في صِدام السياسة والنظريّة1.
سوف تحاول هذه الأسطر استعراض المحاور والمفاصل الأهمّ في تاريخ الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، إن كفكرة أو كشروط اجتماعيّة وسياسيّة أحاطت بالفكرة وأسهمت في إملائها. أمّا الغرض من ذلك فالتوكيد على صعوبات السياسة والخيار السياسيّ في ظروف محدّدة تتحكّم بها انسدادات خانقة، انسداداتٌ لا تجدي في تذليلها المعتقدات والتصانيف الأيديولوجيّة الجاهزة التي تطال الطبقات الاجتماعيّة أو سواها من لاعبين اجتماعيّين وسياسيّين. فمن التكوين المحافظ والقوميّ للطبقة العاملة الألمانيّة إلى الحرب العالميّة الأولى، ومن الانتقال من الإمبراطوريّة إلى الجمهوريّة في ظلّ هزيمة عسكريّة وصلح مُذلّ كصلح فرساي، ومن التأخّر الزمنيّ للتشكّل القوميّ الألمانيّ إلى التحوّلات التي كانت تطرأ على الممارسة الدينيّة وأنظمة القيم، ومن تأثيرات الثورة الروسيّة البلشفيّة في 1917 والمخاوف التي أثارتها إلى التوق الإصلاحيّ لإنشاء جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة…، شكّلت الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة، التي ولدت وكُتب فصلها الأوّل عند تقاطع تلك التيّارات، مختبراً غنيّاً جدّاً للعلاقة بين السياسة والإيديولوجيّات الجاهزة، وهي بالطبع تبقى علاقةً أشدّ تعقيداً بكثير من أن تختصرها تُهم «الخيانة» و«الرشوة» وغير ذلك.
بِرنشتاين «التطوّريّ»
لأسباب عدّة قد يكون أهمّها الصلة الحميمة بين الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة والماركسيّة، ربّما كان الأنسبُ الاستهلالَ بهذه الاشتراكيّة «التحريفيّة»، وفق قاموس الأرثوذكسيّة الماركسيّة، وبالرمز الأوّل لتلك «التحريفيّة»، إدوارد بِرْنِشتاين.
فالأخير رأى، بين ما رآه، أنّ الاشتراكيّة قابلة للتنفيذ بوسائل سلميّة من خلال التشريع في مجتمع ديمقراطيّ. وكان لرأيه هذا، ولآراء أخرى مشابهة، سوف نعود إليها، أن أطلق في وجهه طوفاناً من النقد المشوب بالتشهير والاتّهام لم يَبزّه قوةً وحِدّةً إلاّ طوفان الشتائم الذي انهال على كارل كاوتسكي بعد سنوات قليلة.
والحال أنّ شيوعيّي الأرض قاطبة حفظوا، من خلال ترجمات أعمال لينين وباقي القادة الماركسيّين الراديكاليّين، اسمَي بِرنشتاين وكاوتسكي بوصفهما «التحريفيّين» والانتهازيّين المرتدّين والمتآمرين على الطبقة العاملة وعلى الاشتراكيّة والثورة. فماذا قال برنشتاين وكاوتسكي، ولماذا قالا ما قالاه؟
لقد انتسب برنشتاين إلى «حزب العمّال الاشتراكيّ الديمقراطيّ»، بقيادة أوغست بِبِل ووليم ليبنِخت، والذي عُرف أيضاً بحزب «الأيزِناخيّين» تبعاً لأيزِناخ – مكان تأسيسه. وكان قد ظهر في ألمانيا حزب اشتراكيّ أسبق منه (1863)، هو «الرابطة العامة للعمّال الألمان» الذي أسّسه فرديناند لاسال، وعُدّ أول حزب عمّاليّ وجماهيريّ منظّم في أوروبا. ثم في 1875، وبنتيجة اندماج الحزبين الصغيرين نشأ «حزب العمّال الاشتراكيّ لألمانيا» الذي بات يُعرف، منذ استعادته ترخيصه الشرعيّ في 1890، بـ «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ».
لكنْ بين 1880 و1890 كان قد ذاع، بين الاشتراكيّين، صيت برنشتاين كمنظّر ماركسيّ بارز، ساعدتْه على ذلك علاقته الوثيقة بفريدريك إنغلز. ويبدو أنّه في 1888، ومع انتقاله من منفاه في زوريخ بسويسرا إلى لندن، اتّصل بالاشتراكيّين البريطانيّين ووثّق صلاته بهم كما أثّروا فيه، حتى أُخذ عليه هذا التأثّر في وقت لاحق بوصفه واحداً من مصادر «انحرافه».
في الحالات كافّة، فبين 1896 و1898 نشر برنشتاين المقالات التي أثارت السجال حول «التحريفيّة»، والسجالُ مع الماركسيّين الأكثر أرثوذكسيّة هو، في الواقع، عنصر تأسيسيّ وتكوينيّ في الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة لا تُفهَم من دونه. لكنْ في 1899 كان الحدث الفكريّ الأبرز، مع ظهور كتابه الشروط المسبقة للاشتراكيّة ومهامّ الاشتراكيّة الديمقراطيّة، الذي تُرجم إلى الإنكليزيّة بعنوان «الاشتراكيّة التطوّريّة» وعُرف عالميّاً بهذا الاسم. ففي عمله المذكور والأهم ساجل برنشتاين ضد الانتقادات التي طالته في حزبه الاشتراكيّ الديمقراطيّ بسبب انعطافه عن الماركسيّة الأرثوذكسيّة، حتى اعتُبر الكتاب إتماماً لقطيعته مع تلك المدرسة ومع السياسات المنبثقة منها.
من جهة أخرى، وبعد عودته إلى ألمانيا، بعدما زال العمل بـ«القوانين المناهضة للاشتراكيّة» (1877-1890) التي سنّها بِسمارك ومُنعت بموجبها الأحزاب والتنظيمات الاشتراكيّة، فارضةً على برنشتاين العيش في المنفى، تحوّل إلى سياسيّ «شرعيّ». فهو، منذ 1902 ولسنوات مديدة، احتفظ بمقعد برلمانيّ، ثمّ مع نشوب الحرب العالميّة الأولى، شارك في تأسيس «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ المستقلّ» الذي وحّدَ القوى المناهضة للحرب والتي شملت «إصلاحيّين» مثله و«معتدلين» ككاوتسكي و«راديكاليّين» ككارل ليبنِخت (نجل وليم)، ليعود مع انتهاء الحرب إلى ممارسة هواه في العمل البرلمانيّ، فأعيد انتخابه نائباً بين 1920 و1928 حين تقاعد من العمل السياسي ليُتوفّى في برلين عام 1932.
لقد رأى أنّ المقاربة الثوريّة لماركس لم تعد صالحة في ظلّ الرأسماليّة الحديثة والواقع الألمانيّ الجديد، خصوصاً أنّ النقابات والجهود الإصلاحيّة من داخل البرلمان، مصحوبةً بنضالات الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ، تَعدُ بالتخلّص التدريجيّ من الأوجه القمعيّة في الرأسماليّة، وبتطوّر تدريجيّ مُوازٍ إلى الاشتراكيّة. وهو جادل بأنّ ممارسات الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الحالية، وليس التصوّرات البائدة عن استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسيّة ومباشرتها التحوّلَ نحو الاشتراكيّة، هي التي تتجانس مع نهج ووجهة كهذين. وهذا، في عرفه، إنّما يتّصل بميل طبيعيّ يقود إليه التطوّر الرأسماليّ الذي يفرض إخضاع الاقتصاد للتنظيم الاجتماعيّ، ويشقّ بالتالي طريقاً إلى التشريك ومن ثمّ إلى الاشتراكيّة.
وكان من أكثر ما اهتمّ برنشتاين بدحضه مقولة ماركس عن الموت الحتميّ للرأسماليّة. فهو رأى أن المُلكيّة الزراعيّة خصوصاً تغدو أقلّ فأقلّ تركّزاً، فيما المُلكيّة الصناعيّة نفسها لا تزداد تركّزاً، هي الأخرى، بل تزداد توسّعاً وانتشاراً، وهو ما بيّنه، مستنداً إلى معطيات إحصائيّة، في حالات ألمانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا وسواها1. وقد لاحظ، بالتالي، أنّ البورجوازيّة الصغرى لا تختفي مع احتدام الفرز الطبقيّ الذي يُحدثه توسّع الاشتغال الرأسماليّ، مؤكّداً على ما اعتبره خطأ في نظريّة العمل عند ماركس التي رأى أنّ الزمن تجاوزها، في الشكل الذي عرضه الاقتصاديّون الكلاسيكيّون البريطانيّون كما في رأس المال. هكذا يميل الصراع الطبقيّ لأن يغدو أقل، لا أكثر، حدّةً وتأجّجاً. فبالنظر خصوصاً إلى النمو المتسارع في ألمانيا، سوف تتّسع المشاريع المتوسطة وينمو حجم الطبقة الوسطى، كما أن الرأسماليّة، التي تتكيّف بنجاح، لن تكون مرشّحة لأيّ انهيار. ولئن راح يتزايد اعتماد طبقة رجال الأعمال على البروليتاريّين، فهذا ما يحمل على تشجيع الإصلاحات في مجال العمل والتشريع النقابيّ. هكذا ناشد برنشتاين الطبقة العاملة أن تزداد انخراطاً في السياسة البرلمانيّة، رافضاً العمل العنفيّ ومنبّهاً من أنّ ثورات عنيفة، كما في فرنسا 1848، لا تُنتج إلاّ نجاحات للرجعيّين تسيء إلى العمّال ومصالحهم. فإطاحة الرأسماليّة ثوريّاً لم تعد ضروريّة ولا مرغوبة، بل إنّ انتقالاً تدرّجيّاً وسلميّاً إلى الاشتراكيّة مأمونٌ أكثر من ذلك الأفق العنفيّ الغامض المشوب بالاحتمالات الطغيانيّة لديكتاتوريّة البروليتاريا. والحقّ أنّ مصطلح «ديكتاتوريّة» نفسه بدا له مُتقادماً جدّاً، وغير قابل للتزويج مع العمل البرلمانيّ الذي يحظى بتركيز الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ. فوق هذا، تجاوزت الرأسماليّة الكثير من عناصر ضعفها، كالبطالة وفائض الإنتاج والاختلالات الكبيرة في توزيع الثروة، وكفّت أوضاع البروليتاريا عن أن تزداد سوءاً، عملاً بما تنبّأت به الماركسيّة. فهي، على العكس، تتحسّن، وها هم العمّال يحتلّون مقاعد في البرلمان ويمرّرون التشريعات التي تخدم مصالحهم، فيما البرلمان، بحسب ماركس، لا يعدو كونه مؤسّسة للدولة الرأسماليّة تسيطر بها على العمّال، شأنه شأن باقي مؤسّسات الدولة التي هي أداة في يد البورجوازيّة. والتحوّل هذا إنّما يرجع إلى النشاط النقابيّ المنظّم وتوسّع قاعدة المقترعين التي باتت تتيح انتخاب نوّاب اشتراكيّين مناوئين للاستغلال الطبقيّ. وفي مقابل نظريّة الإفقار الذي سيغدو مطلقاً ويفتح الباب لثورة اشتراكيّة، جادل برنشتاين بأنّ نجاح الاشتراكيّة لا ينشأ عن تعاظم بؤس الطبقة العاملة، بل يعتمد تحديداً على التخلّص من ذاك البؤس. وهو لم يكتف بنقد ذاك الإفقار، بل نقدَ أيضاً تنقية الطبقة العاملة وتطهيرها من كلّ ولاء وانتماء مُعطَيين أو موروثين، على ما جاء في البيان الشيوعيّ. فالعمّال، وفقاً له، ومثلهم مثل سواهم، «لديهم الفضائل والنواقص التي تقيم في الشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعيشون في ظلّها».
وكان لآراء برنشتاين الأكثر ليبراليّة داخل الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ ولمطالبه السياسيّة في تشديدها على حقّ التصويت العام والمساواة فيه، وعلى حريّة التعبير والتجمّع، والحريّات المساوية للنساء، والفصل بين الكنيسة والدولة…، أن وضعته في تعارض ليس فقط مع راديكاليّي الحزب (روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت)، بل أيضاً مع القادة التاريخيّين الذين اعتُبروا «وسطاً» بينه وبين الراديكاليّين (أوغست ببل وكاوتسكي).
لكنْ يبقى من أكثر ما يُلحظ في نصّ برنشتاين عداؤه للدوغمائيّة وتجرّؤه على ما كان مألوفاً في بيئته السياسيّة والإيديولوجيّة. فهو، ابتداء بمقدّمة الكتاب وصفحاته الأولى، لا يترك مجالاً للشكّ حول غرضه: «فقد وضعتُ نفسي في مواجهة التصوّر القائل إنّ علينا أن نتوقّع قريباً انهيار الاقتصاد البورجوازيّ»، ليضيف في فقرة تالية أنّ كتابه يقف على الضدّ من مفهوم الحرب الطبقيّة الدائمة والمُستعرة كما عبّر عنها البيان الشيوعيّ، والتي هي «خطأ بكلّ المعاني». ولا يلبث أن يذهب أبعد في تفنيد النظريّة الماركسيّة وفي اعتباره أنّ المانيفستو خطأ، وأنّ تلك النظريّة خاطئة في جوانب عدّة، خصوصاً استعارة فكرة التاريخ الديالكتيكيّ من هيغل، وبالتالي وجود نهاية ظافريّة في آخر الأفق، ليلاحظ أنّ الشروط الاجتماعيّة، كما هي قائمة في زمنه، لم تتطوّر إلى ما يسمّيه «التعارض الحادّ بين الأشياء والطبقات» مثلما توقّعها المانيفستو. فالسكّان، على العكس، سوف يستعملون سلطة أكثريّتهم العدديّة كي يُحدثوا تغييرات ويفرضوا تنازلات على البورجوازيّة، وهذا وإن لم يعنِ تحقّق الخلاص فإنّه يعني التقدّم التدريجيّ أو التطوّريّ.
ويبلغ النصّ البرنشتايني ذروته النقديّة حين يكتب مؤكّداً على ما رآه في الماركسيّة بُعداً دينيّاً ودوغمائيّاً يضرب الإرادة الحرّة للأفراد: «فتطبيق المادّيّة على تأويل التاريخ يعني إذاً، وقبل كلّ شيء، الإيمان بحتميّة الأحداث والتطوّرات التاريخيّة كلّها (…) وهكذا فالماديّ كالفينيٌّ من دون إله»، يؤمن بـ «الأقدار المسبقة».
حازم صاغية
ملتقى العروبيين_ موقع حزب الحداثة.