في مساءلة الخطاب الديموقراطي…الحداثة ألغت العبودية وأسست المواطنية.
ازاء كل هذه الاشكالات والمساءلات التي تربك التصور الديموقراطي في الفكر العربي الراهن، لا مناص، في رأينا، من اخضاع الاجتهادات والأحكام النقدية بالذات، لنقد شامل يذهب الى الجذور والأفكار التأسيسية، أياً تكن عصمتها وقدسيتها، من أجل اجتراح فكر جديد وموقف جديد من الديموقراطية. لعل في ذلك سهاماً في خروجنا، شعوباً ومجتمعات، من دوامة العنف المهلكة الراهنة.
بعد الانهيارات التي زلزلت الأنظمة الديكتاتورية في العالم منذ الثمانينات، بدأت الفكرة الديموقراطية تتحول الى هاجس النخب الثقافية العربية. وقد تمثل ذلك في الندوات والمؤتمرات التي عقدت في غير قطر عربي تحت لافتة الديموقراطية، كما في المؤلفات والدراسات التي خصصت للبحث في التحول الديموقراطي العربي وعوائقه. ولم تكن الانتفاضات الجماهيرية في العالم العربي منذ 2010 الى الآن، أياً تكن ثغراتها واخفاقاتها، الا تعبيراً عن ذلك الهاجس.
وليس من دون دلالة ايضاً، ان يخلص المشروع النهضوي العربي إلى أن الخبرة التاريخية أثبتت أن الديموقراطية هي الطريق المضمون للنهضة، والى أن المضمون الديموقراطي للمشروع هو ما يميزه عن سواه من المشاريع النهضوية.
لكن الإقرار بأولوية الديموقراطية ومركزيتها في مشاريع النهوض العربية، لم يخرجها من حيز المساءلة، ولم يُزل خطوط الاشتباك بينها وبين الحرية، وبينها وبين العدالة الاجتماعية، أو بينها وبين الوحدة العربية، وأبعد من ذلك بين كونية الطرح الديموقراطي وقيمه ومبادئه التأسيسية الحداثية، قيم الحرية والعقلانية والمساواة والاعتراف بالآخر، وبين خصوصية الثقافة والتراث العربيين وتناقضهما المفترض مع تلك القيم والمبادئ.
بيروقراطيات ما بعد الانتفاضات العربية عمقت التناقضات المجتمعية
في هذا السياق الايديولوجي، قد لا تفضي الديموقراطية الى الحرية، بل قد تقود، باعتبارها آلية محايدة لتداول السلطة، الى استبدال ديكتاتورية بأخرى كما رأينا في كثير من التحولات السياسية العالمية المعاصرة، وكما انجلت عنه غالبية انتفاضاتنا العربية.
فما يحدد الديموقراطية، كما يقول آلان تورين، لا يقتصر على حكم الأكثرية، بل يقوم بالدرجة الأولى على احترام المشاريع والتطلعات الفردية، الأمر الذي لم تعبأ به بيروقراطيات ما بعد الانتفاضات العربية، فكان ان عمقت التناقضات المجتمعية، بدل أن تحد من وطأتها واستشرائها.
الى جانب هذا الاشتباك بين الديموقراطية والحرية، ثمة اشتباك آخر لعله أكثر حدة، بين الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. فهل الديموقراطية مفضية الى العدل الطبقي، وهل المساواة التي تطرحها، مفضية هي الأخرى الى الاقتسام العادل للخير العام؟
ويتعرض الخطاب الديموقراطي كذلك للمساءلة إزاء الخطاب القومي، فهل الديموقراطية مستحيلة في ظل التجزئة العربية، كما يذهب الفكر القومي، أم انها مؤجلة الى ما بعد الوحدة القومية العربية، إذ إن إنجاز التوحيد العربي يبيح التضحية بالحريات وتسويغ الاستبداد، وفقاً لتصور نديم البيطار؟
إلا أن الاشتباك الحاد بين كونية الطرح الديموقراطي وخصوصية الثقافة والتراث العربيين، وما يطرحه من مساءلة جذرية يبقى الأكثر استحواذاً على الخطاب الديموقراطي العربي الراهن، والأكثر توتراً في السجال الذي لا يزال يُحكم الفكر الايديولوجي العربي.
لكرم الحلو.
قنطرة- موقع حزب الحداثة.