كتاب المجال العام الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام
يقع هذا الكتاب في مقدمة وستة فصول وخاتمة، وذلك في 430 صفحة من الحجم الكبير، يتعرض المؤلف فى المقدمة لمفهوم المجال العام بنيةً تحتيةً خطابيةً، ومعيارًا كامنًا للأداء الوظيفي للمجتمع المدني، ويعرف المجال العام أيضًا بأنه وجود مستوى من الفعل الاجتماعي ومن الاتصال بين الدول، يشكل فضاءً اجتماعيًا يتفاعل فيه الأفراد ويتعاونون.
وقد عنون الفصل الأول بــ”الدين والحضارة وإعادة تعريف التراث” يتحدث سالفاتوري فيه عن مفهوم التراث وعلاقته بالحضارة، وبالدين والتحولات المحورية، وبالنبوة، وبالفلسفة. أمّا الفصل الثاني المعنون بـ “تجسير العلاقة بين الخيال والممارسة”، فيتناول التراث والممارسة، والفعل التواصلي عند هبرماس، والتراث بوصفه صورة للحياة وخطابًا في الحياة اليومية. وقد عنون الفصل الثالث بـ “من المصلحة العامة إلى المصلحة المسيحية”، ويتناول فيه العقلانية العملية ومفهوم العدل، والرهبنة، ودور القيم المسيحية في صناعة المجال العام.
وقد كان عنوان الفصل الرابع “السعي الجمعي نحو الخير”، وفيه يتناول المجال العام في الحضارة الإسلامية، ودور حركات الزهد في صناعة هذا المجال، ثم انتصار التفكير العملي عند الشاطبي. أما الفصل الخامس “انهيار التراث وإعادة تعريف الحس المشترك، فيعتني بالتحول من الخطاب الشعري إلى الخطاب العام مرورًا بالممارسة الفقهية. ويتناول في الفصل السادس “المجال العام الحديث: تحويل العقل العملي إلى اتصال تدبري” المجال العام والمجال الخاص لدى هبرماس وغيره من المعاصرين. ثم تأتي خاتمة الكتاب، وفيها يقدم الجينالوجيا البديلة التي يطرحها سالفاتوري للمجال العام مقابلاً لرؤية هبرماس.
ينطلق الكتاب من نقد أطروحة هبرماس حول “التحول البنائي للمجال العام” التي نشرت بالإنجليزية عام 1989، وكان هبرماس قد حصل بهذا العمل على درجة الأستاذية عام 1962. يرى سالفاتوري أن هبرماس قد نظر للمجال العام الحديث على أنه يشكل قطيعة مع التراث بما في ذلك صور التراث الديني، ورغم إيمان هبرماس بدور حركة الإصلاح الديني في بزوغ المجال العام، إلا أنه ينظر إلى المجال العام على أنه فضاء علماني مؤسس على العقل قامت الطبقة البرجوازية بصناعته مع ظهور الحداثة فى أوروبا، وتستند نظرية هبرماس فى المجال العام على نظريته في الفعل التواصلي القائم على العقلانية والقصدية للفعل والتفاعل بين البشر.
وقد انتقدت نظرية هبرماس فى المجال العام من قبل العديد من المفكرين، وذلك لأنها قللت من الفروق القومية والتاريخية بين النماذج المختلفة للمجالات العامة الحديثة، وعدم اهتمامها بالتداخل المعقد بين المجالات المحلية والقومية وعبر القومية، واتسمت نظرية هبرماس بالمنحى المعياري في توصيف المجال العام على أنه متفرد في الحضارة الغربية، وهي نزهة تتسم بمركزية الغرب.
حاول سالفاتوري أن يقدم نظرية جديدة ارتكز فيها على الاستفادة من أعمال الفيلسوف الإيطالي فيكو في كتابه “العلم الجديد”، ومن أعمال الفيلسوف الأمريكي “السيدير ماكنتير” حول التراث والقيم، وفكك سالفاتوري نظرية هبرماس التي تعتمد على مركزية الفكر الأوروبي في المجال العام، وعقلانية المجال العام وعلمانيته، ويرى سالفاتوري أن “التراث”، رغم أنه توجه نحو الماضي، إلا أن له قوة كبيرة في تشكيل الحاضر، وأن التراث له قوة كبيرة في تفسير الظواهر الاجتماعية بما فيها المجال العام.
يرى أرماندو سالفاتوري أنّه من الضروري النظر في الاختراقات المحورية التي حدثت في التاريخ الفكري للبشرية، إذ حدث اختراق محوري على يد الديانات الإبراهيمية التي قدمت لنا مفاهيم عن الخلاص والخروج، والعهد وأرض الميعاد، لتصبح الفكرة المتعالية هي مفتاح تنظيم الروابط الاجتماعية، وقد شكلت الذات المتعالية (الله) الدور الأكبر في عملية الوساطة في تكوين العلاقات الاجتماعية، وأشكال السلطة، ومن خلال مفهوم الله يمكن أن نؤسس لعملية الاتصال التي تتم بين الذوات المختلفة.
وتناول سالفاتوري دور الخطاب الوعظي فى صياغة المجال العام في المسيحية والإسلام، ويناقش مفاهيم مدينة الله عند القديس أوغسطين التي هي مدينة الرحمة والخير،في حين أن مدينة الأرض تنهض على الإرادة البشرية الضالة، ويرى أوغسطين أن الرحمة الإلهية شيء ضروري لتوجيه الإرادة نحو المصلحة العليا (ص199).كما ناقش سالفاتوري دور الرهبنة في صياغة المجال العام المسيحيّ، إذ رسخت فضيلة التواضع التي تواجه أسوأ الرذائل، وهي الغرور والكبرياء، وهذه الفضيلة أساسية في تكوين إرادة الراهب. (ص223)
وفي الفصل المتعلق بالإسلام، ناقش سالفاتوري دور الثقافة الإسلامية في صياغة المجال العام، وذلك من خلال مجموعة من النقاط المهمة، وهي:
1-أن الإسلام أسس لمفهوم الأمة أمةً عالميةً حقيقيةً تؤمن من خلال القرآن بالأوامر والنواهي للتمييز بين الخير والشر، ويجب على الإنسان أن يتصرف وفقًا للإرادة الإلهية، ووفقًا لطاعة أوامر الله؛ فالقرآن يهتم بإنتاج الفعل البشرى خدمة وحبًا لله.
2-يذهب سالفاتوري إلى أن تراث الإسلام يحتوى على فكرتين رئيستين؛ الأولى هي الكتاب والحديث، وهى مجموعة من الأخبار والأقوال والأفعال التي قال بها الرسول، والثانية هي السنة، وهي مجموعة من الأقوال يفترض أنها صادقة، وفي الوقت نفسه ذات قوة ضابطة تنظيمية، ولذا كان للسنة قوة عملية في ضبط توجيه الحياة اليومية للناس، وفى صياغة المجال العام. (ص242)
3-وقد أسهم الفقه في صياغة المجال العام في الإسلام، وذلك من خلال عمل الفقهاء ودراساتهم حول الشريعة عبر عملية الاجتهاد والقياس التي تم التأصيل لها في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وقد بنى الفقهاء هويتهم ووظيفتهم على تطوير المبادئ الشرعية والحفاظ عليها، وكان لظهور أربعة مذاهب فقهية واحتلالها لموقع راسخ داخل التيار السني أن أصبح الفقه نشاطًا تفسيريًا عقلانيًا، وأصبح الفقهاء يميلون إلى رؤية الدين والشريعة على أنهما وجهان لعملة واحدة، إذ يحدد الدين العلاقة الوثيقة بين الخالق والمخلوق، وأما الشريعة فهي النمط المعياري المقدس الذي يحكم سلوك البشر، وذلك في علاقة الأنا بالآخر، ولكن الشريعة دون الدين تظل قوقعة فارغة (ص245-250). ويرى سالفاتوري أن المد المغولي على العالم الإسلامي، وانتشار الطرائق الصوفية في القرنين السادس والسابع الهجريين، جعلت ابن تيمية يعيد تعريف الشريعة،، باعتبارها مصدر الرؤية المعيارية الإسلامية التي تنظمها عبر الإرادة الإلهية، وعليه فالشريعة هي تأكيد لحكمة الله وأوامره التي ينفذها الإنسان على الأرض.ِ
4-يركز سالفاتوري على دور الخطاب النبوي الوعظي فى صياغة المجال العام الإسلامي، وذلك من منطلق مقولة الفيلسوف ابن سينا بأن الخطاب النبوي قد اكتسب قوته وتأثيره الإقناعي من كونه مثقلاً بالمخيلة الأسطورية، وجاء هذا الخطاب ليتلاءم مع مخيلة العامة، ويدفعهم إلى عالم الفضيلة، ولا يعنى ذلك أن الخطاب النبوي ليس صادقًا، ولكن استخدام الرموز الخيالية كان ضروريًا لغرس صدق العقيدة بطريقة اتصالية فعالة، فكان ابن سينا هو أول من صاغ نظرية للدين على أنها فلسفة للجماهير، وهى النظرية التى تأثر بها اسبينوزا وفيكو فيما بعد، ووفقًا لنظرية ابن سينا فإن رسالة الأنبياء تترجم فى أنك إن كنت تبحث عن الفضيلة الأخلاقية، فإن عقلك سوف يحقق الحرية الروحية الحقيقية التي هي النعيم، ومن ثم الانصياع إلى الأمر الإلهي القائل بأن من يمتلكون الفضيلة ويعملون الصالحات، فإن مثواهم الجنة، وسوف ينقذون من لهيب النار. (ص255-256)
5-أسهم التصوف، مقابلاً لسلطة الفقهاء، في صناعة المجال العام في الإسلام، وكان التصوف هو أكبر تحدٍ لفقهاء السنة، فلم يرفع التصوف راية التـأمل العقليّ بل رفع راية المنحى الروحيّ الصوفيّ الذي ظهر منذ فترة مبكرة عند أهل المدينة في منطق التوكل على الله ضد كل صور الجمود الشكلي الذى أرساه الفقهاء، ولم يرفض المتصوفة الشريعة، ولكنهم رأوا أنها الغطاء الخارجي للحقيقة، وأن الحقيقة لا يتم التوصل إليها إلا عبر التأمل الباطني، ومسار الحقيقة الداخلي، ولذلك سمّى الفقهاء أهل الظاهر في مقابل المتصوفة أهل الباطن، وقد أسهمت الطرائق الصوفية في بناء علاقات أكثر تكاملية مع الروابط المهنية، والطوائف الحرفية عن طريق رؤساء هذه الطرائق، ولعب قادة الطرائق الصوفية دورًا في الوساطة والتفاوض في حالات الخلافات المدنية، ودخل في الطرائق الصوفية التجار وأهل المدن والفلاحين، وكان لهذه الطرائق دور كبيرفي المجال العام الاجتماعي والسياسي في السياقات الحضرية والريفية، ولذا اكتسب مفهوم الأخوة مكانة كبيرة في التصوف الإسلامي. ومن ثم، فإذا كان الفقه القائم على الشريعة قدم النموذج المعياري للمجتمع المسلم، فإن التصوف قد زوده بالقيادة الروحية.
6-وعالج سالفاتوري دور الوقف في صناعة المجال العام الإسلامي؛ فالوقف يمثل البنية التحتية المالية التي تُؤمّن تحقيق المصالح خاصة في ميادين التعليم والإحسان، فالوقف هو مؤسسة مستقلة بذاتها، وهو عبارة عن هبة يقدمها أيّ شخص مؤمن قادر عليها، وكان هذا الوقف أكبر مصدر لتمويل الخدمات العامة، وليس غريبًا أن يقدمه الحكام لتمويل التعليم من أجل تشغيل العلماء، والحصول على دعمهم. أما وقف عمليات الإحسان، فإنه يخدم النخبة في تدعيم روابط الولاء مع الطبقات الدنيا عبر الوساطة التي يقوم بها العلماء في مجال السلطة والفقه (ص267). وعليه، فإن الوقف هو اختصار لمفهوم الصدقة الموقوفة التي يشير إليها مفهوم الصدقة الجارية؛ أي توافر مصدر دائم لفعل الخير، وما تدل عليه وثائق الوقف هو ابتغاء وجه الله من وراء هذا الفعل، كما أن إدارة الوقف تعكس المفهوم الإسلامي حول الحقوق والواجبات والمسؤوليات المرتبطة بالتوجه الجمعي للمجتمع(ص268)، وأشار سالفاتوري إلى أهمية دور العلماء في إدارة عملية الوقف؛ فالعلماء هم أولئك الذين يقودون المجتمع، والذين يشكلون المجال العام عبر تنفيذ أفكارهم القانونية في إدارة الوقف، وقد ساعد ذلك في إضفاء الشرعية على دورهم، وعلى تسهيل هذا الدور شكلاً من أشكال الوساطة بين الحكام والناس. (ص269)
7-ويعالج سالفاتوري أهمية فكرة المصلحة في علم أصول الفقه وارتباطها بمسألة المجال العام، وأن فكرة المصلحة هي أساس جل القوانين في عملية التشريع الإسلامي، والمصلحة من جذر صلح؛ أي ما يكون الإنسان به صالحًا بمعنى أن يلتزم بكل القيم الإيجابية بدءًا من الانصياع إلى الحق والأمانة والفضيلة، وصولاً إلى العدل والاستقامة (ص271). وقد ارتبطت فكرة المصلحة بفكرة الصالح العام كأحد مقاصد الشريعة في المذهب الحنبلي ثم المالكي، وأكد على ذلك الشاطبي حين ذهب إلى أن الله يضع القانون لمصلحة العباد في الحاضر والمستقبل، والمصلحة هي الحكم القائم على النفع العام، ولكن المصلحة تختلف عن المنفعة من الناحية الدينية، لأنها ترتبط بهذا العالم، ولكن المصلحة من الناحية الدينية ترتبط بما هو صالح أو خير في الحياة الأخرى. (ص274)
كما أن فكرة المصلحة تحمل بداخلها معنى من معاني المحبة، لأنها ترتبط بالوظائف الخدمية، وفكرة المصلحة عند الشاطبي لا تتساوى مطلقًا مع المصلحة الخاصة، بل مع المصلحة العامة، وذلك في فتوى الشاطبي حول الوقف في أن مبدأ المصلحة يطبق من أجل الحفاظ على طبيعة الوقف نوعًا من الهبة، لكي يتحقق نوع من المصلحة العامة.
وحاول الشاطبي أن يحول التفكير العام حول مفهوم الاستصلاح، وهو يعني التوصل إلى معيار فكرى عمليّ، يُمكن من خلاله تحقيق المصلحة التي تبنى عليها الأوامر الإلهية (ص276). ومن ثم، فإن مبدأ المصلحة عند الشاطبي يعد مفهومًا أساسيًا يرتبط بحياة البشر فى كل أبعادها المادية، والعاطفية، والفكرية. ويوضح سالفاتوري مدى تمييز الشاطبى بين المصالح كما يتم تنزيلها في الخطاب المنزل (الكتاب) والمصالح التي توجد في الحياة الإنسانية وفي العلاقات الإنسانية، إن تلك الأخيرة ليست مصالح خالصة، ولكنها ترتبط بالعادة، فقد يكون منها صالح، وبعض الأشياء الأخرى فاسدة، ومن ثم فإن خطاب الشريعة هو الذي يحدد المصالح بطريقة مطلقة، وهذه المهمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالخطاب النبوي الذي تعد وظيفته تحقيق الهدف نحو غرس شعور هادف بالصواب والخطأ في الفعل الإنساني. (ص279-280)
ومن ثم، فإن مفهوم المصلحة هو القدرة على تحرير البشر الفاعلين من ضغوط العاطفة وجعلهم عبيدًا مؤمنين بالله، وهي بذلك تحقق مقاصد الشريعة، ومن ثم فإن المصلحة هي الآلة التي يتحقق بها القانون الإلهي من حيث إنها تخدم فكرة الرفاه الإنساني، وترفع كاهل المعاناة عن البشر (ص281). ومن الملاحظ أن سالفاتوري في كتابه عن المجال العام حاول أن يفكك بناء المركزية الأوربية، كما وردت في نظرية هبرماس حول المجال العام، في قوله إن هناك مجالات عامة متعددة منها المجالات التي جاء بها التراث الإبراهيمي، والمجال العام الذي أرست دعائمه المسيحية في العصور الوسطى الأوروبية، ثم المجال العام الذي ساد في الحضارة الإسلامية والمفاهيم السائدة فيها، وهذا بخلاف المجال العام الذي صنعته الحضارة الأوروبية التي صاغته الطبقة الوسطى، وما كان يهمنا من هذا العرض بالدرجة الأولى هو الوقوف عند دور الحضارة والثقافة الإسلامية في تأسيس نظرية خاصة بها في المجال العام.
لأحمد محمد سالم.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.