اصلاح ديني

كيف غيرت حركات الإسلام السياسي النصوص الدينية لتبرير أدواتها وأهدافها؟

إن “الأصولية الإسلامية” تسمية خاطئة ولا تخص المسلمين أو الدين الإسلامي في المقام الأول. هذه التسمية لم تنبع من القرآن، أو من الكتب والنصوص الإسلامية المقدسة، ولم يجر استخدامها من قبل أي فئة من فئات المسلمين القدامى. جرى استعارة هذه التسمية من كلمة “أصوليون” الغربية الدينية المعاصرة، ليجري تطبيقها على المسلمين. في الحقيقة، جرى استخدام كلمة “أصولي” للمرة الأولى من علماء الاجتماع الدينيين الأمريكيين للإشارة إلى المسيحيين الذين آمنوا بالتفسير الحرفي للإنجيل، وبالتالي، لا يمكن استخدام سياقها الأصلي عندما يتعلق الأمر بالإسلام أو المسلمين.

وبحسب علم الاجتماع الديني، يُعرّف مصطلح “الأصولية” على أنه “الالتزام الصارم بالمبادئ الأساسية أو الجوهرية لمعتقدات معينة”. جرى تطبيق هذا المصطلح للمرة الأولى على بعض علماء المسيحية البروتستانتية المحافظة جدًا في الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين. حينها، نشروا مجموعة من الرسائل العلمية ما بين 1909 و1915 تحت مسمى “أصوليات الإيمان: شهادة على الكتاب المقدس”. وقد حددوا في تلك الرسائل ما اعتقدوا أنها مذاهب أصولية أو أساسية مطلقة للدين المسيحي. وقد تمحور جوهر تلك المذاهب حول التفسير الحرفي للإنجيل. وقد أطلق على أولئك الذين دعموا هذه المعتقدات خلال ما يسمى “المناقشات المناهضة للحداثة” في العشرينيات اسم “الأصوليون”.

ومن الناحية الأكاديمية، ومن أجل الوضوح وتجنب وصف الإسلام أو المسلمين بأسلوب ازدرائي، من الأفضل استخدام مصطلح “التطرف العنيف” بدلًا من “الأصولية الإسلامية”. ولا ننسى أن بعض علماء الاجتماع، والأكاديميين الدينيين، أجروا دراسات إسلامية متعددة، استخدموا فيها كلمة “أصولي” بمعناها الحرفي المتمثل في الالتزام الصارم بالتعاليم الإسلامية الأساسية، في سياقات خاطئة حول التطرف الإسلامي، ما خلق لغطًا أمام الجمهور الغربي الذي يحاول التمييز ما بين أساسيات الدين الحقيقي الحنيف والأيديولوجية المتطرفة المتسترة وراء الدين.

وينبغي التشديد هنا على أن التعاليم “الأصولية” للإسلام تتمثل في الوفاء بمتطلبات العقيدة الإسلامية. ولو أخذنا “الأصولية” بمعناها الحرفي اللغوي، فينبغي أن تعني التعاليم الأساسية ذاتها للإسلام كما هو منصوص عليها في النصوص الإسلامية المقدسة. ولكن ما يجري على أرض الواقع ليس كذلك، لا سيما في الإعلام الغربي، أو في الدعايات الإعلامية الموجهة من طرف الحركات الإسلامية السياسية والمجموعات المتشددة.

ينصب تركيز الدين الإسلامي على طاعة الله الواحد في المقام الأول، دون الشرك بغيره من الناس أو الأشياء، ثم مراعاة حقوق العباد، إلى جانب أداء واجبات دينية أخرى. ويمكن القول إن هذه المسائل تشكل معتقدات جوهرية لو استخدمناها في سياق كلمة “أصولية” بمعناها الحرفي اللغوي، شريطة ألا يجري تشويهها من قبل الإعلام بوصفها “عنيفة” أو “إرهابية”.

نوعان من “الأصولية الإسلامية”

من المؤسف حقًا أن مصطلح “الأصولية الإسلامية” جرى تطبيقه من علماء الدين الاجتماعي على الحركات الإسلامية في الستينيات. حينها، لم يجر استخدام المصطلح على المسلمين بالمعنى الحرفي ذاته الذي جرى استخدامه على المسيحيين.

وفي كل الأحوال، ينطبق مصطلح الأصولية الإسلامية حاليًا على نوعين مختلفين من الحركات: النوع الأول هو ديني بالأساس، ينادي باستعادة أساسيات وأصوليات العقيدة الإسلامية، مثل علماء الدين في شبه الجزيرة العربية الذين دعوا إلى تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، لا سيما في مجال الطاعات. أما النوع الآخر فهو سياسي عنيف مثل الإخوان المسلمين في مصر، بهدف معلن هو إحداث ثورة سياسية في البلدان الإسلامية.

أهداف دينية – سياسية مختلفة

يتمثل هدف النوع الأول من الأصولية الإسلامية في وضع حدّ للابتكارات والإضافات غير الإسلامية في المسائل الدينية، مثل البدع، والالتزام بدلًا منها بممارسات وأفعال وأقوال مأخوذة من السنة النبوية، باعتبارها منبع الشريعة الإسلامية. أما هدف النوع الثاني من الأصولية فهو سياسي عسكري، يهدف إلى تشكيل حركات سياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي تهدف بدورها إلى وضع حدّ للحكومات السياسية، وإحلال بدلًا منها دولة إسلامية محكومة بتفسيرات الجماعة الخاصة للنصوص الدينية، بما يخالف جميع التفسيرات الدينية الأخرى، وهو ما يقوم على مبدأ إقصاء الآخر.

ولسوء الحظ، لم تفلح الكثير من وسائل الإعلام الغربية في التمييز ما بين الأهداف المعلنة لهذين النوعين من الأصولية الإسلامية. من شأن التحليل الأعمق أن يبين أن هذين النوعين مختلفان اختلافًا كليًا من ناحية نظرتهما لاستخدام العنف والتمرد المسلح من أجل تحقيق أهدافهما.

يدعو النوع الأول من الأصولية الإسلامية إلى إحياء وعودة المبادئ الأساسية لعقيدة الدين الإسلامي، بما يشمل العمل بشكل سلمي ضد البدع والابتكارات غير الإسلامية، في سياق الطاعات والعبادات فحسب. هذا النوع لا يمارس أي شكل من أشكال العنف، ويرفض الحركات التي تناصر العنف في تحقيق أهدافها. هذا النوع ينطوي على الإصلاح الداخلي والإحياء الروحي للمسلمين، ولا يدعو أبدًا إلى الصراع مع غير المسلمين.

أما النوع الثاني من الأصولية الإسلامية فيدعو بشكل خبيث إلى الإطاحة بالأنظمة العلمانية، وتأسيس حكومات سياسية مغلفة بالدين تستند إلى تفسيراتها الحصرية للإسلام. هذا النوع أنشأ حركات مريبة، جرى تسميتها اليوم باسم حركات الإسلام السياسي، تدعو إلى الهيمنة على البلدان الإسلامية عبر مهاجمة الحكام ومحاولة الإطاحة بهم. ويمكن الإبحار في كتاب “التفسير السياسي للإسلام” (2015)، لإدراك الكيفية التي لجأت فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى التمرد والعنف باستخدام نصوص دينية جرى تفسيرها بشكل خاطئ؛ من أجل تبرير توجهاتها العدائية لكل من يعارضها في وجهات النظر. ولهذا، غالبًا ما تستند حركات الإسلام السياسي إلى تفسير مصطلح “الجهاد” لتبرير الأدوات المستخدمة في متابعة أهدافها.

فهم الجهاد الحقيقي في سياق القرآن

لم يحرض القرآن على العنف في أي حال من الأحوال، بل يدعو إلى السلام دائمًا، حتى مع استخدام مفهوم الجهاد في مختلف مواضع آيات القرآن. لنتفكر فيما يلي: يبدأ القرآن بجملة “بسم الله الرحمن الرحيم”، وتتكرر في 113 مرة على الأقل في بداية كل سورة، باستثناء سورة واحدة. كما أن اسمًا من أسماء الله الحسنى هو “السلام”. علاوة على ذلك، يعج القرآن بنصوص مقدسة مشبعة بروح السلام والتسامح والانسجام. القرآن لا يروج لثقافة الحرب، بل للتفاهم والرحمة والتسامح والحب والعطف.

لم يستخدم القرآن كلمة “الجهاد” في أي موضع من المواضع لتعني الحرب القائمة على شن حرب عدوانية هجومية، بل استخدمت في سياق يعني “النضال” أو “الكفاح” في الدين. ونلاحظ أن جميع مواضع استخدامها اقترنت بالدعوة إلى “الصبر” و”عدم الاعتداء”، وهو ما يناقض تمامًا سياق الجهاد المستخدم من حركات الإسلام السياسي أو التنظيمات المتطرفة العنيفة اليوم. بالإضافة إلى ذلك، لم يخض النبي محمد (ص) سوى 3 معارك في حياته كلها، كما لم تتجاوز مشاركته فيها مدة يوم أو يوم ونصف في كل معركة. قاتل النبي دفاعًا عن النفس عندما حاصره العدائيون، وعندما لم يبق أمامه أي خيار آخر.

لقد ولد الرسول محمد في وقت ساد فيه جو من الحروب المستمرة في المجتمع العربي، لكن النبي اختار دائمًا تجنب الصراع. فعلى سبيل المثال، في حملة الأحزاب، نصح النبي صحابته بحفر خندق بينهم وبين الأعداء بغرض منع حدوث صدام مباشر. كما أن النبي كره الأعمال العدائية، وتجسد ذلك في صلح الحديبية، الذي وافق فيه النبي على شروط بغرض تحقيق السلام.

ومن بين الأمثلة الأخرى، تجنّب النبي بدء معركة من خلال الدخول السريع إلى المدينة المنورة مع 10,000 مسلم، وهو عدد كبير لترهيب الأعداء، لكن الرسول لم يفكر بأسلوب عنيف. ويمكن القول إن النبي سعى في جميع المناسبات إلى تحقيق أهدافه عن طريق السلام والدبلوماسية بدلًا من الوسائل القائمة على العنف والحروب، وهي حقيقة من شأنها أن تفضح جميع الحركات القائمة على الكراهية الأيديولوجية وثقافة إقصاء الآخر.

الكراهية الأيديولوجية وخطف الإسلام من الحركات الإسلامية

يعتبر الإسلام الحنيف الكراهية جريمة ضد الإنسانية، بل وينبذ كل شكل من أشكال الأيديولوجية القائمة على الدين أو العنصرية أو السياسة أو المجتمع. وللأسف، مارست الحركات الإسلامية السياسية أدواتها العنيفة باسم الإسلام، عبر نشر تفسيرات خاصة للآيات القرآنية الخاصة بأصول العقيدة، والجهاد، والمسائل المجتمعية كذلك، وتجاهلت بشكل مطلق دعوة الإسلام إلى قبول الآخر والتسامح والمحبة، ما جعل الجمهور الغربي غير قادر على التمييز ما بين ما يدعو إليه الإسلام بالفعل، وما بين ما تفسيرات هذه الحركات المتسترة بغطاء الدين.

توصيات

على العالم الإسلامي والمسلمين الشروع في حملة إعلامية مكثفة تبيّن التعاليم الحقيقية للإسلام بعيدًا عن التفسيرات الراديكالية السياسية لهذا الدين، عبر وسائل إعلام مستقلة غير موجهة. وينبغي الاستشهاد بأمثلة من أفعال النبي محمد، التي أوجب فيها الابتعاد عن الأيديولوجية القائمة على الكراهية وإقصاء الآخر، وبالتالي إيضاح التفسيرات الخاطئة للقرآن من طرف المجموعات الإسلامية.

الغالبية في الغرب يخلطون اليوم ما بين النوعين في “الأصولية الإسلامية”، وبالتالي، من شأن إيضاح التفسيرات الأصيلة للإسلام عبر وسائل الإعلام أن يعطي أملًا كبيرًا بعودة فهم الإسلام إلى المسار الصحيح.

لمجلة “غلوبال ريسيرتش” الكندية.

ترجمة كيوبوست- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate