حداثة و ديمقراطية

صناعة الشخصية السياسية الكاريزماتية تونس نموذجا.

هل تغيّرت ملامح المشهد السياسى بعد الانتخابات وفى أى اتّجاه؟ هل إنّنا إزاء تحوّلات جوهريّة فى مستوى بنية العلاقة بين الرئيس والحكومة والأحزاب، من جهة، والرئيس والتونسيين، من جهة أخرى؟ هل ثمّة تصوّر مختلف لتدبير السياسة؟ وهل تتوفّر الإرادة السياسيّة الجماعيّة والكافية لإحداث التغيير المنشود؟

نسوق هذه التساؤلات بعد متابعتنا للجدل الذى صاحب مقابلة الرئيس مع عدد من ممثّلى الأحزاب والمنظمات، وبعد سلسلة الإقالات، والاستقالات والتعيينات… وهو جدل كشف عن تمثّل فئة من المتابعين للشأن السياسى عن تصوّرهم لمن يحقّ له دخول قصر قرطاج وما يجب على الرئيس أن يقوم به حتى يحافظ على هيبته، إذ يتعيّن عليه إلزام الزائرين باحترام الأعراف البروتوكولية التى تضمن هيبة القصر.
ويعبّر الجدل حول سلوك الجالسين وهيأتهم، وخاصّة أشكال اللباس، وهم فى حضرة الرئيس عن توجّهين أوّلهما: رفض كلّ استخفاف بالأنموذج الذى ترسّخ منذ نشأة الدولة، والتقاليد المتبعة داخل القصر، ومعنى هذا أنّه على اللاحق أن يلتزم بما أسّسه السلف ولا يعبث بصورة ترسّخت فى المتخيّل الجمعى حول «الرئيس، والقصر»، وهى صورة تتماهى مع ما هو سائد فى البلدان الأوروبيّة والغربيّة عموما والتى تعكس «الأصل» و«الأنموذج». ولا يخطر بخلد أصحاب هذا الموقف أنّ بلدانا إفريقية أو خليجية تراعى تقاليد أخرى وتدمج هيئات مختلفة كلبس «الشلاكة» فى حضرة الملوك وفى المقابلات الرسمية.
أمّا التوجّه الثانى فإنّه يعكس موقفا يصرّ على الحفاظ على التراتيب المعمول بها لإقالة الوزراء وسائر الموظفين السامين بدعوى احترام القانون و«الناموس» والهيبة. وفى المقابل لا يعير أصحاب هذا الموقف اهتماما لاستقالات تُرسل عبر «الواتساب» وتنشر فى «الفايسبوك» وتصريحات حول ما يجرى فى كواليس السياسية… فكلّ ما يصدر عن الّذين «يشبهوننا» من هفوات وزلاّت… يبرّر أو يقلّل من شأنه فى حين أنّ الانتقاد الشديد يوجّه إلى الخصم. ونذهب إلى أنّ طريقة «الكيل بمكيالين» لا تفيد فى هذه المرحلة، إذ تفترض حالة اليقظة أن نمارس النقد بعيدا عن معايير الأيديولوجيا والانتماء الحزبى… وإن أخطأ الرئيس فى طريقة تدبيره فإنّه ليس الوحيد الذى تجاوز المعايير والأعراف، وإن لم يهتمّ الجهاز المكلّف بالبروتوكول بلفت نظر الزوّار إلى آداب الجلوس والمشية وشكل اللباس.. فهو تقصير لا شكّ فيه ولكن لا نحسب أنّه متعمّد لإظهار انعدام الذوق، و«تعجرّف» الفاعلين السياسيين…
ولا يمكن أن نتغاضى عن توجّه ثالث ينسب إلى أنصار الرئيس البَينِيين (بين النهضة ــ قيس سعيد) إذ تعكس الحملات ضدّ «سايس خوك»، والتعليقات حول السخرية على خطاب الرئيس، وصور الفوتوشوب التى تخصّه وغيرها، عن رؤية جديدة لساكن قرطاج وسعى إلى صناعة الشخصية السياسية الكاريزماتية فى سياق «ديمقراطية ناشئة ومسار متعثّر. ولا شكّ عندنا أنّ الكاريزما بما توحى إليه من سلطة ونفوذ فى المجال السياسى ليست إلاّ آلية لخلق زعامة لا تستمدّ شرعيّتها من الاختيارات الاستراتيجيّة، وحسن التصوّر والتخطيط بقدر ما تتخذّ قيمتها من صفات شخصيّة مختلفة عن النسق التنميطى، ومن سلوك وطريقة فى تدبير السياسية مخالفة للمعهود ومحدثة للتغيير ومربكة للمأسسة.
وتخبرنا الدراسات السياسية التى انشغلت بتفكيك بنية الكاريزما فى الديمقراطيات المعاصرة أنّ صناعة الكاريزما السياسية تقوم على بيروقراطية ملغزة وتراتيب غير واضحة، ودعم من الأنصار الذين يحرصون على الأخلقة وبناء وعى جديد وصياغة مواقف تعصف بالسائد والمألوف والمهيمن.
ومعنى هذا إنّنا لن ندخل مرحلة الإصلاحات الجوهريّة بقدر ما سنتأهب لمرحلة هى بين الثورة والإصلاح، وهى مرحلة تتعمّد إرساء علاقات جديدة، وإرباك المنظومة التقليدية بطريقة راديكالية وخلخلة أشكال التسيير المألوفة والتى تكيّف معها أغلب التونسيين. فهل سيكون بإمكان التونسيين تقبّل هذا التوجّه والتفاعل مع تبعاته سياسيا واجتماعيا ونفسيّا؟

الشروق- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate