الديمقراطية الليبرالية في الخطاب السياسي العربي.
لم تكابد التيارات السياسية العربية، الدينية والقومية واليسارية والعلمانية والديمقراطية، مثلما كابد التيار الليبرالي، ونقصد هنا التيار الذي وضع فكرة الحرية على رأس جدول الأعمال، ونقصد بذلك فرض الاعتراف بمكانة المواطن الفرد، الحر والمستقل والمتساوي مع المواطنين الأخرين، من دون أي تمييز، لا اثني ولا ديني ولا مذهبي ولا جنسي.
أيضاً لم تتعرض الليبرالية العربية، التي ازدهرت ردحاً قليلاً من الزمن، في المجتمعات العربية، سيما في عهد الاستعمار، وفي المرحلة الأولى للاستقلال، للإزاحة أو المحو فقط من الأنظمة الاستبدادية، أو التسلطية، وإنما تعرضت لذلك أيضا من قبل التيارات الأخرى، التي كشفت عن ضعف تمثلها لهذا المعنى، وربما نبذها له، في إدراكاتها وسلوكياتها السياسية، وذلك رغم ميل معظمها نحو الديمقراطية.
يأخذنا ذلك نحو مسارين مختلفين ومتمايزين:
الأول، يجري فيه التشديد على الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب والانتخابات، وتداول السلطة والاحتكام لإرادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطة، رغم التباينات في هذا الأمر بين تيار وأخر، بين الديمقراطية كاستفتاء والديمقراطية كانتخاب، أو بين ديمقراطية الجماعات الاثنية والطائفية وديمقراطية الأفراد.
والثاني يتم فيه الاشتراط على معنى الحرية وحدودها، بالنسبة للمواطن الفرد، المستقل، بدعوى خضوع الأقليّة للأكثرية، وبدعوى الحفاظ على الخصوصيات والعصبيات الهوياتية (الدينية أو الاثنية)، بما في ذلك من مصادرة وتقييد لحرية الفرد واستقلاليته.
الماركسية تنتج برجوازية طفيلية
فالتيار اليساري (الماركسي)، مثلاً، يرى المجتمع تكويناً منمّطاً من عدّة طبقات، فقط، بحسب الوضع الاقتصادي، أو بحسب المكانة في علاقات الإنتاج، لا باعتباره يتألف من مواطنين أحرار، مختلفين ومتعددين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطبقية، على أساس أن الانتماء الطبقي يحدّد الوعي الطبقي، هكذا بشكل مسبق وبدون قراءة للواقع المتعيّن ومن دون دراسة لمعنى الانقسامات الطبقية في مجتمعات متخلفة اقتصاديا، وتفتقر للتكون الطبقي.
فضلاً عن ذلك فإن هذا التيار يعتقد بأن دوره التاريخي يتحدّد في القضاء على الملكية الخاصّة وإقامة المجتمع الاشتراكي، بغض النظر عن ملائمة الظروف والمعطيات والحاجات إلى ذلك من عدمه. وكنا شهدنا النتائج الكارثية للتأميمات الحاصلة في مصر وسورية والعراق وليبيا، على سبيل المثال، والتي قوّضت البنى الجنينية للبرجوازية الصناعية (الوطنية) في هذه البلدان وغيرها، في حين نشأ بدلاً عنها نوع من برجوازية طفيلية ناشئة في حضن الدولة التأميمية ذاتها؛ وحيث التهمت السلطة الدولة والمجتمع والموارد.
لا يتوقف موقف التيار اليساري عند هذا الحد، إذ ثمة في الثقافة اللينينية فكرة ديكتاتورية البروليتاريا، التي تبرر الاستبداد، والديكتاتورية، وحكم الحزب الواحد والرجل الواحد، وهذا ما يتعارض مع الحرية ومع الديمقراطية أيضا.
الإسلاميون العرب: تقسيم المجتمع على أساس ديني …واستبداد الأكثرية
ولا يبدو التيار الإسلامي من جهته أحسن حالاً فهو بدوره يقسّم المجتمع على أساس ديني، إلى مسلمين وغير مسلمين، ما يقوّض مفهوم الهويّة الوطنية والمواطنة المدنية والوحدة المجتمعية، التي تفترض المجتمع تعبيراً عن مجموع المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون وإزاء الدولة.
وهذا التيار يعتقد بأن حصوله على أكثرية في الانتخابات (كما في مصر مثلاً)، تخوّله أخذ الدولة والمجتمع حيث يريد وفرض الدستور والتشريعات التي تتلاءم مع عقيدته الدينية على الدولة الدنيوية (مع ضمان حق «الملل» الأخرى في فرض شرائعها على اتباعها)، وهذا ينطبق على مناحي التعليم والإعلام.
وفي الواقع فإن فكرة الأكثرية هذه فكرة استبدادية وتعسفية ومضللة، إذ أن الأغلبية المسلمة في مصر، أيضا، تنطوي على تعددية، إذ ثمة مسلمون، بحسب الدين، ينتمون الى تيارات غير دينية، أي قومية وعلمانية وليبرالية ويسارية، كما أن المسلمين ذاتهم، ينضوون في تيارات إسلامية متعارضة او تختلف مع بعضها. ثم أن التيار الإسلامي، بشكل عام، يؤمن بفكرة الحاكمية، أي الحكم لله، في حين أن هذا أمر مضلل، ويحجب حقيقة أن ثمة بشر هم الذين يحكمون باسم الله، ويدعون الوصاية على الإسلام وعلى المسلمين، ويضفون على أنفسهم قدسية معينة، تجعلهم خارج المساءلة، فيما يسمى استبداد سياسي مقدس أو استبداد سياسي باسم الدين.
القوميون من جهتهم يرون أن الأولوية لوحدة الأمة على أساس عرقي، أي أن هذا يشمل العصبية أو العنصرية، وتالياً، عدم الاعتراف بحقوق الآخرين، من الإثينيات الأخرى (الكرد في الحالة السورية والعراقية والتركية والإيرانية مثلا). كما أن هذا الأمر يجعلهم يقللون من أهمية الحرية، باعتبار أن الحرية عندهم هي حرية الوطن، أو الأمة، وهو كلام مخادع، لأن الحرية هي معطى فردي، وليس معطى جماعي، إذ الأفراد الأحرار يعطون الأمة حريتها، في حين العكس غير صحيح.
القنطرة- موقع حزب الحداثة.