حداثة و ديمقراطية

الديمقراطية خلل التصور والحكم.

لن يكون حديثنا في هذه المقالة المقتضبة عن حكم الديمقراطية عند الفقهاء، فالخلاف فيها معروف عند الكثيرين بين محرم بإطلاق ومجيز بشروط، ومجيز بإطلاق.

أولاً: لظني أن الخلل واقع في تصور حقيقة المفهوم  لمصطلح الديمقراطية ، وليس في  إنزال الحكم المناسب لها.
وثانياً: لأن الحكم على الأشياء والمفاهيم فرع عن تصورها، فلا بد من تجلية التصور الذي ينبثق منه الحكم الشرعي أولاً وهو موضوع الالتباس  الحاصل والذي يؤثر على الحكم المتفرع عنه. 
فاليوم نسمع من البعض محاولات حثيثة لإلصاق الديمقراطية بالعلمانية  ودمجهما في ماهية واحدة، ولو تعسفا، وجعلهما قرينتان تحت ضغط قراءة أيديولوجية مسبقة تحاول أن تنطلق من مقدمات محددة في القراءة للوصول إلى نتائج  مقررة مسبقاً في نفس الباحث  قبل البدء ببحثه.
 بعيداً عن الموضوعية والعلمية في تجلية المفهوم، لينتهي به الحكم على الديمقراطية بنفس الحكم على العلمانية للعلة المشتركة بينهما، بناء على قياس منطقي أرسطي مستخف بقياس أصولي ظاهري.
 لكن عند التحقيق نجد أن هذا التعسف المقصود في التصور لا يصدقه التاريخ أولاً،  ولا الواقع ثانياً، ولا من حيث ظروف النشأة ثالثاً.

أما من حيث التاريخ 
فقد ثبت بالاستقراء التاريخي أن ممارسة الديمقراطية كانت موجودة في كل الحضارات الإنسانية حتى في المجتمعات البدائية والقبلية وبهذا تكون ولادة الديمقراطية سابقة لولادة العلمانية بقرون طويلة ، 
أما من حيث الواقع 
فقد شهدنا في الواقع الكثير من الحكومات المنتسبة للعلمانية كمبدأ سياسي، وبالمقابل كانت تمارس أقسى أنوع الاستبداد والظلم والقهر، بصورة أبعد ما تكون عن الممارسة الديمقراطية في تداول السلطة والفصل بين السلطات واستفتاء الشعب وممارسة الرقابة على تصرفات السلطة.
 وبالمقابل كان هناك دول احتفظت بهويتها الدينية ومع ذلك فهي تمارس نوعا من الديمقراطية وتسمح بمجال كبير من الحريات  العامة. 

 أما من حيث ظروف النشأة 
فمن المعلوم أن العلمانية هي منتج غربي خالص، نشأت في ظروف صراع  خاصة في الغرب بين سلطة الكنسية و طبقة البلاء  من جهة  و وبين الطبقة المسحوقة من  الشعب  من جهة ثانية ، إضافة لتسلط الكنسية على الحقل الثقافية المعرفي وتجريم كل علم يخالف الكنيسة بتهمة الهرطقة  والتجديف ، وصولاً إلى الحد الذي سيق فيه العلماء إلى المقاصل ،   فكانت العلمانية رداً على الحكم الثيوقراطي  باسم الإله ، والتي صادرة القيم والفكر والسلطة والمال  لصالح الحق الإلهي الخالص للكنيسة في تفسير الكون والحياة وممارسة السلطة باسم الرب.

 بينما كانت الديمقراطية منتجاً بشرياً إنسانياً ، ظهر تاريخيا في كل الحضارات والدول والمجتمعات تحت ضغط الحاجة لإدارة القرار السياسي  في المجتمعات البشرية ، واسناد السلطة ، ثم أخذت تتطور حتى أخذت شكلها النهائي في الصورة الغربية على النمطية للديمقراطية المعروفة اليوم ، مع جزمنا بعدم وجود شكل واحد للديمقراطية  في العالم.
 لكن عندما نبحث  اليوم في ماهية الديمقراطية كمفهوم  نجد التلاعب بالمصطلح والمفهوم عند البعض من العلمانيين، والبعض  من الاسلاميين ، في عملية  فصم المفهوم عن المصطلح ،لغاية في نفسهم ثم إعادة تركيب مفاهيم جديدة للمصطلح،  ليسعفوا به الموقف الأيديولوجي المسبق ،ويخدموا  الموقف السياسي الخاص  في تحشيد الأتباع   لفكرتهم ، وتحييد أتباع المنافس السياسي عن مواجهتهم .  
فبعض الإسلاميين يريدون حشد الأتباع تحت شعار محاربة الديمقراطية كقرينة ومتلازمة للعلمانية ، فيجعلون الديمقراطية صنو العلمانية .  
والعلمانيون يريدون إخراج  الإسلاميين من  ملعب التنافس  السياسي ، باعتباره ملعباً علمانياً لا يجوز دخوله لمن لا يؤمن بقواعده ، وباعتبار أن رفض العلمانية هو عينه رفض الديمقراطية .

 ومن خلال هذه المماحكات الجدلية يبقى المستبد السياسي هو المستفيد الوحيد من هذا الاستقطاب السياسي المفتعل لصالح تفريغ طاقات المعارضة السياسية في صراعات بينية، بينما يبقى المستبد في مأمن عن المجابهة، حيث ينشغل الفرقاء بسؤال الهوية، عن سؤال الحرية.
 إنه عندما نقرر أن الديمقراطية هي حرية الاختيار الثقافي والسياسي للشعوب.
وذلك في اختيار السلطة السياسية الحاكمة والثقافة المحكوم بها. 
 نجد أن من العلمانيين من يقرر بأن الديمقراطية الاختيار السياسي فقط ، ويصادرون  الاختيار الثقافي بتركيب  محتوىً أيديولوجي  خاص للديمقراطية ، يجعل من العلمانية مسألة فوق دستورية لا يبقى معها خيارات ثقافية للشعوب ، وبذلك يتم إبعاد الثقافة الإسلامية من الفضاء العام باعتباره فضاء مغلقاً أمام الدين .
 
وفي المقابل نجد بعض الإسلاميين في العموم لا يقرون للشعب بالاختيار الثقافي إلا ضمن محددات فوق دستورية، ومشروطية الشريعة وفق فهمهم الخاص لها ، فكما أن العلمانيون يرون  الشعوب قاصرة في وعيها، و لا يمكن أن تؤتمن على الحرية لذلك لابد من تقيد خيارتها الثقافية  ، كذلك الاسلاميون يرون في الشعوب شعوباً قاصرة في إيمانها لا يمكن أن تؤتمن على الشريعة بدون وصاية  ونصوص فوق دستورية.
 والمؤدى  من  كل ذلك شيء  واحد ، وهو استدامة الصراع والاستقطاب العلماني الإسلامي حول الهوية على حساب استحقاق التحول الديمقراطي والحرية ، مما يطيل في عمر الحكم الدكتاتوري الاستبدادي جاثماً فوق الجميع .
 والحقيقة أن جوهر الديمقراطية كمفهوم و من خلال الاستقراء لتاريخها هي تمكين الشعوب من خيارهم الثقافي والسياسي بلا إكراه ولا وصاية من أحد  وفق شرط واحد فقط هو شرط الحرية في الاختيار . 
 فمن يحاول تقسيم الديمقراطية إلى فلسفة وآليات 
 آليات تتعلق بالانتخاب وتداول السلطة ومحاسبة الحاكم .
وإلى فلسفة  تتعلق بحق الشعب في سن التشريع، ليجعل من حكم الشعب مقابلاً ومصادماً لحكم الله، ثم يقول نقبل الآليات ونرفض الفلسفة، لم يفقه من الديمقراطية حقيقتها ولم يتضح عنده التصور الصحيح لمفهومها،  لتعليل بسيط  وهو أنه لا في الحكم الديمقراطي يكون الشعب هو من يحكم مباشرة ، ولا في النظام الإسلامي يكون الله عز وجل هو  من يحكم مباشرة ، وإنما من يمثلون الشعب  النواب المنتخبون  منه هم من يحكمون ، والقارئين الموقعين عن الله من المجتهدين هم من يشرعون  ويجتهدون .
ومن المسلمات الاجتماعية أن الناس عندما يشرعون ،فإنهم يشرعون بما يؤمنون به و يعتقدونه من قيم وتراث ومعتقدات. 
والديمقراطية ليست هي من يحلل ويحرم، وانما من يمارسها هم من يحللون ويحرمون  تحت تأثير وباعث الثقافة والمعتقد والإيمان .

إن هذه القسمة الثنائية للديمقراطية بين فلسفة وآليات لا تعرفها الديمقراطية أساساً، وإنما  الديمقراطية هي أداة  ووسيلة إدارية حيادية في الحكم والسياسة .

وهنا لا ندعي أن الديمقراطية نظام خال من العيوب لكنها  تبقى على كثرة عيوبها  ضرورة لعقلنة التدافع السياسي ونقله  من العنف إلى الوسائل السلمية  ليس فقط في  الصراع العلماني الاسلامي  كما يعتقد البعض  ، بل هي ضرورة لعقلنة الصراع بين التيارات الاسلامية نفسها  فقلما تتجاور جماعتان إسلاميتان وتمتلكان  شيئاً من القوة الخشنة  ولا ينتهى أمرها بالقتال والدماء والسحق.

إن كل مخاوف الاسلاميين من الديمقراطية مبعثها  نابع من التعاقد الدستوري أساساً  فإن كان التعاقد الدستوري  قائم على منع تشريع أي مادة تعارض قطعيات الدين فما بقي العيب في الديمقراطية  .
وإن وجد ما لا يرضه الإسلاميون  في الديمقراطية من خلل وعيوب فمرده الى مواد التعاقد الدستوري أصلاً ،  وليس للديمقراطية التي تنفذ بنود التعاقد وتسير وفق خطوطه المرسومة.
 ثم لماذا نورط أنفسنا بهذا التفسير الثنائي للديمقراطية  على أساس الأليات والفلسفة 
ثم نضطر للقول  بقبول الجزء الإجرائي منها ،وهو ما يسمونه الآليات ونرفض الجزء الأيديولوجي وهو ما يسميه البعض الفلسفة .
فلسنا مضطرين ابتداء  لتبني هذا المفهوم الذي لبسه بعض العلمانيين وبعض الإسلاميين لمفهوم الديمقراطية أصلا ،فالأصل أن نقول نحن نقبل الديمقراطية وفق التفسير الاحادي للديمقراطية.
 إن العلمانية ليست من مستلزمات الديمقراطية ولا من شروطها فقد نجد نظاما علمانيا أو إسلاميا في قمة الدكتاتورية والعكس صحيح ، وهذا يثبت حيادية الديمقراطية كمبدأ ، وأنها الطريقة السلمية المرنة لتشريع الأحكام وتقييد السلطان، فيمكن تطويعها لخدمة نظام علماني متصلب، ويمكن تطويعها لخدمة نظام إسلامي متحضر.

فالنظام إنما يكون إسلاميا أو غير إسلامي في الخيار الديمقراطي تبعا لتوجه الأمة، بينما الفاصل في غياب الديمقراطية والحكم بالقوة والغلبة، هو الحاكم الفرد المتغلب، فهل يكون الفرد المتغلب أكثر ائتماناً على هوية الأمة وخيارها من مجموع الأمة التي لا تجتمع على ضلالة.

لعباس شريفة.

رؤية للثقافة و الإعلام- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate