حداثة و ديمقراطية

علاقة التنوير بالبنى الاجتماعية والسياسية.

خطوات على طريق التنوير

هذا البحث يحاول اكتشاف العلاقة بين التنوير وحوامله الاجتماعية والسياسية، سيما أننا لا نزال ننظر إلى تطور أنساق حياتنا من منظار ثقافة أحادية، ترتبط بمفهومي القضاء والقدر، أي إننا نفتقد إلى “التنوير الذي يقوم بتحريك الفكر، وتحرير العقل من الأوهام، ويتخلص من أي سلطة معرفية، تعمل على كبح لجام العقل النقدي ومحاصرته، وجعله عاجزاً عن تحفيز الأسئلة وإثارتها .

باختصار، نحن نريد أن يكون تفكيرنا علمياً، يعتمد على تحليل الظاهرات والأحداث وتركيبهما، واستنباط اتجاهات حركتها.

المدخل

أسئلة كثيرة يطرحها الواقع علينا، ويأتي في مقدمتها سؤال رئيس: لماذا تتقدم الأمم ونحن لا نزال نغوص في وحل صراعاتنا الطائفية والقبلية والدينية، ونغرق أكثر فأكثر في طين التخلف والجهل والخوف من الغد المجهول؟.

إن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى تسليط ضوء كاشف على درجة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، التي تعدُّ بمحصلتها النهائية بعيدة عن موقعنا الحقيقي في سياق تطور الحضارة البشرية. إن تسليط الضوء على درجة التطور الاجتماعي العام، يعني بالضرورة معرفة البنى الاجتماعية، التي تتعايش متزامنة ومتفاوتة في التطور ما يجعل منها تشكيلة اجتماعية ذات سمات عامة محددة.

لماذا نحتاج إلى التنوير؟!

يمكن اعتبار التنوير تجاوزاً لمفاهيم اعتمدت مبدأً استاتيكياً. أي فهم الظواهر والأحداث، هذه الاستاتيكية ولدت نتيجة انغلاق البنية الاجتماعية على قراءتها لنصوص دينية، دون اكتشاف جدلية العلاقة بين الفكرة والواقع المُنتج لها. ولهذا يكون التنوير بعثاً للفكر النقدي التحرري، وهو بممارسة إضاءته النقدية للواقع، يساعد على استخدام العقل الرافض للمفاهيم الغيبية المتسمة بمفاهيم غير عقلية، واعتماد العقل البشري مصدراً وحيداً للمعرفة البشرية. ولكن يجب التمييز بين الفكر التنويري والفكر الإصلاحي، فالأول يعتمد أدوات علمية وفق منهج علمي صارم، يتبنى تحليل الظاهرات وتركيبها والكشف عن العلاقة الجدلية بين أنساقها، وهذا يعطي جلاءً في اتجاهات الحركة والتطور، الذي تمر به الظاهرات. أما الفكر الإصلاحي، فهو يتبنى تصحيح مسارات التطور، التي يعتقد أن مسارها قد غيّر مجراه. ولكنه يبتعد عن نقد جوهر البنية العميق الذي تنتظم الظاهرات وفقه.

لهذا نستطيع القول، إن “مصطلح الإصلاح الديني لا يمكن أن يكون أداة بحثية في التفسير والتحليل النقدي، لأنه ببساطة مصطلح متجاوز في الصيرورة الاجتماعية التاريخية”. وهو ما يعني ضرورة التنوير.

جدل العلاقة بين التنوير والبنى الاجتماعية

إن الحديث عن البنى الاجتماعية القائمة في مجتمعاتنا هي من يوضّح طبيعة التشكيلة الاجتماعية، وطبيعة العلاقات بين أنساق هذه التشكيلة، ونقصد أنماط الإنتاج وما يرتبط بها من وعي فكري وسياسي واجتماعي. فثمة فرق واسع بين نمط إنتاج أقرب إلى الطبيعي أو الحرفي، ونمط إنتاج صناعي متطور. الفرق هنا هو فرق بنيوي، لا شكلاني، وبالتالي هو فرق علمي وحضاري في آن واحد. ولذلك يمكن القول، إن مجتمعاتنا تفتقد الحداثة، لأنها ببساطة لا تزال بعيدة عن عقلنة الواقع. فهي تفسّر غالبية الظاهرات السياسية والاجتماعية وكأنها أقدار وابتلاءات من خارج سياق تطور بناها الاجتماعية.

إن الحداثة تعني عقلنة العالم، أي فهم العالم على نحو علمي وعقلاني رشيدين، وليس فهماً غيبياً ميتافيزيقياً، ولهذا لا معنى لفهم أي ظاهرة فكرية أو سياسية بدون فهم حاملها الاجتماعي، وكذلك ضرورة معرفة درجة تطور هذا الحامل الاجتماعي.

وإذا عدنا إلى البنى الاجتماعية في الدول العربية والإسلامية، يمكن القول إن التشكيلة الاجتماعية في غالبية البلدان العربية والإسلامية، هي ذات طبيعة زراعية وريعية بصورة عامة، أي إن اقتصاداتها يغلب عليها العلاقات الزراعية المحددة، وكذلك اعتماد هذه الاقتصادات على الاقتصاد الريعي، أي استخراج الثروات الباطنية وتصديرها. أي إن البنى الاجتماعية الجديدة ذات المرتكز الفكري العلمي، لم تشكّل ظاهرة التحول الاجتماعي، وبالتالي فهي بنى عاجزة عن حمل مشروع التنوير، الذي يتطلب تطوراً فكرياً ونمط تفكير يعتمد أساليب العلم ونتائجه.

البنى الاجتماعية المتخلفة في الواقع هي بنى لا تزال تؤطر نفسها بأفكار ماضوية، تقول إن “الإسلام هو الحل لكل مشاكل الأمة”. وهذا التأطير أساسه غياب النقد الفكري العلمي للظاهرات، بغض النظر عن مدى توافقها أو افتراقها مع بعض آيات القرآن، التي نزلت لأسباب محددة زمانياً ومكانياً.

إن غياب النقد العلمي يعني غياب الوعي العلمي الحقيقي الذي يكتشف الظاهرات في الطبيعة والمجتمع، ويكتشف طبيعة العلاقات، والجدل بين عناصر هذه الظاهرات. هذا الغياب يقف وراء حاجتنا للتنوير، “والتنوير يعني خلاص الإنسان من سذاجته التي جلبها لنفسه، وذلك باستخدامه للعقل دون أن يشوّه التعصب تفكيره”. كما يقول المفكر كانط.

إذاً إن البنى الاجتماعية المتخلفة هي بنى مفوّتة التطور العلمي في كل أنساقها، ولهذا لا يمكن فهم كيفية حدوث تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي وفكري عام، بدون فهم الأسباب الحقيقية لهذا التفوّت التطوري العلمي. فالتخلف ليس قدراً، بل هو تعبير عن درجة الابتعاد عن استخدام العقل في فهم العالم وتحولاته. ففي البنى المتخلفة كما لدينا، لا تزال العلاقة بين البنى الاجتماعية والدين هي علاقة لا عقلانية، أي بمعنى آخر، كيف يمكن تزامن الوعي الاجتماعي المتغير بتغير شروطه مع روحية الدين، التي تشكّل العبادة جوهرها الرئيس.

إن قراءة الظاهرات الاجتماعية والسياسية وفق منظار ديني، يعني ببساطة إلغاء مساحة العقل الفاعلة في فهم الظاهرات، فليس من وظيفة الدين تفسير الظاهرات، ولكن وظيفته الرئيسة هي ترسيخ القيم الأخلاقية العليا التي تقربه من خالقه. من هذه الرؤية، يمكن معرفة أسباب فشل التنوير لدينا، فنحن تعاملنا مع التنوير عبر نصوص من خارج سياق تطور بُنانا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذا جهل لا معرفة علمية، لأنه ببساطة تجاهل طبيعة البنية الاجتماعية وخصائصها، والعلاقة بين أنساقها الداخلية، وأضفى عليها نتائج بنى أخرى مختلفة بطبيعة تطورها. لذلك يحق لنا القول، إن “فشل التنوير يُبحث عنه وعن جذوره في البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي العلاقة بين الدولة والقبيلة والطائفة”. وهذه البنية المعنية تشكّل المحور الرئيس في التشكيلة الاجتماعية واتجاهات تطورها.

إن التنوير هنا حاجة ضرورية، لأن البنى الاجتماعية والاقتصادية في التشكيلة الاجتماعية لم تشهد تحولاً حقيقياً في جوهر بنيتها، ولا تغيّراً ملحوظاً على مستوى نمطية التفكير، وما ينتج عنه من سلوكيات القيم والتقاليد الموروثة من عصور الماضي المليئة بالجهل. ولذلك فالتنوير هنا استبدال لنمط التفكير السائد بنمط تفكير علمي نقدي، يجعل نظرتنا للظاهرات أكثر واقعية، وأقرب فهماً.

جدل العلاقة بين التنوير ونمط الحكم السياسي

منذ أن اقترن الدين بالسياسة، أي بنظام الحكم، أصبح الدين إيديولوجيا لنظام الحكم المعني، وبالتالي، أصبح لهذه الإيديولوجيا مفكرون وأصحاب اجتهادات فكرية، تعيد إنتاج النص الديني كقراءة، وفق سياق يخدم نظام الحكم، ويمكن القول هنا: إن نظام الحكم يمثل المصلحة المتعلقة بالطبقة الحاكمة، بينما الدين ذو وظيفة أخلاقية، وكذلك خلقُ توازن روحي لدى الإنسان.

إن نظام الحكم السياسي يرتبط عادة بمصالح الطبقة الاجتماعية المهيمنة، التي تحاول تأبيد مصالحها، والهيمنة هنا تعني تسخير قدرات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في خدمة الطبقة السياسية الحاكمة.

ولهذا فإن كل انفتاح على التطور الاجتماعي العام، تعدُّه أنظمة الحكم السياسية المهيمنة تهديداً لمصالحها ووجودها. ولهذا فهي تغلق الأبواب بوجهه، وتستخدم أدوات مختلفة، تشرّع إعادة إنتاج هذه المصالح وبقاء الهيمنة.

لذلك تعدُّ الحداثة عدواً حقيقياً لها، لأنها تعرض تصوراتها حول الإنسان وعقله وفكره، وهو عرض يتناقض مع فهمها ومصالحها. الحداثة تعني هنا التطورات والتحولات في البنى الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي في البنى السياسية، وهذه الحداثة سوف تعيد النظر في بنى الإنتاج والمعرفة والثقافة والتكنولوجيا.

إذاً يمكننا القول: إن أنظمة الحكم السياسي ذات النمط التسلطي التي تستعين برجال الدين (أكليروس- شيوخ-..) تعبّر عن القديم والتقليدي المشبع بالقهر الفكري، وبتغييب العقل والعلم، ولهذا تعدُّ أنظمة الحكم السياسي التسلطية الحداثة نقيضاً لها، وتحاربها على أساس أنها مذهب سياسي، ونظام تفكير اجتماعي وثقافي هدّام. في حين لا يمكن النظر إلى الحداثة بعين الأنظمة المستبدة، فالحداثة ليست مذهباً سياسياً أو تربوياً، بل هي تكثيف لحركة الانفتاح على تطور الحياة، وتشجيع الإبداع، وبالتالي، فهي تعمل على تغيير نمط التفكير والممارسة العملية، وكذلك تغيير السلوك الاخلاقي.

وفق هذه الرؤية يمكن فهم أسباب غرقنا في الجمود الفكري، وسيطرة الذهنية الغيبية، التي تولدها الطرائق الصوفية، فهذه كلها ترتكز على علاقات إنتاج هي مزيج من العلاقات الإقطاعية والعبودية والحرفية، في ظل نظام اقتصادي يعتمد أسلوب الاقتصاد الريعي، حيث تسيطر السلطة الاستبدادية عليه عبر أذرعها المختلفة.

إذاً، إن حركة الحداثة التي تمثل جوهر التنوير، لم تحدث في العمق البنيوي الاجتماعي، بسبب الإعاقة ومنع التطور الطبيعي للمجتمعات، ولهذا لم نستطع في بلداننا تشكيل تيارات تنويرية حقيقية، ترتكز على حامل اجتماعي له مصلحة في هذا التنوير على نحو مباشر. ولذلك بقيت الدعوات التنويرية أقرب ما تكون إلى صرخات فردية معزولة نسبياً في بنية تحتاج إلى تنوير مشتق منها، ومن جوهرها، وعبر اكتشاف العلاقات الجدلية للأنساق السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية فيها. وبالتالي يمكننا القول: “لم يشكّل التنوير تياراً مترابطاً، يرتكز على إنتاج معرفة جديدة، انطلاقاً من توجهات فلسفية، فالقاسم المشترك بين كثير منهم، هو تأثرهم بالثقافة الغربية، وخاصة الفرنسية، ومن ثم بفلسفة الأنوار الغربية، إلا أنهم لم يمارسوا القطيعة المعرفية التي تؤدي إلى نقد عميق للإرث الثقافي وثوابته”.

إذاً يمكننا استنتاج أن العلاقة بين التنوير ونمط الحكم السياسي هي علاقة جدلية، ولكن هذه العلاقة تأخذ أشكالاً متعددة بحسب طبيعة نظام الحكم وبنيته. فالتنوير هو هجرة الإنسان من اللارشد، أي من عجزه من عدم الإفادة من عقله بمفرده، إلى عالم العقل، وفق رأي المفكر كانط. وهذا ما لا تريده أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تخلق وصياً على العقل، واتجاهاته الفكرية، عبر مؤسسات دينية، وظيفتها تبرير وجود نظام الحكم السياسي المستبد، والدفاع عنه عبر قراءات دينية.

نقد العقل ونمط التفكير

حينما نقول نقد العقل، نقصد رفض قبول الظاهرات والأحداث بصفة مسلمات، وبديهيات، وتحديداً ما يتعلق منها بالقضايا الكبرى للوجود والحياة. وهذا النقد هو إضاءة حقيقية، تعتمد أسلوب تحليل الظاهرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على أنها بنى قابلة للتحليل العلمي. وهذا ما يجعل العقل ينتقل من قبول الخرافات والأساطير كحالات فوق طبيعية، إلى حالة قبول الظاهرات عبر منطق العلم المستند إلى منهج تحليل علمي، نستنبط من خلاله فهم الظاهرات وتكوينها.

إذاً إن نقد العقل يمكن عدَّه انتقالاً بالوعي الاجتماعي من حالة وعي زائف، إلى حالة وعي حقيقي، وهذا يستدعي بالضرورة نقد الهيمنة الفكرية وفلسفة التسليم، والسيطرة الدينية بصورتها الخادمة لتأبيد القهر والهيمنة.

إن نقد الظاهرات السياسية والفكرية والاقتصادية هو إجراء صحيح، في اتجاه إنتاج وعي حقيقي عن العالم المحيط بنا، وهذا يحتاج إلى إنتاج معرفة ملموسة، تشتق من البنية الاجتماعية لا من خارجها. هذا الإنتاج المعرفي له شروط في الواقع الاجتماعي يجب معرفتها. ولكن يصطدم الإنتاج المعرفي بانفتاحه على التطور مع البنى الفكرية السائدة التي تمنع نقضها فكرياً ما يدفع باتجاه خلق مناخ حقيقي، تتم عبره عملية إنتاج المعرفة، كاحترام قيم حقوق المساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها.

إذا ألغينا القيم، تبقى عملية إنتاج المعرفة خارج نسق تطورها الطبيعي، وبالتالي، فالتنوير يحتاج أساساً إلى مناخ يسمح بإعمال العقل، وإنتاج المعرفة. هذه الرؤية تدفعنا للقول “كان لا بد من نقد العقل التنويري، كنقدٍ للعقل بكليته من خلال محاكمة الواقع الاجتماعي ذاته، وإدانته لا تفسير ما يجري فقط من خلال نقد الأسس الفكرية والمعرفية والأنطولوجية والإيديولوجية التي يستند إليها الواقع القائم على التسلط لأجل تحرير الإنسان من الهيمنة والرقابة التي تبدو في علاقة المعرفة بالسلطة في النظام الرأسمالي المتقدم”.

إن نمط التفكير الذي تحاول فرضه أنظمة سياسية مستبدة، هو نمط غير نقدي، يعتمد لغة التفسير، أي نمط يمنع الاجتهاد خارج حدود النصوص الفكرية الدينية، وهذا إغفال للعلاقة النسبية بين الواقع والفكرة المُنتجة فيه. وهو إجراء يؤدي بالضرورة إلى السيطرة والهيمنة على التفكير وتنميطه، بما يخدم الاستبداد بأنواعه، ولهذا “أصبحت السلطات الوصي الشرعي على العقل العربي، وبأن المعرفة التي تأتي من الدولة هي المعرفة الحقيقية والخير المطلق”. ويبقى السؤال قائماً لتجاوز التخلف والجهل، ويمكن طرحه بصورة مختلفة، هل يشكّل نقد العقل ضرورة خارج درجة محددة من تطور البنية الاجتماعية والفكرية، أم إن نقد العقل ضرورة لاستمرار تطور الحياة والمجتمعات، وباعتبار التطور سمة طبيعية للحياة وجوهرها، فإن نقد العقل يقود بالضرورة إلى اكتشاف معوقات التطور، وتحديداً في جانبه الفكري الديني.

إن أداة النقد هي التنوير، أي تسليط الضوء الكاشف والعميق على طبيعة بنى الظاهرات السياسية والاقتصادية والفكرية، بغية اكتشاف آليات عملها، وكيفية عرقلتها للتطور، وهذا يتطلب تنويراً شاملاً لا شكلياً، ولا تنويراً قسرياً مثل الذي تروّج له دوائر سياسية محددة.

إن التنوير في هذه الحالة هو ضرورة واقعية لاستمرار التطور، وإن فرض صيغة تنويرية هو اختزال للواقع، وتهديم لفعل التنوير بحد ذاته. ويمكننا القول “إن التنوير الاختزالي والنفعي يُفرغ المفهوم ذاته من جوهره، ويجعله مبتذلاً، عدا أنه يرسخ كل مدى من ارتباطه في الذهنية الشعبية بالمؤامرات الخارجية الهدّامة، بل وبالوتيرة السريعة نفسها التي فُرض بها، غالباً ما ينهار، مخلفاً وراءه قوى اجتماعية ناقمة، أكثر عنفاً وتخلفاً”.

هنا، يمكننا الاستنتاج أن التنوير هو ضرورة للكشف عن أسباب عدم التطور الطبيعي للبنى الاجتماعية والسياسية. وبما أنه ضرورة، فهو يخضع لشروطه الذاتية، ودوره في إعمال العقل بجرأة علمية، والتنوير في هذه الحالة ليس رفضاً للنص الديني المقدس، بل هو رفض للقراءات المتعددة على هذا النص التي ولدت في زمن قديم، وبشروط زمانية ومكانية ودرجة تطور مختلفة. من هنا يبدو النص ابن سياقه التاريخي، وشروطه الموضوعية، هذا ما كشفه نقد العقل العربي، ونمط التفكير السائد.

اللامقدس الديني تحت المجهر

حين نتحدث عن اللامقدس الديني، فنحن نقصد كل القراءات التي حاولت مقاربة النص القرآني. فهذه القراءات هي اجتهاد فكري لبشر في مراحل مختلفة، تمتاز كل مرحلة منها بشروط ذاتية وموضوعية ودرجة تطور، وبالتالي فقراءة النص القرآني في مرحلة ما إنما هي تعبير عن حاجات ضرورية لتلك المرحلة، وتعبير عن مستوى التطور العلمي آنذاك. وحين نقول حاجات فنحن نقصد بها الحاجات الفكرية والفلسفية، وكذلك الحاجات السياسية وغيرها من الحاجات الملحة.

وحين نتحدث عن التنوير، فنحن نقصد أسلوب التفكير وآلياته، وبذلك نضع أنفسنا على مسافة من جوهر النص الديني، وهذا يجعلنا نغيّر في الأدوات والوسائل المستخدمة من قبل. إن حركة الواقع والتطور تفرض أدوات ووسائل علمية ومعرفية غير دينية لنقدها، وهذا يعني عدم جواز قسر الواقع على شكل النص الديني، فالحياة المدنية لها شروط خاصة ببنيتها وتطورها، وإن إهمال هذه الشروط واستبدالها بشروط لا تنتمي إليها “قسر الرؤية” يعني مغالطة حقيقية لطبائع الأشياء وتطورها في أنساقها.

هذه الرؤية تحيلنا إلى العلاقة بين الفكرة والواقع، أو القراءة والواقع، وأن لكل مرحلة قراءات خاصة بها، تتعلق بدرجة تطور الواقع، ومعطيات العلم فيه. ولذلك لا يمكن وفق هذا المنطق العلمي استدراج القراءة الخاصة بمراحل تاريخية سابقة، تمتد إلى أكثر من ألف عام، إلى زمن معاصر، لأنه تجاوز لشرطيْ الزمان والمكان المنتجين للظاهرة وتكوينها.

فالقراءة الخاصة بمفكرين وشيوخ إسلاميين ينتمون إلى مراحل تاريخية سابقة، هي قراءة مشروطة بواقعها، ولذلك كانت أدواتهم المعرفية تنتمي إلى زمنها، الذي يمتاز بدرجة تطور محددة. ولذلك فهي غير صالحة لقراءة الحاضر والمستقبل، ويمكن عدُّ قراءاتهم راهنية زمنها، أي ابنة شرعية لواقعهم آنذاك. وهذا يجعلنا نميز كما يقول “فوكو” بين الراهن والحاضر، إن الجديد والمهم هو الراهن، فلا يتجدد الراهن بما نحن عليه، وإنما بما نصيره، أو نحن بصدد صيرورته أي الآخر. أما الحاضر فهو على عكس ذلك، نحن بصدد تجاوزه”.

إذاً نحن بحاجة لنقد اللامقدس الديني، واكتشاف إعاقاته في الحاضر لحركة تطور واقعنا، ونمط تفكيرنا، وهذا يعني نقداً عميقاً للعقل، لا ينبغي إهماله، فالعقل البشري الذي اكتشف ووضع قوانين للظاهرات الطبيعية والسياسية والاجتماعية، هو عقل يجب أن يكون نقدياً. وبدون النقد لا يحدث التطور الصحيح، ولا تصحح حركة الواقع.

إن وضع اللامقدس الديني تحت المجهر النقدي هو ضرورة، كما أن تشخيص الواقع بشقيه السياسي والاجتماعي المعاصر هو ضرورة أيضاً. وإن غياب النقد لن يخدم سوى مزيد من تفكك مجتمعاتنا وتشظيها وزوالها. وخير دليل على ذلك طبيعة صراعاتنا الطائفية والدينية والقبلية التي لا تزال تستند إلى تلك البنية الفكرية البعيدة عن نقد العقل.

إذاً يمكننا القول إن تحرير العقل العربي من أسره، يحتاج إلى تغيير نمط التفكير بالظاهرات والأحداث، وباعتبار أن التنوير العربي لم يأخذ سياقه التاريخي الطبيعي كضرورة، بقي هذا التنوير في إطاره المعرفي الخاص والضيق” لقد كان المشروع التنويري العربي مشروعاً نخبوياً بالكامل، ولذلك ظل معزولاً، ولم يتجذر في عمق المجتمع، ولم يتحول إلى مشروع شعبي، لأنه افتقد الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية المناسبة، وظل ضمن دائرة ضيقة من المتنورين”.

إذاً بقي أمامنا أن نقول: إن التنوير في المجتمعات الإسلامية هو ضرورة تاريخية للخروج من المأزق البنيوي لهذه المجتمعات، وإن التنوير هو بوابة نقد الواقع ومعرفة التاريخ في سياقهما. الأمر الذي يضع الأمور في نصابها خارج القراءات اللامقدسة للنص الديني.

MENA RESEARCH CENTER- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate