ، موقفاً ضدّ مؤيّدي الحرب من قادة الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، فدانوا الأعمال والنوايا الإلحاقيّة والتوسّعيّة لألمانيا. ثمّ في 1917 غادر كاوتسكي حزبه إلى «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ لألمانيا» والذي توحّد فيه جميع الاشتراكيّين من مناهضي الحرب والنزعة العسكريّة، على ما سبقت الإشارة. وبعد ثورة نوفمبر 1918 الألمانيّة، عمل نائباً لوزير الخارجيّة في الحكومة التي لم تعمّر طويلاً جامعةً الاشتراكيّين الديمقراطيّين إلى الاشتراكيّ «المستقلّ»، فنشر وثائق عن الحرب تدين ألمانيا، ثمّ في 1920، مع تشقّق الحزب «المستقلّ» وحلّه، عاد ومعه أقليّة من الحزبيّين إلى الاشتراكيّ الديمقراطيّ.

لقد كتب كاوتسكي، في هذه الغضون، عن «الماركسيّة والبلشفيّة والديمقراطيّة والديكتاتوريّة» و«عن الديمقراطيّة الاشتراكيّة ضدّاً على الشيوعيّة». وهو لئن احتفظ باللفظيّة الماركسيّة، على عكس برنشتاين، وكان يميّز بين أن يكون الحزب «ثوريّاً» (كما أراده) وأن يكون «صانع ثورة» (كما لم يُرده)، فقد خاض أكبر معاركه الفكريّة ضدّ الثورة والنظام البلشفيّين في روسيا. فهو رأى في البلشفيّة منظّمة تآمريّة استولت على السلطة بانقلاب وأطلقت تغييرات ثوريّة لا تملك أي أساس اقتصاديّ يسندها في بلدها، فيما نمتْ، في المقابل، بيروقرطيّة تسيطر على المجتمع وتتحكّم به.

فـ«رفاقنا البلاشفة علّقوا كل شيء على ثورة أوروبيّة عامة، وما دام أنّ هذه لم تحصل، وجدوا أنفسهم مضطرّين أن يتبعوا طريقاً يضعهم وجهاً لوجه أمام مهمّات لا حلّ لها»27. وهو انتقد خصوصاً، ومراراً، حلّ البلاشفة الجمعيّةَ التأسيسيّة بعدما صاروا أقلّية فيها، علماً بأنّهم كانوا قبلاً من أشدّ المطالبين بها. ذاك أنّ «الثورة العالميّة بالمعنى البلشفيّ (…) تعني ديكتاتوريّة حزب شيوعيّ يصل إلى السلطة لأنّه وحده يسيطر على كلّ الأسلحة والقوّات المسلّحة، ولأنّه ينكر السلاح على كلّ الطبقات غير البروليتاريّة وعلى كلّ الجماعات غير الشيوعيّة من البروليتاريا»، ليضيف مُصوّباً مفهوم وصول الاشتراكيّين إلى السلطة: إنّه حيث «البروليتاريا لا تستطيع أن تنتصر كأقلّيّة عبر احتكار السلاح، لكنّها تنتصر فقط كأكثريّة [بامتلاكها] الأرقام الكاسحة في [نظام] الديمقراطيّة»28.

ولم يكفّ كاوتسكي عن تمييز فهمه لـ «ديكتاتوريّة البروليتاريا» عن الفهم البلشفيّ وتطبيقاته الفئويّة، مستشهداً بكومونة باريس التي شاركت فيها كافّة القوى والجماعات البروليتاريّة، ولم يُبعِد أحدها الباقين على غرار ما فعله البلاشفة، كما كان جذريّاً في ديمقراطيّته وفي مطلب الاقتراع الشامل. وبطريقته رأى في نصوص كارل ماركس مصداقاً لفهمه، حيث أنّ ماركس لم يقصد بديكتاتوريّة البروليتاريا، وفق تأويل كاوتسكي، سوى حقّ الاقتراع للجميع ووصول البروليتاريا إلى السلطة بوصفها أكثريّة عدديّة، وهو ما لا تتيحه لها إلاّ الديمقراطيّة29. وربّما جاز القول إنّ كاوتسكي استحقّ موقعه في تاريخ الحركة الاشتراكيّة بسبب موقفه من البرلمانيّة والسلميّة بالدرجة الأولى. فالثورة، عنده، لا تكون مطلوبة أو مرغوبة إلاّ عبر الحرّيّات المدنيّة وممارسة الانتخابات الحرّة.

وردّ لينين بأن هاجم كاوتسكي في كتاب شهير حمل عنوان الثورة البروليتاريّة والمرتدّ كاوتسكي، دار في معظمه حول الدفاع عن ديكتاتوريّة البروليتاريا التي وحدها تكسر قدرة البورجوازيّة على المقاومة، والدفاع عن ثورة أكتوبر التي يُفترض أنّها تعبّر عن تلك الديكتاتوريّة، فضلاً عن الدفاع عن السوفياتات بوصفها الشكل الروسيّ للديكتاتوريّة المذكورة. وكان قد سبق للينين أن تناول كاوتسكي هجائيّاً في عمليه الشهيرين الدولة والثورة، والإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة (1917) قبل أن يكرّس له، أواخر 1918، الكتاب الصغير المذكور، متّهماً إيّاه بالليبراليّة وبتحويل ماركس إلى «ليبراليّ عاديّ»، وبتقليد المناشفة الروس، خصوصاً مارتوف، فضلاً عن كونه «ماركسيّاً بالكلام وبورجوازيّاً بالأفعال».

ولئن امتدح لينين العنف الثوريّ وفضائل «الديمقراطيّة السوفياتيّة» معتبراً، في معرض الدفاع عن حلّ الجمعيّة التأسيسيّة، أنّ «الديمقراطيّة البروليتاريّة» أكثر ديمقراطيّةً «مليون مرّةً» من أيّة «ديمقراطيّة بورجوازيّة»، فقد دان بشدّة «الديمقراطيّة الصافية» في ظلّ انقسام طبقيّ، مستعيداً بعض عناوينه الضيّقة والمتزمّتة من أن الدولة مجرّد أداة طبقيّة، وأن البنوك والبورصات، لا الحكومات، هي التي تقرّر في ظل «الديمقراطيّة البورجوازيّة». وفي هذا النصّ الزاخر بالشتائم والتشهير على طريقته المعهودة، طرق لينين مسائل أخرى مشابهة (طبيعة الحرب، واحتمالات الثورة، والموقف من الفلاّحين، والتحوّل من ثورة ديمقراطيّة إلى أخرى اشتراكيّة…)، ناعياً «إفلاس» الأمميّة الثانية، التي كان كاوتسكي منظّرها الأبرز، ومعلناً نهايتها، مع تأكيد أنّه لا يحقّ للقانون ولا لأي قانون أن يعيق اشتغال ديكتاتوريّة البروليتاريا. ولم يتردّد لينين في دفع العنف اللفظيّ إلى إحدى أعلى ذراه في تاريخ الكتابة، كأنْ يخاطب «البورجوازيّين» ممّن يبرّر حرمانهم من الحقوق السياسيّة والانتخابيّة، على النحو التالي30:

إذا حاولتم، أيّها المستغِلّون، أن تقاوموا ثورتنا البروليتاريّة فسوف نسحقكم بلا رحمة، وسوف نحرمكم كلّ الحقوق. أكثر من هذا، لن نعطيكم أيّ خبز لأنّ المستغِلّين، في جمهوريّتنا البروليتاريّة، لن تكون لهم حقوق، ولسوف يُحرمون النار والماء.

وبدوره ردّ كاوتسكي في الإرهاب والشيوعيّة: مساهمة في التاريخ الطبيعيّ للثورة، فعرّج بالنقد على كل المحاور التي يقوم عليها النظام البلشفيّ، في السياسة والاقتصاد والإعلام، كما في الريف والمدينة، وحيال النقابات والفلاّحين وأصحاب الكفاءات الذين تستخدمهم الدولة… وهو عالج هذا النظام برمّته بوصفه نتاج الكارثة الاجتماعيّة التي أنتجتها الحرب، والتي لم تنج الطبقة العاملة، وعلى شتّى المستويات، من آثارها وآثار دمارها الاقتصاديّ.

وهنا، شجب كاوتسكي بحدّة زعم البلاشفة امتلاك الحقيقة وقارنهم بمحاكم التفتيش: فهم أرادوا بالفعل تحسين أوضاع السكّان فيما اهتمّت المحاكم بأرواح الناس، إلاّ أنّهم اتّبعوا أساليبها ذاتها و«لم يكونوا أبداً يعرفون كم أنّهم بذلك يحقّرون الجماهير»، ليُدين تالياً احتقار البلاشفة الحياةَ الإنسانيّة31.

وفي نقد مبكر للماهويّة الطبقيّة المغلقة، ومعها النزعة الانتقاميّة، رأى كاوتسكي أنّ32:

البورجوازيّ، في الجمهوريّة السوفياتيّة، يبدو نوعاً فريداً من الجنس البشريّ غير قابل للتغيير. فتماماً كما يبقى الزنجيّ زنجيّاً والمونغوليّ مونغوليّاً، كائناً ما كان مظهره وملبسه، هكذا يبقى البورجوازيّ بورجوازيّاً حتّى لو أصبح متسوّلاً…

ومستخدماً العنوان نفسه، الإرهاب والشيوعيّة، كتب ليون تروتسكي «ضدّ كاوتسكي» (1920)33، مسهباً في عرض سياسات النظام البلشفيّ وخططه، وجاعلاً لغة لينين تبدو، قياساً بلغته، حمائميّة ووديعة.

فقد دافع عن استخدام الإرهاب السياسيّ وعسكرة العمّال في ظل «شيوعيّة الحرب»، وعن اعتماد الحزب الواحد وخفض قيمة الحياة الإنسانيّة لمصلحة الثورة وقضيّتها، كما دافع عن استخدام ديكتاتوريّة البروليتاريا القوةَ ضدّ أعداء الثورة. هكذا تنصّل نقّاد كثيرون، بمن فيهم تروتسكيّون كبار كالمؤرّخ اسحق دويتشر والاقتصاديّ أرنست ماندل، من هذا الكتاب، ورأى فيه نقّاد آخرون استباقاً للستالينيّة بقلم أحد أبرز ضحايا ستالين اللاحقين34. ذاك أنّ ظروف الحرب الأهليّة تبرّر، في نظر تروتسكي، كلّ شيء، فيما استخدام ديكتاتوريّة البروليتاريا للقوة ضدّ أعداء الثورة مشروعٌ بقدر ما أنّ حكم روسيا ديمقراطيّاً وبرلمانيّاً غير مشروع.

وفي هذا الكتاب الطافح ثقةً بأنّ الثورة قادمة في أوروبا الغربيّة، وأنّ كومونة باريس «ستغدو شاحبة قياساً بالانتفاضة المنتصرة القادمة للبروليتاريا الفرنسيّة»35، دينَ كلّ تفكير بموجب «توازن القوى» الذي هو «تبرير للاموقف وللركود والجبن والخيانة»36. وإذ دافع تروتسكي عن حلّ الجمعيّة التأسيسيّة واستهزأ بفكرة الانتخابات مؤكّداً، مراراً وتكراراً، على خيانة المناشفة والاشتراكيّين الثوريّين (تنظيم فلاّحيّ راديكاليّ) وعلى تعاونهم مع قوى الثورة المضادّة بما يجيز قمعهم، رأى أن الطريقة الوحيدة لكسر «الإرادة الطبقيّة للعدوّ» هي «الاستخدام المنهجيّ والنشط للعنف»37. فهذه كلّها أدوات ثوريّة مشروعة في الحرب الطبقيّة، ومثلها خنق الصحافة المعادية وإعدام الصحافيّين لأنّ الحرب «ليست مدرسة في الإنسانيّة»38. وإذ تتكرّر التعريفات الطبقيّة الصارمة والضيّقة كاعتبار الحقيقة طبقيّة، يتمّ ربط قداسة الحياة الإنسانيّة بتدمير النظام الاجتماعيّ، وهي «مشكلة لا تُحلّ إلاّ بالدم والحديد»39. أمّا في صفحاته الأخيرة، فيهاجم تروتسكي المدرسة الماركسيّة النمساويّة بعنف ويتّهمها، فضلاً عن الخيانة بـ «الجهل»، هي التي ضمّت أكبر عدد من المثقّفين اللامعين يمكن أن يضمّه حزب واحد، ليمضي في رصده ما يعتبره جيوباً كاوتسكيّة في الحركات الاشتراكيّة الأوروبيّة.

اشتراكيّون بلا ماركسيّة

لماذا طرأ هذا التحوّل الكبير الذي ولدت من رحمه الحركة الاشتراكيّة غير الشيوعيّة، والمرموز إليه هنا ببرنشتاين ثمّ بكاوتسكي؟

لقد سبقت الإشارة إلى بعض العوامل التي وسّعت المسافة بين ألمانيا عموماً، بما فيها طبقتها العاملة، والأطروحات الراديكاليّة. والحال أنّه منذ وقت مبكر نسبيّاً ظهرت علامات التوتّر بين ماركسيّة ماركس والاشتراكيّين الألمان. فعند تأسيس حزبهم في 1875 أصدر الأخيرون ما عُرف ببرنامج غوتّا، نسبةً إلى مكان انعقاد مؤتمرهم، واعتبر البرنامج أنّ العمل «مصدر كلّ ثروة وكلّ ثقافة»، داعياً إلى تحريره على يد الطبقة العاملة التي تسعى إلى «دولة حرّة في عالم اشتراكيّ وتدمير القانون الحديديّ للأجور والتخلّص من الاستغلال بكامل أشكاله وإلغاء عدم المساواة الاجتماعيّة والسياسيّة كلّها». بيد أن التدرّجيّة والإصلاحيّة في بلوغ تلك الأهداف، والتركيز على الاقتراع الشامل وحريّة الاجتماع وخفض ساعات العمل وإصدار قوانين تحمي حقوق العمّال وصحّتهم…، لم تكن كافية لتجنيبهم نقد ماركس الذي كتب في العام نفسه نقد برنامج غوتّا (وإن لم يُنشر إلاّ في 1891، بعد وفاة صاحبه). هنا، وفي مماحكة تتناول البرنامج عبارةً عبارة، عدّد ماركس وجوه اختلافه عنه في ما خصّ مفاهيم العمل والتوزيع والحقّ والأمميّة والدولة إلخ…، لكنّ ما أكسب هذا النص، على قِصره، أهميّته البالغة في الأدبيّات الماركسيّة كان تناوله مبادىء صارت مرتكزاتٍ أساسيّة، كديكتاتوريّة البروليتاريا والانتقال من الرأسماليّة إلى الشيوعيّة وطَوري المجتمع الشيوعيّ، الأدنى («لكلّ حسب مساهمته»)، والأعلى («من كلّ حسب قدرته، ولكلّ حسب حاجاته»).

وكان ما ضاعف وأدامَ الشرعيّة الماركسيّة لهذا التصوّر الجديد بالغ الراديكاليّة حول الانتقال إلى الشيوعيّة وطَورَيها، أنّ ماركس وضعه قبل ثماني سنوات فقط على رحيله، قبل أن يكرّسه فلاديمير لينين إذ استعاده بإفراط في كتابه الشهير الدولة والثورة، مُسمّياً الطور الأوّل بـ«الاشتراكيّة» والثاني بـ«الشيوعيّة».

لقد ردّ ماركس قصور «برنامج غوتّا» وإصلاحيّته وهواه البورجوازيّ إلى تلامذة فرديناند لاسال (الذي تُوفّي في 1864) ممّن نقلوا أفكاره ولغته إلى الحزب الوليد وحشدوها في برنامجه. وكان لاسال، في عرف ماركس، انتهازيّاً، يكبح مطالب العمّال للتقرّب من السلطة، ويشوّه البيان الشيوعيّ.

لكنْ كائناً ما كان الحال يبقى أنّ تلك التجربة تبقى إيذاناً مبكراً ببعض العناوين الخلافيّة التي لن تلبث أن تتصدّر تاريخ الاشتراكيّة الألمانيّة. وهو ما تَكرّس مع المؤتمر الحزبيّ الثاني الذي عقده الاشتراكيّون الديمقراطيّون في 1891 في إيرفورت، وعُرف برنامجه ببرنامج إيرفورت. فهذا أيضاً لم يبدّد الخلافات التي عبّر عنها إنغلز، وإن ذهب البرنامج الجديد المنقود بعيداً في يساريّته قياساً بسابقه.

فالبرنامج هذا الذي كتبه كاوتسكي، بمشاركة بِبل وبرنشتاين لم يقل شيئاً عن ديكتاتوريّة البروليتاريا، وإن بات يردّ جذور الحزب «إلى المعلّم الكبير ماركس». لقد أعلن أنّ الرأسماليّة إلى نهاية، وأنّ ثمّة ضرورة لقيام تملّك اشتراكيّ عامّ لوسائل الإنتاج، بوصفه انتقالاً تحرّريّاً، ليس فقط للبروليتاريا بل أيضاً لعموم الجنس البشريّ، كما أكّد أنّه من دون حقوق سياسيّة لن تستطيع الطبقة العاملة خوض نضالاتها الاقتصاديّة وتطوير تنظيمها الاقتصاديّ، ولن تستطيع إحداث الانتقال وجعل وسائل الإنتاج ملكاً للمجتمع. لهذا رأى البرنامج أن على الحزب أن يقاتل، ليس فقط ضدّ استغلال العاملين بالأجر، بل أيضاً ضدّ كلّ اضطهاد واستغلال يستهدفان طبقة أو حزباً أو جنساً أو عِرقاً، داعياً إلى حقّ الاقتراع الشامل ومجانيّة الطبابة واستبدال الجيش الألمانيّ بميليشيا عامّة وإنهاء عمالة الأطفال ومنع العمل الليليّ وجعل ساعات العمل اليوميّة ثماني ساعات…

لكنّ مواقف الحزب تلك لم تَحُل دون إعلان رغبته في بلوغ أهدافه عبر العمل السياسيّ الشرعيّ ومؤسّساته، وليس عبر نشاط ثوريّ. ذاك أنّ المؤتمر الذي صدر عنه البرنامج انعقد بعد عام على استقالة بسمارك وسقوط «القوانين» واستعادة الحزب شرعيّته بالتالي. بيد أنّ إنغلز، وفي رسالة وجهّها إلى كاوتسكي منسوجة على منوال النقاش الفِرَقيّ لماركس، أخذ على البرنامج انتهازيّةً شقّت طريقها إلى الاشتراكيّين الديمقراطيّين بفعل تخوّفهم من عودة العمل بـ «القوانين» البسماركيّة، لكنّه أخذ عليه أيضاً آراءه غير الأرثوذكسيّة في صدد الدولة والتغيير. ذاك أنّ الدستور الذي يراد العمل به ما هو، في رأي إنغلز، سوى نسخة عن دستور بروسيا في 1850، المعروف بمدى حَدّه من الحرّيّات، فيما الرايخستاغ لا يعدو كونه «ورقة توت النزعة المطلقة» (في استعارة من وليم ليبنخت)، وأمّا الرغبة في «تحويل كلّ أدوات العمل إلى ملكيّة عامّة» على قاعدة الدستور فـ «تفاهةٌ بادية»، إذ أن الأهداف التي يطرحها الحزب على نفسه لا تحقّقها إلاّ ديكتاتوريّة البروليتاريا.

لقد انتمى برنشتاين (1850-1932) وكاوتسكي (1854-1938) إلى جيل أوروبيّ تزامنت إطلالته على الشأن العامّ مع هزيمة كومونة باريس (1871)، ما عزّز قناعة أصحابه القائلة إنّ الديمقراطيّة المباشرة (عبر كومونة أو، لاحقاً، عبر سوفيات) لم تعد ممكنة في ظلّ العصر الصناعيّ وتنامي أعداد السكّان ونموّ دور الدولة وتوسّع البيروقراطيّة والتنظيم المركزيّ، وهي أفكار كانت تعزّزها أعمال سوسيولوجيّة تتكاثر حينذاك في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وقد بدت الاشتراكيّة «العلميّة» لهؤلاء طريقاً إلى تحقيق المهامّ التي لم تحقّقها ثورات 1848 وصولاً إلى الجمهوريّة الاشتراكيّة.

وتاريخ الحزب، الناشىء في 1875، كان يشجّع على تفاؤل تاريخيّ ببلوغ تلك الأهداف، رغم السنوات الصعبة لـ «القوانين» التي فرضها أوّل مستشاري الإمبراطوريّة الألمانيّة ومُوحّدها. فمع أنّ بسمارك تذرّع بمحاولتين لاغتيال القيصر وليم الأوّل لم تكن للاشتراكيّين يد فيهما، فالمرجّح أنّ ما أملى «القوانين» كان نيل الحزب في انتخابات 1877، سنة صدور «القوانين»، 493 ألف صوت. غير أنّ الإجراء البسماركيّ لم يمنع أعضاء الحزب من إحياء حملات انتخابيّة بصفتهم الشخصيّة، بحيث تمكّنوا من استثمار القمع الذي يتعرّضون له ويعود عليهم بتعاطف شعبيّ، والذي جاء مصحوباً بتطوّرين كبيرين: من جهة، توسّع أعداد الطبقة العاملة في موازاة توسّع الصناعة التي بدأت ثورتَها الألمانيّة بين أواسط القرن التاسع عشر وسبعيناته، بحيث لم ينته ذاك القرن إلاّ وقد تحوّلت ألمانيا إلى واحدة من أكبر ثلاثة بلدان صناعيّة في العالم، إلى جانب بريطانيا والولايات المتّحدة. أمّا من جهة أخرى، فكان التحوّل الانتخابيّ الكبير العائد إلى 1871، سنة كومونة باريس وهزيمتها وإتمام توحيد ألمانيا. فعامذاك أجريت للمرّة الأولى انتخابات على مدى المملكة تستند إلى الاقتراع المباشر والمتساوي الشاملِ جميعَ الرجال، ما عُدّ في حينه نقلة ثوريّة كبرى (تأخّر اقتراع النساء حتّى 1918). وسريعاً ما ظهر الانعكاس السياسيّ لتعاظم أعداد المقترعين، فشهدت انتخابات 1874 ارتفاع نسبة التصويت للاشتراكيّين الديمقراطيّين من 3 بالمئة إلى 7 بالمئة من المجموع، وصولاً إلى 9 بالمئة في 1877. وعلى العموم، ورغم «القوانين»، تمكّن الاشتراكيّون الديمقراطيّون، مستفيدين من تلك التحوّلات، من المضيّ في رفع نسب التأييد لمرشّحيهم بصفة فرديّة ممّا شهدت عليه انتخابات 1884 (حيث نالوا أكثر من مليون ونصف مليون مقترع) ثمّ انتخابات 1887. ومع استقالة بسمارك وانقضاء العمل بقوانينه، فضلاً عن استعادة الحزب شرعيّته، تكشّف الاشتراكيّون الديمقراطيّون عن امتلاك قاعدة انتخابيّة عريضة صوّتت لهم في 1890 وقُدّرت بخُمس مجموع الألمان. وبالفعل بات الاشتراكيّون الديمقراطيّون الحزبَ الأكبر في بلادهم والحزب الاشتراكيّ الأكبر في العالم، هم الذين تضاعف عدد مقترعيهم في 1898 عمّا كان في 189044. وبعدما كانوا لا يعدّون عند تأسيس حزبهم في 1875 سوى 352 ألف عضو، راحت أعدادهم تتنامى أضعافاً، جاذبةً إليهم مقترعين من الطبقة الوسطى، فيما جعلت قيادتهم تعقد تحالفات «تكتيكيّة» مع الليبراليّين لتمرير إصلاحات محدّدة.

هكذا جاء برنامج إيرفورت يجمع بين أمرين ليسا متجانسين: إشهار راديكاليّ لبرنامج حدّ أقصى (الثورة كهدف أخير) ينمّ عن تجذّر الحزب إبّان سنوات «القوانين»، وعن تراجع ثقته (اللاساليّة المصدر) بالدولة (وكان الحزب، منذ 1880، قد أزال تعبير «شرعيّ» (legal) من برنامج غوتّا المعتمد حينذاك)45، والأمر الآخر برنامج حدّ أدنى (الإصلاحات المُلحّة) محكوم بالنجاحات الانتخابيّة وآفاقها الواعدة، وهو ما تركّزت عليه جهود الحزبيّين السياسيّة والعمليّة بدفعٍ من قيادتهم التي كانت تتولاّها كتلة الحزب البرلمانيّة.

وما لبثت أن اندفعت، في 1905، وبالتفاعل مع مناخات الثورة الروسيّة عامذاك، تيّارات بات يصعب التوفيق بينها داخل حزب واحد. فقد باشر فريدريش إيبرت، أحد قياديّيه وألمع مُنظّميه (الذي بات لاحقاً، إبّان جمهوريّة فايمار، أوّل رئيس للجمهوريّة)، مأسسة الحزب وتحديثه للمرّة الأولى منذ تأسيسه، عاملاً على تحسين شروطه في العمل البرلمانيّ ورفع نسبة تجانسه مع النقابات ذات التركيب البيروقراطيّ هي الأخرى. ولئن تأدّى عن جهود إيبرت تزييت آلة الحزب الإداريّة وشحذ فعّاليّته وتوسيع عضويّته، ومن ثمّ دمجه بالنظام في معناه العريض، فهذا ما لم ينظر إليه بارتياح راديكاليّو الحزب الذين تخوّفوا من القوّة التي سيمنحها لسياسيّيه. وإيبرت، في آخر المطاف، كان موظّفاً حزبيّاً نمطيّاً ينظر إلى التنظيم بوصفه مهمّة من طبيعة استراتيجيّة في المجتمع الحديث، وهو ما انتزع ترحيب ليبراليٍّ كالسوسيولوجيّ ماكس فيبر الذي قرأ في صعوده ابتعاداً من الحزب عن الثورة والطرق الثوريّة.

وفي الفترة نفسها انطلق ما بات يُعرف بـ «السجال حول الإضراب الجماهيريّ» ضمن أحزاب الأمميّة الثانية، خصوصاً الحزب الألمانيّ، حيث دعت لوكسمبورغ إلى استخدام إضراب كهذا في ألمانيا لإحراز أهداف سياسيّة وتدريب الطبقة العاملة على الثورة ورفع وعيها الطبقيّ، وإن خالفت الفوضويّين في المماهاة التي أقاموها بين الإضراب والثورة. وبالفعل، وهذا ليس قليل الدلالة، كانت الحكومات الأوروبيّة التي أقلقتها ثورة 1905 الروسيّة، تقدّم حينذاك تنازلات على صعيدي القانون الانتخابيّ وحقوق العمل المنظّم. وفي ألمانيا تحديداً، وردّاً على إضرابٍ لعمّال المناجم شهده العام نفسه، استجابت الحكومة بسرعة للمطالب عبر تشريعات برلمانيّة، عاكست فيها رغبات أرباب العمل، فتفسّخ الإضراب.

لقد ساجلت لوكسمبورغ ضدّ النقابات الألمانيّة لتردّدها في مواجهة السلطات السياسيّة وفي استفزازها، ومن ثمّ «إعاقتها تحرّرَ الجماهير الكادحة»، وكتبت نصّها المعروف عن «الإضراب الجماهيريّ والعمل السياسيّ والنقابات». لكنّ مؤتمر مانهايم الحزبيّ، الذي انعقد في 1906، كان قد حسم النقاش الذي كسبته النقابات «الرجعيّة» في مواجهة المتأثّرين بالمناخ الروسيّ. هكذا أقرّ المؤتمر مبدأ الإضراب الجماهيريّ كمجرّد تكتيك شرعيّ، إلاّ أنّه منح النقابات حقّ الفيتو في ما خصّ الإضراب العامّ.

واقع الأمر أنّ ما كان يقوّي الاقتصاديّ على السياسيّ، والوطنيّ المعتدل على الأمميّ المتطرّف، داخل الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، أنّ القوى القوميّة والإمبرياليّة كانت، على العموم، إصلاحيّة في ما خصّ الطبقة العاملة، ضدّاً على التبسيط الذي يقيم ربطاً حصريّاً بين «العداء الإمبرياليّ للشعوب» و«العداء الرأسماليّ للطبقات الكادحة». فالمستشار بيلو مثلاً، الذي عُرف بتوجّهاته الإمبرياليّة، عُرف أيضاً بتنازلات قدّمها للعمّال، شأن تمديد فترة التعويض عن الحوادث التي تطرأ، وتوسيع نطاق عمل محاكم البتّ في النزاعات الصناعيّة، وتطوير الضمان الصحّيّ، ووضع قيود على عمالة الأطفال، وتحسين شروط الاقتراع السرّيّ وتقنيّاته…

وبما يبدّد السرديّة السوفياتيّة اللاحقة حول «خيانة» الطبقات العاملة الأوروبيّة و«ارتشائها»، يضيف المؤرّخ ستانلي بيرسون سبباً آخر في تأويل التنازع المعقّد داخل الحركة الاشتراكيّة الديمقراطيّة وحزبها. فهو درس العلاقة المضطربة، بل السيّئة، التي امتدّت على مدى عقود بين الطبقة العاملة الألمانيّة والمثقّفين الماركسيّين الذين أرادوا خلق «ذهنيّة» عمّاليّة جديدة و«تنوير الجماهير وتنظيمها». والحال أنّ إلغاء «القوانين» البسماركيّة وتوسّع الإقبال، العمّاليّ وغير العمّاليّ، على الحزب، تزامَنَا مع تعاظم دور المثقّف والأكاديميّ الذي تفرزه الجامعة ويلحّ عليه التوسّع الرأسماليّ ووظائفه. هكذا، ومثلما بدأ يظهر سياسيّون محترفون يحلّون محلّ أولئك الوافدين إلى الدور العامّ من ملكيّة الأراضي والبيوت الصناعيّة والتجاريّة، انكمش المثقّف الجزئيّ (part time) لصالح فئة اجتماعيّة تعيش من عملها هذا. ومع توسّع الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ ومأسسته وتعويله على النشاط الانتخابيّ، تعاظمت حاجته إلى المثقّف والأكاديميّ اللذين يتولّيان أمور الإعلام والتثقيف والصياغة. ويبدّد بيرسون بعض الخرافات حول «ثوريّة» الطبقة العاملة و«أمميّتها»، كما حول صلة «المثقّفين الثوريّين» بالسياسة واحتمالاتها، وتالياً بـ «الجماهير» بوصفها حاملةً لهموم محدّدة وملموسة. فهذه المشكلة التي شغلت كاوتسكي، ومن بعده لينين، يردّ الكاتب أصولها إلى ماركس المنتمي بدوره إلى الشريحة المتعلّمة من البورجوازيّة التي باشرت ظهورها مع أواسط القرن الثامن عشر وأطلقت عليها الألمانيّة تعبير بِلدونغسبورغِرتوم .(Bildungsburgertum)

فالثوريّة، من ثمّ، بدأت شغفاً رومنطيقيّاً اكتُسب في الجامعات، لا في المصانع، فيما زوّدته الهيغليّة بأنيابه الفلسفيّة. لكنّ هذه البيئة ما لبثت أن تمرّدت من خلال «الشبّان» (Jungen) على الحزب، حيث رأى رموزها أنّهم يتفوّقون في فهم الماركسيّة على فهم القادة الحزبيّين. لا بل، وفي استغراقهم النظريّ هذا، بدت لهم محاولات «تحسين مستويات معيشة العمّال» هدفاً مقزّزاً. ووجدت النزعة هذه تعبيرها اللاحق في روزا لوكسمبورغ (وكلارا زِتكِن وفرانز مهرينغ…) ممّن تجاوزوا العمّال وحركتهم النقابيّة يساراً، لكنّها وجدت تعابير مختلفة أخرى كالتي جسّدها الكاتب والقصّاص بول إرنْست (1866-1933) الذي انكفأ إلى مسيحيّة صوفيّة، حيث الحاضر غير مهمّ بل المستقبل هو المهمّ، وتحديداً المستقبل الروحيّ لا الماديّ، فيما الماركسيّون عنده يكتفون بإحالة الكائن الإنسانيّ إلى «نتاج للبيئة عديم الإرادة». ومثلما بدت السياسة للمثقّفين معطى ملوّثاً، محفوفاً بالتنازلات غير المبدئيّة، بدت الثقافة للعمّال رحلة موغلة في الفانتازيا. ومنذ مؤتمر الحزب في كولون عام 1893 ظهر الصوت العمّاليّ المتخوّف من دور التعليم الأكاديميّ ومن تشكيله خطراً على الطابع البروليتاريّ للحركة. فالمتعلّمون والمثقّفون لم يتركوا جبهة «العدوّ» التي جاؤوا منها إلاّ لأنّها لم توفّر لهم العمل والمداخيل، أمّا بقاؤهم «معنا» فمرهون بالأجور التي يتقاضونها من العمّال جرّاء عملهم في مؤسّسات عمّاليّة، إعلاميّة وتثقيفيّة وتحريضيّة، لكنّهم «سوف يخونوننا عند أوّل ساعة خطر». كذلك ظهرت أصوات تشكّك بقدرة المثقّفين على التضامن مع الطبقة العاملة، إذ «المتعلّمون غالباً ما يرون أنفسهم جزءاً من طبقة أخرى» . وما لبث النقاش هذا أن توسّع وتشعّب بحيث حاول كاوتسكي مصادرته وإعلان الكلمة الفصل التي تقدّم الصياغة النظريّة لعلاقة الاشتراكيّين الديمقراطيّين بـ «البروليتاريا الفكريّة»، وهو ما انكبّ عليه لاحقاً لينين في ما العمل؟. لكنْ، وبعيداً عن هندسات الصياغة النظريّة، كان يتبدّى أنّ تغيير ذهنيّة الطبقة العاملة من خلال الماركسيّة ميؤوس منه، وأنّ علاقة الطرفين آيلة إلى انهيار وشيك.

لقد مضى الاشتراكيّون الديمقراطيّون في عملهم على بناء الحزب كجهاز سلطة وعلى توسيع قاعدته وتطوير علاقته بالنقابات، من ضمن استراتيجيّة التعويل على البرلمان والانتخابات. وبدورها كانت الحصيلة تبدو مشجّعة في عمومها، وإن تخلّلتها انتكاسة كبرى وكبيرة الدلالات طرأت عام 1907. فحينذاك، وبالاستفادة من أوضاع أوروبيّة ودوليّة ملبّدة، نجح المستشار بيلو في تحويل الانتخابات العامّة إلى استفتاء حول القوميّة وموقع ألمانيا «تحت الشمس» ودورها الإمبرياليّ، وبالتالي عموم السياسة الخارجيّة. هكذا انخفض عدد النوّاب الاشتراكيّين الديمقراطيّين المطعون بوطنيّتهم (كونهم الطرف الوحيد المناهض للحرب يومذاك)، والذين تخلّى عنهم حلفاؤهم «تقدّميّو الطبقة الوسطى»، من 81 نائباً إلى 43. وكان لتلك الهزيمة المُرّة أن فاقمت تناقضات الحزب الداخليّة، فاتّهمَ الوسطيّون الراديكاليّين بتنفير الحلفاء وبطرح شعارات طبقيّة أخافت الجميع وسهّلت التشكيك بوطنيّة الاشتراكيّين. هكذا جاء مؤتمر إسِّنّ ليُظهّر الفارق بين الذين يبرّرون العمل الحربيّ في مواجهة روسيا شرط أن يكون من طبيعة دفاعيّة، رافضين استخدام الإضراب العامّ في مواجهة حرب كهذه، والحريصين على أنّ «مصلحة الطبقة العاملة» ينبغي أن تحظى بالأولويّة، وأنّها هي التي يجب أن تملي السياسات والاستجابات. وفيما كان كاوتسكي يومذاك من أنصار وجهة النظر الثانية، محبّذاً تصعيد الهجوم ضدّ الوطنيّة ومعوّلاً على الفرز الطبقيّ والتميّز عن الطبقة الوسطى، لأنّ الصراع الطبقيّ هو ما يدفع الحلفاء الرجراجين في تلك الطبقة بعيداً، قاد أوغست بِبل، متحالفاً مع إيبرت، التيّار الوطنيّ الذي أراد أن يمحو عن الحزب «وصمة العداء للوطنيّة» ويُطمئن «النقّاد البورجوازيّين».

وفي العام نفسه، 1907، انعقد، في شتوتغارت، المؤتمر السابع للأمميّة الاشتراكيّة. هناك دافع المعتدلون عن الحدّ من صلاحيّات المؤتمر، متخوّفين من أن تعتمد الأمميّة خطّاً متشدّداً في مسائل السياسة الخارجيّة. فالمؤتمر الأمميّ ليس السلطة الصالحة لتحديد سياسات البلدان المعنيّة، ناهيك بفرض الإملاءات والمطالبات، لأنّ الفروع المحلّيّة هي التي ينبغي أن تتمتّع بسلطة القرار. وفي المقابل، أصرّ الراديكاليّون، انطلاقاً من أمميّتهم، على أن تكون للأمميّة اليد العليا. وكان الوفد الألماني الأشدّ انحيازاً إلى الرأي الأوّل المدعوم من النقابيّين كما من معتدلي الحزب وبيروقراطيّيه. وعلى أيّ حال، صُنّف مؤتمر شتوتغارت منعطفاً في تاريخ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة انتقلت معه إلى ما وصفه نقّادها بالتسامح مع الكولونياليّة والنزعة العسكريّة والحرب. وهنا أيضاً جاءت النتائج السياسيّة مثمرة ومكرّسةً لشرعيّة الحزب الوطنيّة، بحيث أنّ الذين صوّتوا له في انتخابات 1912 مثلاً، وجعلوه الحزب الأوّل في البرلمان، بلغوا 4،25 مليون مقترع.

هكذا لم يعد برنامج إيرفورت، الأشدّ ارتباطاً باسم كاوتسكي، والذي كان لا يزال معتَمَداً حزبيّاً، موضع أيّ إجماع ولو في الحدّ الأدنى. فمن جهة، راح برنشتاين وبِبِل يطالبان بمزيد من التوافق مع النقابات ومع «تقدميّي الطبقة الوسطى»، بينما غدت لوكسمبورغ وكارل ليبنخت أشدّ إصراراً على برنامج للحزب يكون أشدّ ثوريّة وتصلّباً. ومع وفاة بِبِل (المولود في 1840) عام 1913 وانتقال القيادة الحزبيّة إلى إيبرت (المولود في 1871)، طُويت صفحة القادة الذين عاصروا ماركس وإنغلز وعاشوا البدايات والأعمال التأسيسيّة، فمضى القائد الجديد يمتّن السلطة الحزبيّة مستخدماً تعبئة روسيا الحربيّة ذريعةً لتأييد الحرب، حتّى إذا انتهت الأخيرة بعد أربع سنوات، شغلَه توطيد «ديمقراطيّة بورجوازيّة» تمثّلت في جمهوريّة فايمار.

لحازم صاغية.

ملتقى العربيين- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate