حداثة و ديمقراطية

في تمثل مفهوم الدولة الديمقراطية وإزاحة الأنظمة التسلطية.

الديمقراطية تحتاج إلى توافق أغلب المواطنين الذين يحترمون قواعدها، وهي تتطلب في الوقت نفسه «التعددية الصراعية». وبهذا المعنى المعقد الذي يؤكد عليه ادغار موران، يتشكل النسق السياسي المركب الذي يقنن ذاتيا نفوذ الدولة كي لا تتحول إلى سلطة مستبدة، بضمان الحقوق الفردية، والفصل بين السلطات.
وعلى نحو منع تحول الدولة إلى «كلية مفترسة» تعيش على قرابين بشرية، وجهاز يضحي بالحرية الطبيعية، وبمصالح الفرد في سبيل مصالح فئوية، وجب تمثل ألف باء الديمقراطية، باعتبارها مسألة جوهرية ضمن أطر الوعي الجماهيري. والمسألة تُحسم عمليا في معاملة الناس على أنهم مواطنون لا رعايا، ولا يكون ذلك بدون ضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان وتجنب الاقصاء والأحادية، وتهيئة الأرضية للتعددية السياسية والثقافية، وتمثيل الشعب تمثيلا حقيقيا يضمن أن يكون له رأي في خيارات بلاده الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الجيد أن نتجاوز مرحلة «الأنظمة الورقية» التي لا ترى في المواطن سوى ورقة انتخابية، تزرع فيه وعيا زائفا بإمكانية التغيير، ويصبح الخطاب الديمقراطي الذي يتم تسويقه بدون هوية سياسية، مجرد استهلاك ديماغوجي يُلهي الجماهير ويسيرها. وإن كنا نعلم أن النظام الفردي الاستبدادي متجذر في الذهنية العربية الحاكمة التي تنزع إلى السلطوية الشاملة. فحُكْم الدولة يتم عبر سيادة القانون وليس العلاقات الشخصية، والعدالة والمساواة والحرية جميعها أفكار أخلاقية، يجب أن تُطبق ضمن قوانين سياسية تحكُم العلاقات الانسانية داخل المجتمع الواحد، بمعنى لا تُترك هذه المفاهيم لضمير الفرد يُحكمها أو لا يُحكمها، بما يفضي في المحصلة إلى تغييب شروط الحكم التي تسمو في المقصد.

استيعاب «مفهوم الدولة» شرط أساسي وجوهري، يفضي إلى تمثل مهمات الإصلاح الحقيقية بروح وطنية جامعة، وتشاركية سياسية لا تتجاوب مع ثقافات ما قبل الدولة، مؤشر التقوقع الطائفي والمذهبي والعشائري، أو أيديولوجيا ما فوق الدولة، كالإسلام السياسي والقومية الأيديولوجية، وتشكيلات الأممية الشيوعية، التي أثبتت جميعها أنها مجرد اندفاع دوغمائي وراء زعامات انتهازية، تسعى لتحصيل مكاسب سياسية. ومثل هذه المطالب تبعث على ضرورة تحويل اهتمام الناس من التركيز على «الحاكم الفرد» إلى الاهتمام ببرنامج الحكم وكيفية إدارة الدولة، على نحو مداخل فلسفة الحكم وتقييماتها، التي تتطلب مناقشة الأفكار والرؤى والمشاريع، وليس جدل الأشخاص. بهذا المنهج نتخلص من عقلية الزعيم والأب الروحي والقائد الملهم وكل أشكال «القداسة السياسية» المتوارثة، التي سيطرت على الأذهان وعطلت تحقق أرضية سياسية تشاركية تدفع نحو حياة ديمقراطية مواطنية، من شأنها تفعيل طاقات الشعوب وتجسيد مطالبها الإنسانية. فالحديث عن دولة حقيقية سليمة التكوين، لا يتم بتحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات، وآلات صماء، وإنما المقصود إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم حتى تقوم بوظائفها كاملة «في أمان تام» داخل وطن ينتمون إليه قلبا وقالبا.
يبدو أن إساءة استعمال السلطة، وغياب الأخلاقيات وتفاقم الفساد البيروقراطي العلني والخفي، من أبرز مظاهر الإخلال السياسي في النظام الرسمي العربي، الذي يجنح إلى التقليص من فضاء الحرية. وفي سياق التنظيم اللاعقلاني للحياة الاجتماعية، يُخيم الشعور بالإقصاء، ويُفتقَد «حكم القانون» لصالح «أهواء الحاكم وأمزجته»، وتشريعات النظام التي تُنسَج على قياس من يحكم، ومن الطبيعي أن يقل الشعور بالطاعة المفروضة قسرا في مثل هذه الحالات، وتتراجع نسبة احترام المواطنين للأنظمة التي وفرت كل الظروف «لشرعية مهتزة» لم تُحقق النمو الاقتصادي ولم تحل مشاكل البطالة أو تُوجِد وظائف، ولم تُرسخ عدالة اجتماعية. ولا تعمل على تحسين حياة الناس بما يمكنهم من العيش في ظروف جيدة تعزز الشعور الإنساني الراسخ بالانتماء، وتقلص نسبة الإحباط العامة التي تتملكهم. فالحكومات التي تتسم بهذا الطابع من التراخي والاجحاف في حق مواطنيها، لا يمكن أن تتحدث عن العدالة والمواطنة و تلوك كل تلك المفاهيم التسويقية الفضفاضة، بدون أن يلامس أحد واقعيتها، على نحو «الاستبداد الديمقراطي» الناعم والهادئ، الذي بوجوده تختفي سلطة القانون، ولا يخفى الطغيان، فهو عبارة عن ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حق كما عرفه أمثال جون لوك، وديدرو، وتوكفيل. والشخص الذي تؤول إليه السلطة في هذا المقام، يوجهها من أجل مصلحته الخاصة لا من أجل خير المحكومين. ومثل هذه الأجسام السياسية المريضة غيبت المشروع الأنبل في حاضرنا الفكري والسياسي، ذلك الذي يُزاوج بين تحرير الأوطان من الاستعمار متعدد الأشكال والتخلص من الهيمنة الأجنبية، وتجديد الفكروالارتقاء بالذهنيات، أخذا بالاعتبار أن مبدأ الديمقراطية وغايتها هو تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم بقدر الامكان في حدود العقل، بحيث يعيشون في وئام وسلام في ظل قوانين تؤسس الدولة التي تَمْتثِل إلى «مبادئ العقل». فمن عوائق الديمقراطية أن مشكلة المستبد ليست إلا الاسقاط الذاتي لمشكلة السلطة التي لا يتمثل مرضها في إرادة الأفراد السيئة و»عنف الأمير وجبن الرعايا»، على نحو ما أكد ابن خلدون، بل في تواطؤ عنف الواحد مع جبن الجميع في صورة آثمة تشكل المستبد ونظيره المهان.

لطفي العبيدي.

القدس العربي- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate