المرأة

المرأة في الثقافة بين الشرق والغرب.

يشكو كثير من المشرقيين ـ عربا وغير عرب ـ من الانطباع العام لدى الغرب عن المرأة في الشرق، ويعتقدون أن هذا الانطباع هو نتاج صورة مشوهة أسهمت فيها كثير من الروافد المُتحيّزة؛ لا سيما الرافد الاستشراقي القديم، والرافد الإعلامي الغربي الحديث. وهم ـ أي المشرقيين ـ يحاولون التأكيد على أن تلك الصورة التي تبدو فيها المرأة في الشرق مضطهدة، مهمشة، مسلوبة الحقوق على أكثر من صعيد، إنما هي صورة مزيفة، لا علاقة لها بواقع المرأة، أو هي ـ في أحسن أحوالها ـ صورة مشوهة نتيجة عمل انتقائي يتعمد التشويه من الأساس.

يهتم المشرقيون عامة، والعرب خاصة، بالدفاع عن واقعهم/ واقع المرأة في مجتمعاتهم، ويأخذون على أنفسهم محاولة تغيير نمط التصورات المأخوذة عنه، أكثر مما يهتمون بتغيير هذا الواقع. قد يكون بعضهم يحاول الاشتغال على المسارين جميعا: تغيير الواقع، وتغيير التصورات عن هذا الواقع. لكن، يبقى أن الأكثر الأعم يشتغل على تجميل الصورة، بصرف النظر عن الواقع/ واقع المرأة الذي تعكسه الصورة، والذي هو واقع نسوي بائس بكل المقاييس.

الرهان الحقيقي في التحرير هو رهان ثقافي بالدرجة الأولى

​​ابتداء، يجب علينا أن ندرك حقيقة أن الوعي بالإشكالية النسوية لم يكن ليحدث أصلا؛ لولا التحدي الذي على فرضته الثقافة الغربية الحديثة على الثقافات التقليدية. بمعنى أن الاستجابات الإيجابية ـ على ندرتها ـ إنما كانت استجابات اعتذارية لتحدي عولمة الثقافة الغربية التي أصبحت هي هوية العصر، ولم تكن استجابة للتحديات التي تنبعث من صميم الواقع العملي. وهذا ما جعلها على مستوى الأطروحات النظرية والإعلامية، بل وحتى على مستوى الأطروحات الحقوقية/ القانونية، ممارسات حِجاجية/ جدلية تربك العمل الثقافي التحرري أكثر مما تسهم فيه؛ مما ينعكس سلبا على كل محاولات التأسيس.

بالنسبة للمسلمين، فالخطاب الإسلامي المعاصر حاول التعامل مع هذه الصورة النمطية التي يؤكد أنها صورة مشوهة/ مزيفة بأكثر من عملية تكتيكية مراوغة. فمرة يتجنّب الحديث عن واقع المرأة في الأقطار الإسلامية، هروبا إلى المقارنة بين واقع المرأة في التاريخ: “ما قبل الإسلام” مقارنة بـ”ما بعد الإسلام”؛ ليخرج بنتيجة إيجابية لصالح الإسلام، وبالتالي، لصالح واقع المسلمين اليوم. ومرة يقارن المسطور في المدونات الفقهية (في عملية انتقائية للإيجابي!)، بواقع المرأة في الغرب القديم، أي الغرب منذ اليونان إلى تخوم العصر الحديث؛ متجاهلا واقع المرأة الغربية في العصر الحديث. وأحيانا يعمد إلى تشويه واقع المرأة في الغرب بانتقاء الحالات الاستثنائية والعابرة، بل والخارجة على القانون، التي تطرحها الإحصائيات الدورية؛ ليقارن هذه الصورة المنتقاة بواقع المرأة في أقطار العرب/ المسلمين التي تغيب فيها الإحصائيات، وتسودها ثقافة الستر والكتمان، خاصة فيما يتعلق بالشؤون العائلة/ المرأة تحديدا.

لكن، كل هذه المحاولات لم تقنع أحدا؛ حتى أصحابها. واقع المرأة في البيئات التقليدية المشرقية لا يمكن الدفاع عنه بالكلام، بينما الواقع يشهد بعكس ذلك. ولعل هذا هو ما دفع بكثيرين إلى محاولة القفز إلى الأمام، خاصة في الأحزاب التقدمية، أو التي تزعم أنها كذلك.

ففي الهند وباكستان وبنغلادش وصلت المرأة إلى أعلى منصب سياسي في البلاد. وفي تركيا كانت رئيسة الوزراء تانسو تشيلر علامة فارقة؛ بقدر ما هي حالة نادرة لم تتكرر (وكل هذه النماذج تستخدم حججا دفاعية من قبل الأيديولوجيات الانغلاقية لـ”تجميل الصورة”).

غير أن هذه النماذج، وإن تكررت أحيانا لظروف انتخابية؛ فهي لا تعكس واقع المرأة في هذه الدول. فلا يمكن لأي مراقب أن يقرر أن المرأة في الهند أو باكستان تمتلك حريتها/ شخصيتها، وتتوافر على كثير من الحقوق الخاصة والعامة، بحيث تفوق في ذلك المرأة الفرنسية التي لم تصل للرئاسة حتى اليوم، بينما وصلت إليها المرأة الهندية والباكستانية منذ عقود.

ما أقصده تحديدا هو أن الثقافة ـ بمفهومها العام ـ هي التي تصوغ وتشكّل واقع البشر، ومنه واقع المرأة. المرأة في الهند أو باكستان محكومة بثقافة تقليدية متحيزة ضد المرأة؛ حتى وإن وصلت امرأة أو امرأتان إلى أعلى المناصب. ما تعيشه المرأة في الهند وباكستان وسائر الدول المشرقية هو واقع الثقافة، وليس واقع حالات استثنائية نادرة معزولة عن السياق العام. كذلك المرأة الفرنسية أو الأميركية، حتى وإن لم تصل للمنصب الأعلى، فهي تعيش واقع الثقافة الغربية التي قطعت أشواطا طويلة في تقرير الحقوق النسوية على مستوى الوعي العام.

لا يعني كل هذا أني أقلل من الرمزية المُحفّزة التي تعكسها تلك الحالات الاستثنائية في الدولة المشرقية، إذ لا ريب أن ظهور المرأة في الفضاءات العامة، وفي مناصب سيادية، يدفع باتجاه أن تنال المرأة كثيرا من الحقوق على مستوى التشريعات القانونية، وهذه بدورها تعيد بلورة الثقافة العامة في المدى الزمني الطويل.

يهتم المشرقيون عامة، والعرب خاصة، بالدفاع عن واقعهم/ واقع المرأة في مجتمعاتهم أكثر مما يهتمون بتغيير هذا الواقع

لكن يجب أن نحذر من خداع هذه الرمزيات فيما يخص الواقع الآني، فالمرأة الأردنية، على سبيل المثال، التي مُنحت عددا من الحقائب الوزارية استطاعت تجاوز قوانين المجتمع الذكوري التي لا يفلت منها إلا الاستثناء.

 إذن، المسألة ليست مسألة قوانين وأنظمة؛ رغم أهميتها، ولا مسألة ظواهر/ نماذج رمزية؛ رغم أهميتها أيضا، وإنما المسألة تتعلق بالتكوين الثقافي العام الذي يحكم مجمل السلوكيات العامة؛ حتى في أدق وأخطر تفاصيلها.

المرأة العربية ـ كمثال ـ نالت معظم الحقوق على مستوى التشريعات القانونية/ الأنظمة. العنف ضدها مجرم قانونا، ولها نفس الحقوق في التحاكم/ التقاضي، ولها نفس الحقوق السياسية التي للرجل من ترشيح وانتخاب… إلخ، وحقوقها الأساسية في التعليم والصحة والتوظيف قد أقرت ويجري التأكيد عليها باستمرار، بل وحقوقها الخاصة في مدونات الأحوال الشخصية قد تطورت في بعض الأقطار العربية… إلخ. لكن، ومع كل هذا، يلاحظ أن المرأة العربية لم تتمتع بمعظم هذه الحقوق، بل ثمة عزوف نسوي واضح في كل أنحاء العالم العربي عن استثمار أكثر الحقوق المتاحة لها، خاصة ما يتعلق بالحقوق المتعلقة بالمشاركة في الشأن العام.

ما الذي يمنع المرأة في الشرق من استثمار الحقوق المتاحة لها على مستوى الأنظمة والقوانين؟ لماذا تختار المرأة الانكفاء السلبي، بل وتتحمّل الاضطهاد على أكثر من مستوى؛ مع أن القوانين تنص على حمايتها؟ لا شيء غير الثقافة، التي تشكل وعيها ووعي المجتمع الذي تتموضع فيه فاعليتها، وتحكمها وتتحكم فيها بأكثر مما تستطيع القوانين والأنظمة الصريحة أن تفعل؛ بدليل أن المرأة ذاتها قد تمارس سلوكيات أو تتخذ مبادرات قد تتسبب في تعطيل الحقوق القانونية للمرأة؛ دون أن تشعر بأنها تضطهد ذاتها أو تهمش بنات جنسها. ولعل في كل هذا ما يكشف لنا أن الرهان الحقيقي في التحرير هو رهان ثقافي بالدرجة الأولى.

لمحمد المحمود.

الحرة- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate