حداثة و ديمقراطية

الطغاة يتنكرون في ثوب الديمقراطية 5

تقسيم مغلوط: الطاغية الذي تعرفه أم الطاغية الذي تخشاه

ينبع رد الفعل الدولي إزاء التلاعب بالديمقراطية في جزء منه إلى خشية أن الأوتوقراطي قد يأتي في
مكانه شخص ما أو كيان ما ربما هو أسوأ منه. وبداية من الانتخابات البرلمانية في الجزائر عام
1991 ،فإن نهوض الإسلام السياسي جعل هذا الخوف قوياً لدرجة استثنائية. وتعلم الطغاة الأذكياء
استخدام منطق “أنا أو هم” لتبرير استمرار الحكم، لكن هذا التقسيم هو في الغالب تقسيم مغلوط.
مثلاً استفاد الرئيس مبارك في مصر من الخوف الغربي من أن يربح الإسلاميون أية انتخابات عادلة
في البلاد. وكدليل يمكن لمبارك أن يشير إلى انتخابات 2005 البرلمانية التي ربح فيها الإخوان
المسلمون غالبية المقاعد التي تنافسوا عليها. ولا شك في أن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية
حقيقية، لكن بعض هذه الشعبية جاء نتيجة لاقتصار الخيارات. فخلال ثلاثين عاماً رفضت الحكومة
المصرية تسجيل أكثر من 60 حزباً سياسياً فيما قبلت بحزبين فقط، وأحدهما تم تجميده فيما بعد.
والكثير من هذه الأحزاب كان كفيلاً بأن يكون منافساً علمانياً قوياً.
والإخوان المسلمون، كما سبق الذكر، ممنوعون أيضاً كحزب سياسي، لكنهم تمكنوا من البناء بتوفير
الخدمات الاجتماعية وتشكيل سمعة عنهم مفادها أنهم فوق الفساد. ولهذا فإنه حالياً إذا سعي المواطن
المصري للبديل لمبارك وحزبه الوطني الديمقراطي الحاكم، سوف يبدو أن الإخوان المسلمين هم
البديل الوحيد المتاح. ويخدم هذا مبارك جيداً، لأن الإذعان الغربي لتلاعبه بالانتخابات يُرجح أن

يتزايد على ضوء هذا الخيار السياسي غير الحقيقي. وانتهت غالبية الضغوط الأميركية الخاصة
بالتحول الديمقراطي إثر استعراض الإخوان المسلمين للقوة في عام 2005.
ولعب مشرف في باكستان لعبة مماثلة. فقد برر “حكم الطوارئ” باعتباره البديل الوحيد لحُكم القاعدة
والمتطرفين الإسلاميين. وقبل الغرب وتبنى تلاعب مشرف بالمشهد السياسي كأحد أشكال
“الاعتدال” وخطوة على الطريق نحو “الديمقراطية. ولا يهم أن الباكستانيين كما يشهد التاريخ
يصوتون لأحزاب الوسط المعتدلة (رغم فسادها وعدم ملائمتها آما ثبت تاريخياً)، وأن الأحزاب
السياسية الإسلامية لم تربح قط أكثر من 11 في المائة من الأصوات في الانتخابات الوطنية، وأن
هجمات مشرف على الوسط المعتدل أجبرته على السعي للتحالف مع الإسلاميين وأن يدعمهم
بالضرورة، وأن غياب الفرصة للتغير السياسي السلمي تحت حكم الحكومة العسكرية، تمثل قوة
دافعة للإسلاميين من حيث تمكنهم من جمع الأنصار.
ورد إدارة بوش غير الملائم على إعلان مشرف حكم الطوارئ هو من الأمثلة المُوضِحة. فعلى
جانب سافر نائب وزير الخارجية جون نغروبونتي إلى إسلام آباد ليسأل مشرف أن يرفع حالة
الطوارئ وأن يطلق سراح آلاف السجناء السياسيين الذين تم احتجازهم. بل إنه حتى قال إن: “حكم
الطوارئ لا يتفق مع الانتخابات الحرة والعادلة والنزيهة”. وحتى بوش طالب مشرف بأن “يخلع زيه
الرسمي”.
لكن حتى كتابة هذه السطور لم تسأل الحكومة الأميركية قط مشرف أن يعيد قضاة المحكمة العليا
الذين فصلهم لكي يحل محلهم موالون باركوا اختياره كرئيس فيما هو ما زال الزعيم العسكري. ولا
جمدت واشنطن أي من مساعداتها العسكرية الهائلة الممنوحة إليه. والرسالة المُرسلة كانت أنه بدلاً
من أن تخاطر بسيطرة حليفها في مكافحة الإرهاب على الأوضاع، فإن واشنطن سوف تفصل بين
الديمقراطية وسيادة القانون. كما بدا أن واشنطن تريد منع المحاكم من الاستمرار في تحرير
المشتبهين الذين اختفوا رهن احتجاز إدارة الاستخبارات الداخلية الباكستانية المسيئة للمحتجزين،

وهي هيئة الاحتجاز والتحقيق التي واتت الحكومة الأميركية فرصة الاستفادة منها.

وبدا أن خشية صعود الميليشيات الإسلامية هي السبب وراء رد الفعل الدولي المختلط إزاء
بنغلاديش. ففي البداية دعم المجتمع الدولي رؤية أكثر التزاماً بالمبادئ بخصوص الديمقراطية.
ووجدت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أن الانتخابات المقرر عقدها في يناير/كانون الثاني 2007
غير مناسبة لضمان إرسال المراقبين، مما أسهم في تأجيلها. إلا أن الحكومة الانتقالية تظاهرت
بضمان الانتخابات الحرة والعادلة فأعلنت “حالة الطوارئ” وأصبحت واجهة للحكم العسكري
الفعلي، وأشرفت على مجموعة واسعة من عمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل رهن الاحتجاز
على يد قوات الأمن التي أفلتت من العقاب. وأبدت الحكومات الأميركية والبريطانية والهندية القلق

من معدل التحضير البطيء للانتخابات لكن ليس من سجل البلاد الحقوقي الضعيف. ولا هي طالبت
الجيش بإعادة السلطات الكاملة إلى حكومة مدنية. إلا أن الاتحاد الأوروبي كان صاحب موقف أقوى
ويوفر دعماً مالياً للحكم الرشيد وحقوق الإنسان.
ومثل هذا التواطؤ مع الحكم الديكتاتوري يتم تبريره أحياناً بمزاعم متغطرسة مفادها أن الشعوب
المعنية – في العادة مسلمون وكثيراً فهم من العرب – ليست “مستعدة” للديمقراطية، وأن الأخطار
المحدقة بهذه المجتمعات هي ببساطة أآبر من أن يتم منحهم نفس الحقوق والحريات والحكم الذاتي
الذي تطمح إليها شعوب أخرى. وبمعنى آخر فإن الحكومات الغربية تشتكي أحياناً من غياب
معارضة جديرة بالدعم. لكن هذا النقص المفترض في الاستعداد، وغياب البدائل السياسية هي
بالأساس ميراث زعامات هذه البلدان، وبقبول من الغرب. والغرض الأساسي من قمع هذه النظم
الديمقراطية المزيفة هو تقييد المعارضة الفعالة وعرقلة ظهورها. وفي حالة السعودية، فإن غياب
الاستعداد هو العذر الذي تذرعت به الحكومة لتفادي عقد الانتخابات. وأبدت حكومة مشرف في
باكستان حججاً مماثلة، واتهمت الغرب بأن “لديه هوس غير واقعي بالشكل الذي يتبناه من
الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحريات المدنية… التي استغرقت قروناً من الزمان لكي (تتطور)،
لكنكم تريدوننا أن نتبناها في شهور… هذا مستحيل”.
ورفض هذا المنطق لا يعني أن الإجابة تتمثل في الانتخابات الفورية الحرة أيضاً. إذ أنه بما أن
التطرف ازدهر في بيئة سياسية مُقيدة، فربما يزدهر في انتخابات خاطفة تجري في هذه البيئة ذاتها.
ثمة حاجة إذن لحل أكثر تعقيداً… حل يدفع بالأوتوقراطيين إلى السماح بطيف واسع من الخيارات
السياسية قبل أن نهرع إلى الانتخابات، أي منح الأولوية لاحترام باقة من الحقوق السياسية الأساسية
أكثر من عملية الاقتراع ذاتها. وبدلاً من قبول مجموعة خيارات الديكتاتور العاجزة باعتبارها
الوحيدة الممكنة، فإن على من يريدون تعزيز الديمقراطية أن يضغطوا لأجل تحول في المشهد
السياسي لكي يجد الناخبون أمامهم خيارات سياسية متنوعة قبل القيام بالتصويت. وهذا الاختيار
الحقيقي يُعتبر عدواً للتطرف.

اللجوء للـ”ديمقراطي” بدلاً من المبادئ الديمقراطية
أحد مظاهر الفشل المألوفة هي دعم شخص “ديمقراطي” مزعوم بدلاً من مبادئ حقوق الإنسان التي
تضفي على الديمقراطية معناها الحق. والنظم الديمقراطية القائمة يبدو أنها تبحث بوتيرة متزايدة عن
الأشخاص – وليس المؤسسات – أملاً في أن يُعادل الشعب بين صعود زعيم يلجأ للتحدث عن
الديمقراطية بدلاً من الديمقراطية نفسها، حتى لو كان الدرس الأول للديمقراطية هو أن السلطات غير
المقيدة تخلق طاغية. وقد كان هذا الأمر من خصائص السياسة الغربية تجاه مشرف في باكستان،
لكنه أيضاً لعب دوراً محورياً في الرد على دول كثيرة مثل روسيا ونيجيريا وجورجيا.
واشتهر قول بوش حين عانق بوتين في عام 2001″ فنظر إلى عينيه ورأى روحه”. ثم قام بوتين
بشكل منهجي بتقويض كل مراكز التأثير في روسيا تقريباً… الدوما، والحُكام الإقليميون، والصحافة،
ومنظمات المجتمع المدني، وحتى الأوليغاركية. وأخيراً تفاعلت الحكومة الأميركية لكنها فقدت
فرصة مبكرة سابقة لبناء علاقة أميركية روسية تدور حول المبادئ وليس المعرفة الشخصية بين
الرئيسين.
وألمانيا التي تلعب دوراً قيادياً دائماً في تشكيل سياسة الاتحاد الأوروبي إزاء روسيا، فلها سجل
مختلط في عام 2007 .فأنجيلا ميركل المستشارة الألمانية – وربما لأنها نشأت في الشرق تحت
الحكم السوفييتي – ترى بوتين بعيون أصفى من المستشار السابق تجاري الاهتمامات؛ غيرهارد
شرودر. وقد تكلمت عدة مرات عن التوجهات المزعجة في روسيا، وأثناء رحلتها الأولى إلى موسكو
في عام 2006 قامت بزيارة منظمات المجتمع المدني الحقوقية. وأدى هذا للأمل في أن تُعلي ألمانيا
من أهمية حقوق الإنسان لدى توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي في النصف الأول من عام 2007 .وفي
واقع الأمر فقد استمرت حقوق الإنسان في أن تكون عهدة المشاورات منخفضة المستوى. وأثارت
ميركل موضوع حقوق الإنسان أثناء قمة الاتحاد الأوروبي وروسيا في مايو/أيار 2007 ،حين تم
سحق المتظاهرين، لكن فترة الرئاسة التالية للاتحاد الأوروبي، برئاسة الحكومة البرتغالية، قوضت
من ذلك الجهد بأن استبدلت إثارة قضايا حقوق الإنسان بـ “إلقاء المحاضرات”.
وكان كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكذلك الاتحاد الأوروبي صادقين بشأن التزوير الفج الذي
شاب انتخابات نيجيريا الرئاسية والبرلمانية في أبريل/نيسان 2007 ،لكن هذه الحكومات الغربية بدا

أنها متلهفة على التعاون مع الرئيس يار عدوا لأن خطابه كان إصلاحياً، حتى رغم الظروف
المحيطة بانتخابه والتي تمثل سابقة أقوى بكثير من خطابه التصالحي فيما بعد. ولم يترجم يار عدوا
أيضاً رسالته الإصلاحية إلى مقاضاة أي شخص مسؤول عن التزوير وكذلك العنف السياسي
الموازي. ومجدداً بدا أن الرسالة هي أنه طالما الزعيم المعني هو صديق للغرب؛ فحتى الانتخابات
المزورة تكفي لإضفاء الشرعية عليه.
وفي جورجيا، عام 2003 ،جلبت الثورة الوردية إلى السلطة حكومة ملتزمة بقوة بالمبادئ
الديمقراطية وبالمجتمع المدني الحيوي. لكن استمرت مشكلات حقوقية جسيمة في السنوات التالية،
خاصة في نظام العدالة الجنائية. إلا أن المنظمات الدولية والحكومات – والأبرز بينها الحكومة
الأميركية – قاومت الانتقاد القوي وتمنت أن تعتقد في النوايا الحسنة لحليف الغرب الرئيس ميكائيل
ساكاشفيلي. وخطورة تبني شخص كهذا بدلاً من تبني المبادئ الديمقراطية أصبحت ظاهرة حين
أطلقت الحكومة الجورجية في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 عنان حملة قمعية على المتظاهرين
وفرضت حكم الطوارئ لتسعة أيام.
وكما سبق الذكر فإن السياسة الأميركية إزاء باكستان يهيمن عليها الميل إلى تخفيض الديمقراطية
مقابل إعلاء المعرفة الشخصية. وبالإضافة إلى قبول فصل مشرف لقضاة المحكمة العليا للحفاظ على
رئاسته، فقد كرست إدارة بوش طاقة هائلة للتفاوض على صفقة بين مشرف ومرشحها المفضل
السابق على رئاسة الوزراء، رئيسة الوزراء السابقة بناظير بوتو، مما مهد الطريق لعودتها من
المنفى إلى باكستان. لكن في سبتمبر/أيلول حين منعت حكومة مشرف محاولة أولية لعودة نواز
شريف رئيس الوزراء السابق من المنفى، وهو منافسها المدني الأساسي، قال المتحدث باسم
الخارجية الأميركية: “هذه برمتها مسألة باكستانية ومتروكة لباكستان لتحلها”.

خذلان تركيا
لعل تركيا قدمت أهم اختبار لالتزام الاتحاد الأوروبي بالديمقراطية وحقوق الإنسان. فمن حيث المبدأ
فإن الاتحاد الأوروبي مُلزم بإدخال تركيا كعضو – وهي خطوة ذات أهمية قصوى – إذا أوفت
أنقرة بمعايير كوبنهاغن الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. إلا أن كبار زعماء أوروبا – خاصة
المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي – جهروا بمعارضة عضوية تركيا
في الاتحاد الأوروبي. ومع تزايد صعوبة احتمال دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد
الأوروبي فقد قدرته على الضغط وتضاءل نفوذه على من وجدوا احتمال عضوية تركيا بالاتحاد
الأوروبي دافعاً للإصلاح. ومن غير المثير للدهشة أن الجيش بدأ مجدداً في التدخل في الشؤون
الحكومية، وتمادى لدرجة شن حملة البريد الإلكتروني المذكورة أعلاه لمنع ترشيح عبد االله غُل
لمنصب الرئيس. ويُعزى نجاح الحكومة المدنية في إفشال محاولة الانقلاب هذه إلى إصرار الشعب
التركي، أكثر من وعد عضوية الاتحاد الأوروبي المتضاءل، على تركيا يتم فيها احترام الحقوق.

الاستنتاج

إنها بادرة أمل… أن الطغاة صاروا يؤمنون بأن الطريق إلى الشرعية يمر باعتماد الديمقراطية. وثمة
مبادئ مشتركة ويتم الشعور بها على مستوى عميق، بالمبدأ القائل بأن السيادة للشعب وأن السلطة
الحاكمة هي في نهاية المطاف سلطتهم. لكن التقدم على هذا الطريق هش، ويعتمد معناه إلى حد كبير
على التزام النظم الديمقراطية الراسخة القائمة في العالم بدفعه للأمام. إذا هي قبلت أي طاغية يقدم
مسرحية هزلية للانتخابات، وإذا قبلوا بأن يتبع التزامهم بالديمقراطية سعيهم إلى الموارد والفرص
التجارية والرؤى قصيرة الأجل بالأمن؛ فسوف ينتقصون من قيمة عُملة الديمقراطية. وإذا أمكن
للطغاة النجاح في أن ينعتوا أنفسهم بالـ”ديمقراطيين” فسوف يكتسبون أداة قوية لإبعاد الضغوط
بالحفاظ على حقوق الإنسان عنهم. لقد حان وقت الكف عن بيع الديمقراطية بثمن زهيد والبدء في
عرض رؤية أعرض وأوسع معنى للمفهوم الذي يشمل كل حقوق الإنسان.

لكينيث روث.

HUMAN RIGHTS WATCH- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate