المرأة بين الحرية الراشدة و التمركز الساذج.
تصاعد اللغط مؤخرا حول قضية “الحريات الفردية” وترسيخها في المجتمع المغربي، هذا المجتمع المسلم المحافظ الذي لازال معتزا بدينه مدافعا عن قيمه الأصيلة مشمئزا من الأفكار الدخيلة خاصة إذا كانت هذه الأفكار مناوئة لخصوصيته الثقافية والحضارية.
إن مفهوم “الحرية” مفهوم أصيل داخل المنظومة الإسلامية، فقد جاءت عدة نصوص شرعية تؤكد على أهميته بل جعلته شرطا أساسيا لصحة التكليف، فلا يمكن للإنسان المُكره أن يكون عمله متقبلا من الله، قال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
يتعين على الإنسان أن يحيا حياته على مقتضى الحرية الراشدة، وليست هي الحرية السلبية التي ترجع إلى فعل الإنسان لكل ما يعجبه ويستهويه -فقد يكون ما يعجبه أو يستهويه موافقا لقيود ترد عليه من خارج ذاته- وإنما الحرية الإيجابية التي تقوم في تقرير الإنسان بنفسه لما يعنيه من أموره، مسترشدا بنور عقله وحده، لذا كان القانون لا يعارض الحرية الراشدة ولا يحد من استعمالها متى كان مؤسسا على مقتضى العقل أو على مقتضى الإرادة العامة .
الملاحظ عند هؤلاء الداعين إلى الإباحة المطلقة للحريات الفردية أنهم يختزلونها في الجانب البهيمي للإنسان (العلاقات الجنسية خارج الإطار الشرعي، إجهاض، شذوذ..)، وهم بذلك ينزعون عن الإنسان قداسته ويقعون فيما يسمى بالإباحية المعرفية حيث لا حرمات ولا مطلقات، فيمكن أن نسمي من يسير وفق هذا الطريق بالإنسان الجسدي أو الجنساني أو الغرائزي، وهو الإنسان الذي يرشد حياته ويعيد صياغتها في ضوء لذته الحسية المباشرة خارج أي أنساق إنسانية اجتماعية أو أخلاقية.
مشكلة هؤلاء الجنسانين -إن صح التعبير- هي في أنهم يقومون بإشغال الرأي العام بقضايا هامشية أو مطالب فئوية في دائرة هموم الإنسان، الذي يطمح إلى حل معضلاته الكبرى كالتعليم الجيد والصحة التي تحترم كرامة الإنسان، والشغل والبنية التحتية المناسبة للقرن الواحد والعشرين.
هذه الحريات الفردية (الجنسية) ستكون لها آثار وخيمة على المرأة باعتبارها نواة الأسرة ، ومربية للأجيال، ولهذا يسعى دعاة الجنسانية إلى ما يعرف بحركات التمركز حول الأنثى إلى جعل المرأة في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل، كما أنهم يسعون سعيا حثيثا للتزهيد في مفهوم الأسرة والقضاء على الدور الطبيعي للمرأة في الحياة.
واقع المرأة الغربية داخل المنظومة الحداثية وما بعدها:
في وثائقي أنجزته قناة ARTE تحت عنوان: “الإجهاض، قانون الصمت” جاء ذكر شهادة لامرأة مارست حريتها الجنسية تحت مسمى الحريات الفردية وهي في سن 17 وصديقها في سن 45 من عمره وكان متزوجا وله أطفال، وبعد أن قضى بغيته منها هرب وتركها لوحدها تواجه مصيرها، فلم تجد مخرجا حينئذ سوى الإجهاض، وما حدث لها خلف لها صدمة نفسية وعاطفية خطيرة .
هناك ظاهرة اجتماعية معروفة في الولايات المتحدة تسمى “تأنيث الفقر fiminization of poverty”، إذ يبدو أنه في إطار حرية المرأة و حرية الرجل، يتعايش رجل مع امرأة تنجب منه طفلا أو طفلين عادة دون أن يرتبطا بعقد زواج، وبعد فترة قصيرة أو طويلة يتملك الرجل الملل وتنشب المعارك بين الطرفين فيقرر الرجل أن يحقق ذاته خارج إطار الأسرة فيحمل متاعه ويذهب، تاركا الأم المهجورة وحدها، ترعى الطفلين، فتزيد أعباءها النفسية والاجتماعية و الاقتصادية (مهما دفع الرجل من نفقة) وازداد الرجال متعة وحركية استهلاكية، أي أنه تم تأنيث الفقر، ويمكن أن نضيف أنه تم كذلك تأنيث الجهد النفسي والإرهاق البدني.
ولعل هذا من أهم الأسباب السوسيولوجية لزيادة معدلات السحاق في المجتمعات الغربية فهو يحل مشكلة ضرورة تفريغ الطاقة الجنسية للأنثى دون أن يدخلها في دوامة العلاقة مع الرجل التي توردها موارد التهلكة والفقر والألم والهجران .
وتحت رحمة الحرية الفردية يتم استغلال النساء في الغرب أبشع استغلال في مجال الدعاية والإعلان، حيث تحولت إلى وسيلة إغراء لتسويق السلع والمنتجات المختلفة التي لا تعنى أغلبها بشؤون المرأة، كل هذا يحدث بعيدا عن كل أساس أخلاقي أو إنساني دون أن يكون للمرأة حق الاعتراض أو التمرد، فإن أبدت معارضة اتهموها بالرجعية والتخلف.
يقول د. عبد الوهاب المسيري: “ويساند عملية حوسلة المرأة (أي تحويلها إلى وسيلة) هذه وتوسيع نطاق الإمبريالية النفسية صناعة الإعلانات التي تستخدم المرأة لتصعيد الرغبات الاستهلاكية عند كل من الرجل والمرأة، وتعيد إنتاج صورة المرأة بإعتبارها جسدا ماديا محضا، موضوعا للرغبة المادية المباشرة، ثم تأتي أخيرا صناعة السينما في الولايات المتحدة (هوليود) التي تعيد صياغة صورة المرأة في وجداننا جميعا فهي تنزع عن المرأة كل قداسة وتعريها لا من ملابسها وحسب وإنما من إنسانيتها وكينونتها الحضارية والاجتماعية وخصوصيتها الثقافية بحيث تصبح مثل الإنسان المقترح من قبل النظام العالمي الجديد: إنسان بلا ذاكرة ولا وعي، إنسان عصر ما بعد الحداثة والعالم الذي لا مركز له” .
تعاني المرأة الغربية من ألم الخيانة الزوجية، كما أنها تعاني من الأمراض المنقولة جنسيا، فقد كشف تقرير أن في الولايات المتحدة الأمريكية 65 مليون شخص يعاني من أمراض جنسية لا يمكن شفاؤها . كل هذا يحدث ولازال بعضهم يحاول أن يشرعن هذه الأمور تحت مسمى الحرية الفردية دون النظر إلى عواقب هذه الممارسات الوخيمة على الفرد والمجتمع.
وحسب بعض الدراسات فإن العنف الجسدي والجنسي ضد المرأة منتشر بشكل كبير في أوروبا، حيث تُبلغ واحدة من كل ثلاث نساء عن شكل من أشكال الاعتداءات الجنسية والبدنية منذ سن 15.
وأوضحت هذه التقارير أن هذا العنف موجود في دول يضرب بها المثل في المساواة بين الجنسين، فعلى سبيل المثال: صرحت العديد من النساء بتعرضهن للعنف البدني والجنسي منذ السن 15 عاما في الدنمارك بنسبة 52%، فنلندا 47%، والسويد 46% .
أما الولايات المتحدة الأمريكية ففي عام 1980م حصل مليون وخمسمائة وثلاثة وخمسون ألف حالة إجهاض، 30% منها لدى نساء لم يتجاوزن سن العشرين، وقالت الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك، وفي عام 1982م 80% من المتزوجات منذ 15 عاما أصبحن مطلقات، و8 ملايين امرأة يعشن وحدهن دون أية مساعدة خارجية .
توضح هذه الأرقام والإحصائيات كيف أن إعطاء الحرية المطلقة و اللامسؤولة أوقع الغرب في العديد من المشكلات كتحطيم مفهوم الأسرة، كما أنه يضيع حقوق المرأة عوض حفظها، ومع هذا لازال بعض المستغربين يحاولون تقديس هذه الأمور والتدليس على الناس.
وفي الختام أود الإشارة إلى ما تخلفه الحرية المطلقة من آثار على المسار الفطري للإنسان السوي، ففتح العلاقات بين الذكر والأنثى خارج إطار الأسرة يؤدي إلى عواقب نفسية وآثار اجتماعية خطيرة و مدمرة، وفتح الباب القانوني للعلاقات المثلية يلغي فكرة الأسرة كليا، و كل هذا يقتل الروح في البناء والروابط الأسرية التي تعد المرأة (الزوجة والأم) أحد أهم أركانه الأساسية.
لـرياض صدقي.
مركز يقين- موقع حزب الحداثة.