حداثة و ديمقراطية

الفينومينولوجيا التأويلية عند مارتن هايدغر

   لقد كان لكتاب الوجود و الزمان(1927) أثرا حاسما على الفينومينولوجيا و الهرمينوطيقا من خلال السياق الجديد الذي وضعهما فيه هايدغر ،وهذا طبعا من خلال تأسيسه للفينومينولوجيا التأويلية ، إن أن هايدغر لم يستطيع أن يؤسس نظريته بعيدا عن أستاذه هوسرل فقد ” وجد هايدغر في فينومينولوجيا إدموند هوسرل أدوات تصورية لم تكن متاحة لغيره “، و هذا لأن الفينومينولوجيا فتحت عالما جديدا، و أتاحت فهم الظواهر فهما سابقا على التصورات الذهنية و الحسية.

فرغم تأكيد هايدغر على الأهمية التي تحظى بها أعمال هوسرل لديه خاصة الأبحاث المنطقية منها غير أنه و بعد انتهائه من الوجود و الزمان سيضع الكثير من تصوراته المبكرة التي تعود إلى أستاذه هوسرل في سياق جديد و بالفعل “فإن مصطلح الفينومينولوجيا قد اختفى من كتابات هايدغر التي تلت الوجود و الزمان ، وهو إذ كان يلجأ إليه بصفة ثانوية في بعض مؤلفاته كمحاضرته ” حول فينومينولوجيا الروح” (1930-1931) و بحثــــــــه  ” Vom Wesen des Grundes ” الذي ألفه بمناسبة الذكرى السبعين لميلاد هوسرل ، و “رسالته حول النزعة الإنسانية”، و بهذا فإن هايدغر لم يتحدث عن الفينومينولوجيا بعد عام 1927 إلا بصورة نادرة جدا و في أحيان مذكورة ، وهذا ما جعل الكثير من النقاد يقرون بأن هايدغر لم يتحدث عن الفينومينولوجيا بعد كتابه العمدة ” الوجود و الزمان “، لكن هذا لا يعني أن هايدغر قام بخيانة أستاذه هوسرل حين أراد أن يؤسس مشروعه الخاص بعيدا عن أستاذه ، بل كان يرى في موقفه تطويرا للفينومينولوجيا ذاتها ، و هذا رغم أن هوسرل لم يكن يرى في مدونة 1927 لهايدغر ” كتابا جديرا بأن يكون له إستحقاق فينومينولوجي فعلي و لا لــه نسبـــة إلى الفينومينولوجيا بوجه عام .ذلك أنه قد تبينت له عند قراءة هذا الكتاب و التعليق عليه بملحوظات هامشية أن السبل قد تفرقت بهما و تأكد له ما كان عنده أشبه بالأمر اليقين منذ عهد ليس ببعيد .فقد ينظر لهذه اللحظة فعلا بكونها فاصلة حاسمة بين الرجلين اعتمدت مقدماتها منذ أوائل العشرينيات ، وقد تؤخذ مجرد لحظة من لحظات المناظرة بين فيلسوفين هما رغم سني العمل مفترقان منذ البدء بلا شك.”.إذ هنا لا بد من الإشارة إلى تلك الإشكالية التي طرحت و التي مفادها هل تخلى هايدغر عن هوسرل و عن الفينومينولوجيا الهوسرلية و غادرها أم بقي رهينا لها ؟ و لهذا نجد الكثير من يقر بشأن هذه  القطيعة بين الفيلسوفين و يقول أنها قطيعة مستمرة خاصة عندما اكتشف هايدغر الفينومينولوجيا التأويلية، وهناك من يقول بأن ما نتحدث عنه باعتباره قطيعة فإن هذه لم تكن قطيعة بل هو صمت مطول التزم به هايدغر اتجاه هوسرل ، ولا يسعنا المقام هنا للحديث عن هذه الإشكالية و لهذا فقد قمت بالإشارة إليها وهذا لأهميتها منهجيا في سير البحث ، وحتى نتمكن من استبيان دواعي التأسيس للفينومينولوجيا التأويلية.

” فليس من الضروري لكي يكون الفيلسوف فينومينولوجيا أن يكون هوسرليا قلبا وقالبا ، بل إن هذا ضد مصلحة الفينومينولوجيا ذاتها و ضد طبيعتها كمنهج “مفتوح” قابل للتطوير”، إذ  أن صاحب مدونة 1927 كان يرى في نفسه أنه أكثر وفاء للفينومينولوجيا و الرجوع إلى الظواهر من أستاذه هوسرل الذي اهتم بتفسير الظواهر انطلاقا من الذات المتعالية بدلا من تفسيرها انطلاقا من حقيقة الوجود و الواقع ، وهذا ما جعل هايدغر يعمل على إحداث ذلك المنعطف الفينومينولوجي و الأنطولوجي الذي ميز فكره و فلسفته ، وهذا ما سنتبينه في المباحث اللاحقة.

فقد كان هايدغر يرى في موقف أستاذه أنه موقف فاقد لمعالم الطريق المؤدي إلى الظواهر ، ” فهايدغر كان يود في قرارة نفسه أن تكون فينومينولوجيته أكثر فينومينولوجية مما هي عليه ، و من ثمة أكثر هرمينوطيقية من فينومينولوجيا و من هرمينوطيقا هوسرل على حد سواء”، و هذا ما جعل بول ريكور يتحدث عن “تخريب للفينومينولوجيا من قبل الهرمينوطيقا “، و يتحدث أيضا عن قلب لفينومينولوجيا هوسرل من قبل هرمينوطيقا هايدغر و الهرمينوطيقات اللاحقة (غادامير و ريكور نفسه)، إلا أن هذا لا يجب أن يجعلنا نغفل النظر عن العلاقات الممكنة بين الفينومينولوجيا و الهرمينوطيقا و التي استقرت في البحث عن إسهام هوسرل في الأفق التأويلي للفكر و هذا الإسهام سنعمل على توضيحة في الفصل الثالث.

إننا نجد بول ريكور يقول : ” إن ما هدمته الهرمينوطيقا الهايدغرية ليس الظاهراتية ، و إنما واحدة من تأويلاتها ، أي تأويلها المثالي من طرف هوسرل نفسه”، وعليه فإن هايدغر ليس في مقدوره تجاوز الفينومينولوجيا لأن الهرمينوطيقا الهايدغرية لا يمكنها أن تؤسس ذاتها دون افتراض فينومينولوجي” فليس للفينومينولوجيا أن تستعاد إلا بنحو فينومينولوجي “.إذ أنه و بالعودة إلى إبتعاد هايدغر عن هوسرل فإن هذا الابتعاد لا يجب أن يفهم على وجود إزدواجية في فكر هايدغر ، بل هي قطيعة راجعة إلى كيفية تصور كل واحد منهما للفينومينولوجيا .فهايدغر لم يكن في نظر هوسرل فينومينولوجيـــا بالمعــنى الدقيــق للكلمة ، بل كان فيلسوفا أنثروبولوجيا و نظر إلى كتابه ” الوجود و الزمان “على أنه نوع من الواقعية المدرسية القديمة لأنه يتجاهل منهج الرد الفينومينولوجي و المثالية الترنسندنتالية ، أما هايدغر فقد كان يرى أن هوسرل هو من لم يكن فينومينولوجيا بالمعنى الحقيقي لأنه ” حبس نفسه في دائرة الأنا الواعي و جعل من الوجود متضايفا إلى الوعي على نحو قبلي ، بمعنى أنه جعل ماهية الوجود مستنفدة في كونه موضوعا للوعي ، و بذلك يفقد كل موجود بما في ذلك الموجود الإنساني –دلالته و معناه . وهذا يعني أن موقف هوسرل …قد حجب عنا في نظر هايدغر وجود الموجود”، حيث أن ذلك التحول و الانتقال من الفينومينولوجيا إلى الهرمينوطيقا سيحدث من خلال ذلك الإنتقال من ” »الحدس المحض «  منبعا حضوريا لانعطاء الوجود على منوال الماهية و انتسابها إلى منوال الوعي ، إلى »الحدس التأويلي « أفقا لتجديد القول الفلسفي في المعنى بما هو فهم لفاعلية الحياة ، فعليّتها في الوجود “، فقد انتبه هايدغر إلى أن أهمية الفينومينولوجيا تتأتى من الحدس و قدرته على استحضار الوجود من خلال فعل الرؤية ، أي قدرة الفينومينولوجيا على تمثل الأشياء اللاواقعة أمامنا .

فمسألة القطيعة بين الشخصين تعود إلى السوال المتعلق بكيف يكون الفيلسوف وفيا للفينومينولوجيا ؟ أي كيف يكون الفيلسوف فينومينولوجيا ؟ لكن يبقى التأكيد على أن هذه العلاقة المتوثرة أحيانا بين الفيلسوفين تكون قد خدمت الفينومينولوجيا أكثر مما أضرت بها .

و هايدغر نفسه نجده يؤكد أن ” منهجه هو المنهج الفينومينولوجي ( الظاهراتي ) لكننا نخطئ لو تصورنا أنه يأخذ ببساطة مفهوم هوســــرل للظاهريــات كــفلسفـــة ترنسندنتالية تصل في مراحلها الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الوعي بالذات) الخالص…و يبرر مع عرفانه بفضل هوسرل عليه تنصله من الظاهريات فلسفة واتجاها ، و استفادته منها منهجا وطريقا للكشف عن أشكال الوجود “، هكذا يصرح هايدغر في “نداء الحقيقة” أن السؤال عن الوجود هو الذي حرك فكره ، و هو يلجأ إلى بلورة مسألة الوجود إلى المنهج الفينومينولوجي الذي يعبر عن مبدأ العودة إلى الأشياء ذاتها .

و الفينومينولوجيا كمنهج تجد في نظره كل معناها في الهرمينوطيقا لأن الأبعاد الأصلية لأي منهج فينومينولوجي تجعله هرمينوطيقيا بالضرورة ، وهكذا يجب أن تفهم الفينومينولوجيا باعتبارها ” التفسير الهرمينوطيقي للوجود. وبعبارة أخرى :مهمة الفينومينولوجيا ستكون مماثلة لمهمة الهرمينوطيقا “.إذ أن الظاهراتية تعني بالنسبة لهايدغر ” تحرير الظواهر”أي تحريرها من الاختفاء ،و هكذا أصبحت مشكلة الوجود مرتبطة بالعلاقة بين الفينومينولوجيا و الهرمينوطيقا خاصة و أن الفينومينولوجيا التي أنشأها هايدغر يطلق عليها إسم الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية .

إن رغبة إدموند هوسرل في أن يقيم و يؤسس العلم الكلي أو الفلسفة الشاملة أي رغبته في تحويل الفلسفة إلى علم دقيق جعلته يتحدث عن ” التعليق الفينومينولوجي” و عن الذاتية باعتبار أن التعليق هو منطلق تأسيس العلم الكلي أو العلم الجديد الذي هو علم البدايات بغية أن يجعل من الفلسفة علما شاملا و تحقيق حلم الأولين في أن يجعل من الفلسفة مصدرا لكل العلوم و المعارف.فالتعليق يقوم على أساس التوقف عن اتخاذ أي حكم اتجاه الأحكام السابقة و المعتقدات و الآراء السابقة أيضا.” هــــذا هو المعنى الحقيقي للتعليق الفينومينولوجي ، إنه يحيل نظر الوعي إلى ذاته ، و يحوّل اتجاه هذا النظر و يرفع النقاب الذي كان على الأنا تحقيقه .فالعالم بهذا التعليق لا يعدم أو يزول و إنما ، يوضع على حدة مؤقتا ، ” إنه يظل حيا ، و لكن تحت شكل معدل يمكن للوعي أن يظل كليا و عي ذاته”و هذا ما جعل هوسرل يعتقد جازما أن ” الفينومينولوجيا حققت برأيه صفة المنهج ، الفلسفة.و ارتقت إلى العلم الكلي ، لما استخدمت التعليق الفينومينولوجي “،وهذا التعليق الفينومينولوجي يشير إلى أن الموضوع ليس مستقلا عن الذات و هذا ما تصوره لنا الفينومينولوجيا من خلال مبدأ القصدية،فالفيلسوف عليه أن لا يسلم بكل الآراء السابقة ، و إنما وجب عليه أن يضعها موضع شك أي إيبوخيه،و ليتمكن من وصف ما هو معطى أي وصف الظاهرة وجب عليه إزالة كل هذه العوائق القائمة بين الذات و موضوعاتها ، إذ أن ” وصف المعطى مبدأ مهم في الفينومينولوجيا اتسع أفقه مع هايدغر ، لأن الفينومينولوجيا التأويلية تحتاج إلى وصف ما يتجاوز الخبرة الحسية المباشرة .هناك من الخبرات ما يصعب وصفها وصفا مباشرا ، كان التأويل تحولا للوقوف عند حقيقة ما هو غير معطى دون التخلي عن المعطى المباشر” هذا هو إذن المنعطف الهرمينوطيقي  للفينومينولوجيا الذي سيعمل هايدغر على تدشينه و التأسيس له ، طبعا انطلاقا من فينومينولوجيا هوسرل.و هذا من خلال الوقوف عند ما هو معطى و عند ما هو غير معطى، أي الوقوف عند ما هو ظاهر و ما هو غير ظاهر.فإذا كانت الظاهراتية عند هوسرل تعني الرجوع إلى الظواهر ذاتها ، فإنها عند هايدغر و كما أشرنا من قبل تعني تحرير الظواهر من الخفاء و الاختباء.و لهذا فلقد كان ” تاريخ الظاهراتية مسألة منعطفات ، إن لم يكن هذا هو قدرها .لقد كانت بالنسبة لهايدغر منعطفا فكريا…بما أن ظاهرة الظاهراتية هي أولا ما لا ينجلي ، لم يعد أمامنا سبيل للوصول إليها غير سبيل العقل الذي يسمح لنا » بالرؤية « .لا نملك طريقا أخر للذهاب توا في اتجاه مسألة الكينونة غير طريق الكلام الذي يجعل طريق هايدغر عبر الظاهراتية هو الطريق الذي ينتقل من» العودة إلى الأشياء ذاتها «  إلى الإستماع إلى الكلمات أو إلى الشعراء الذين يستمعون إلى الكلمات  و لا سيما إلى الشاعر هولدرلين”.إذ من خلال الشعر نتوصل إلى قول ما كان في البدء غريب عنا أو هو متحجب و لهذا عمل هايدغر على الإستماع إلى الشعراء و على رأسهم هولدرلين الذي ما فتئ هايدغريعجب بأشعالاه، حيث أصبح الأمر هنا يتعلق بمنعطف ظاهراتي يسير من “صرامة العلم إلى صرامة الشعر”.فإذا كانت الفينومينولوجيا عند هوسرل تفترض أنه لكي نصل إلى تأويل صحيح للموضوع يلزمنا إطار ذهني هو الأخر صحيح ، مبعدة و مقصية بذلك لكل الأطر الخارجية التاريخية منها و الثقافية و هذا تطبيقا لشعار الفينومينولوجيا الأساسي المتمثل في “العودة إلى الأشياء ذاتها” و بهذا أصبح “النص يعكس إطاره الذهني الخاص …أن تفسر يعني أن تعزل النص منهجيا عن كل ما هو دخيل عليه…فهدف الفينومينولوجيا هو أن تقبض على حقيقة النص كما هي ، دون أي تلوين من الذات أو إسقاط من القارئ.فالتأويل من الوجهة الفينومينولوجية ليس شيئا يفعله القارئ بل هو شيء يحدث له “و هكذا فإن الفينومينولوجيا شأنها شأن الهرمينوطيقا الرومنسية عند شلاير ماخر ودلتاي التي تقصي كل الفروض المسبقة في عملية التأويل ،هذه الفروض المسبقة التي سيؤكد هايدغر عليها من خلال إقراره بالبنية المسبقة للفهم ، حيث يقــــــــول :“التأويل ليس على الإطلاق فهما بلا فروض مسبقة لشيء ما معطى مقدما”،و هذا لأن أي محاولة للوصول إلى تأويل خال من أي تحيز أو فرض مسبق هي محاولة فاشلة بحسب هايدغر ، وهذا لأن ما يظهر من الشيء أو الموضوع هو ما يسمح له المرء أن يظهر و هنا تحضر الفروض المسبقة التي تلعب دورها في عملية الفهم و التأويل.و هكذا فإننا نجد ” التأويل الظاهراتي أو الهرمينوطيقا يشدد على فعل التوسط بين المؤوِل و المؤوَل .فالتأويل هو إتخاد مكان في المابين: مثل الطريق التي يرسمها هرمس الرسول الذي يرتحل بين زيوس و الألهة الأخرى.”، وهكذا فإذا ما كانت الفينومينولوجيا تقوم على وصف معنى الشيء ، فإن التأويل الفينومينولوجي لا يكتفي بوصف هذا الشيء و إنما يقوم على فعل إنتاج المعنى و تأسيسه و هذا هو دور الفينومينولجيا الـتأويلية المطورة عن فينومينولوجيا هوسرل ذاته .

فإذا كان هوسرل قد وضع كل ثقل الفينومينولوجيا في الوعي أي في تلك الذات الترنسندنتالية وعلاقتها بالعالم ، فإن هايدغر و من خلال طرحه لقضية الوجود فإنه سيقوم ” بنقل مركز ثقل الفينومينولوجيا من الإبستيمولوجيا أي من الوعي في علاقته بالعالم إلى الأنطولوجيا ، أي إلى الوجود الإنساني في علاقته بالعالم”، فكانت الفينومينولوجيا هي المنهج الوحيد الذي بإمكانه أن يقربنا من الوجود ، و هذا ما يعني أن الأنطولوجيا لن تكون ممكنة إلا بوصفها فينومينولوجيا .وهنا سيقوم هايدغر و لأجل إنجاز و إنجاح منعطفه الفينومينولوجي الهرمينوطيقي بتحويل التأويل  الفينومينولوجي باعتباره يقوم على أساس فهم الذات لذاتها ، إلى فهم الذات للأخر ، للنصوص ، للظواهر، …و هذا إنطلاقا من الصياغة الجديدة التي قدمها هايدغر للفينومينولوجيا من خلال عودته إلى الجذور الإغريقية لمعناها أصبحت تعني ” ترك الأشياء تظهر على ما هي عليه” أي تكشف عن نفسها وهذا عكس المعنى الذي اعتدنا عليه و الذي مفاده أننا نحن من يتجه إلى الأشياء ، أي توجه الوعي نحو الأشياء.و هذا ما جعل هايدغر يرفض الانخراط في فينومينولوجيا هوسرل، داعيا إلى فينومينولوجيا تأويلية.

و الأشياء تكشف عن نفسها من خلال الفهم الذي قد أسيء فهمه حسب ما يرى هايدغر لأن ” الفهم ليس كما أشيع عنه شيئا يمكن تحصيله وامتلاكه، وليس شيء يمكن بواسطته امتلاك العالم ، ولا هو صفة تخص الوعي .إنه حال أساسية من أحوال الدزاين، فهو يقول أن نمط وجود الدزاين يثمثل في أنه وجود فاهم لذاته”. وهنا فإن هايدغر يحاول أن يضع الفهم في إطار أنطولوجي ، وهو فهم يمثل خبرة أساسية هي خبرة الوجود -في- العالم ، وهذه الخبرة وهذا الفهم هو ما يسمى بالفهم المسبق، الذي يقصد به هايدغر أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم ، والموجد أو الدزاين هو ظاهرة فينومينولوجية تحتاج إلى فهم بوصفه ظاهرة منفردة يسمح بفهم الوجود، وبهذا فإن هايدغر ” يفتتح طريقا جديدة و فهما جديدا للفينومينولوجيا لما أصر على أن الموجد ظاهرة فينومينولوجبة تحتاج إلى الفهم بوصفها ظاهرة منفردة تسمح وحدها بفهم الوجود”، فإذا كان مشروع هوسرل هو إقامة فينومينولوجيا ترنسندنتالية، أي هرمينوطيقا تأملية تمنح للـذات مكانتــــــها  “من حيث أنها موجود يتطابق فيه تبيان العالم مع تبيان الذات …وما جدير بالملاحظة بخصوص هذه النقطة أن التبيان و الوصف عند هوسرل يختلفان عن معنى التبيان عند هايدغر ، إذ أنهما لا يتحدثان إلا في داخل العقل الذي يبرزه التأمل كفعل نظري.عند هايدغر نجد هرمينوطيقا تبيانية ( أي تصريحية –المعنى الصريح: الواضح،الظاهر و البين : خلافا للمعنى الضمني أو المستتر أو المضمر)لكائن لم يعد يمثل ذاتا بل وجودا فعليا يصلح لتأسيس كل التأويلات…فالتبيان عند هايدغر لا يمثل موقفا نظريا ، و إنما نمط وجود سابق لكل نظر يميز كل وجود مثل ما هو”،و هذا لأن الوظيفة الأساسية و الأولية للهرمينوطيقا “هي التشديد على علاقة المؤول بالمؤول ، وعلى الفهم الناشئ عن تلك العلاقة”وهنا تظهر أهمية التأويل الذي هو فعل إظهار و تبيان و انكشاف ، وتحديدا إظهار حقيقة الكائن و هذا ما جعل هايدغر يقترح تأويلا لمعنى الدزاين الذي تتكشف كينونته من خلال فعل التأويل .”وهكذا لم تعد تعد الفينومينولوجيا التأويلية تأملا خالصا في العلوم الصحيحة ، وإنما هي تأويل أنطولوجي للأساس الذي يسمح بتأسيس هذه العلوم …يبدأ التأويل من اللغة و منها و بها يفهم الموجد أن نفهم هو أن نؤول بنية الوجود الإنساني”،.فقبل المنعطف كان التأويل متجها نحو بنية الوجود الإنساني أما بعده فسيتحول التأويل إلى الوجود ذاته .

إن العالم لا يكون متجليا بشكل مباشر و إنما محتجبا و بالتالي فهو بحاجة إلى نشاط هرمينوطيقي أي نشاط يقوم على التأويل و التفسير الذي هو بمثابة الوصف الفينومينولوجي للفهم ، هذا الفهم الذي هو واقع على الوجود الإنسانــــي الذي يحاول فهم الوجود من خلال فهم وجوده ذاته ،و اللغة في نظر هايدغر هي مجال هذا الفهم ، فالتأويل يبدأ منها و هذا ما يعني ظهور العالم و انكشاف الأشياء يتم من خلال اللغة ، وهذا معناه أن الإنسان يفهم و يؤول و يشرح و يفسر من خلال اللغة التي هي بيت الوجود بل وهي ” التجلي الوجودي للعالم ، و كشف للمتحجب و إبرازه من خفائه ، و الأشياء تكشف ذاتها من خلال اللغة ، وهذا يعني أن اللغة تنطق الوجود…اللغة تسمي الأشياء و الموجودات الفردية و تمنحها ماهيتها و أسلوبها في الوجود”خاصة اللغة الشعرية التي سيضعها هايدغر في سياق جديد و هذا السياق الجديد هو الذي جعل هرمينوطيقا هايدغر تعرف باسم ” الهرمينوطيقا الجديدة” أو ” الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية” و هي ” فينومينولوجيا لأنها تعالج الظواهر أو الأشياء ذاتها و لا تريد أن تتعدى نطاق الظواهر أو ما يظهر .و هذه الفينومينولوجيا تعد هرمينوطيقية لأن الظواهر عند هايدغر لا تظهر بشكل مباشر و بالتالي فإنها تحتاج إلى تفسير” و هذا التفسير أو التأويل هو من مهمة الهرمينوطيقا.

لكن يجب الإشارة إلى أن مصير الفينومينولوجيا في أن تصبح تأويلية يندرج في مشروع هوسرل لفينومينولوجيا ترنسندنتالية أي هرمينوطيقا تأملية تمنح الإبستيمولوجيا مكانتها لأنها تظل هرمينوطيقا الذات من حيث أنها موجود يتطابق فيه تبيان العالم مع تبيان الذات .، أما هايدغر فإن التأويل معه لم يعد يكتفي بعلاقة الذات و الموضوع أي الاكتفاء بتفسير الشيء (النص)، بل سعى إلى أن يفهمه و الفهم عنده هو سؤال الأسئلة كلها باعتبار أن ” الفهم هو الجسر الذي سينبني عليه علاقة الكائن بالكينونة”حيث أن تأويلية هايدغر الفينومينولوجية تعود إلى مــا قبل تفسير النصوص أي إلى اللحظة و هذا بالتطرق إلى الأشياء في أصلها ، إذ أن هرمينوطيقية هايدغر ترى أن الفهم لا يقوم في الوعي لكنه ينبع من تجلي الشيء الذي نواجهه.

هكذا يكون الفهم الهايدغري فهم للوجود يتجاوز الصيغة الهوسرلية القائم على أساس قصدية الوعي الذاتي للظواهر و الموجودات ، بمعنى علاقة الذات بذاتها ، أما الفهم الهايدغري فهو يتعدى قصدية الوعي إلى قصدية الوجود الإنساني و علاقته بالآخرين .حيث يسمح للظواهر بأن تتجلى بذاتها بعيدا عن الأنا المتعالية.فالفهم الهرمينوطيقي هو الذي يكشف الوجود من حيث هو ظاهرة ، لأن حقيقة الوجود هي ” سابقة على الوعي و المعرفة الإنسانية ، و أكثر منهما بداءة و أساسية”.

هذه هي إذن الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية و هذا هو أيضا المنعطف الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا الذي تمثل في تحويل و تحوير الفينومينولوجيا من علاقتها المتعالية و الذاتية بالظواهر إلى علاقة الذات بما يظهر و ما لايظهر من الظواهر و لهذا كانت الفينومينولوجيا عنده تعني تحرير الظواهر من الخفاء ، و لهايدغر يعزى فضل الربط بين الفينومينولوجيا والهرمينوطيقا و النظر إليهما باعتبارهما ما ميّزا الفلسفة المعاصرة عموما و فلسفته خصوصا التي يمكن “وصفها بأنها انطولوجيا فينومينولوجية منبثقة عن هرمينوطيقا الدزاين “، و بهذا يكون هايدغر قد نجح في تحويل سياق الفينومينولوجيا و الهرمينوطيقا بعيدا عن التصورات القديمة لهما ، و أسهم في تطويرهما إسهاما متعدد الجوانب ، إذ استطاع أن يحدث تغييرا في الطابع الأساسي لكل منهما.

مخبر فينومينولوجيا و تطبيقاتها-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate