اصلاح ديني

مفاتيح للإصلاح الديني.

المقدمة

سواء بالمصادفة أم بالقَدر لربّما إسطنبول هي المكان الأنسب لعقد ندوة بمثل هذا العنوان: الإسلام والليبرالية. في نصوص أشهر الكتّاب الأتراك غالبًا ما تحضر إسطنبول مدينة مبتلاة بجمال الملامح وحزن الرّوح. هكذا هي أيضًا في إحدى روايات أورخان باموق، والتي استعار عنوانها من اسم المدينة نفسها؛ إسطنبول. ليس يخفى أن شعرية العوالم تُدرك بالأحاسيس أكثر ما تُدرك بالحواس. لذلك، كنتُ وما أزال أظن بأننا لا نستطيع طرح الأسئلة الحقيقية إلا بعد الإصغاء إلى الشعراء ما دام من طبيعة الحدس الشعري أن يكون استشرافيًّا. إننا هنا الآن، في نقطة التقاطع الأشدّ خطرًا ضمن أسئلة علاقة الشرق بالغرب، علاقة التراث بالحداثة، علاقة الإسلام بالعالم المعاصر. هنا الآن، حيث لا ينفكّ الماضي يمضي من دون أن يمضي بالفعل، وحيث لا ينفك الآتي يأتي من دون أن يأتي بالفعل. أو بلغة النحو الفرنسي، هنا الماضي غير المكتمل مثل أضغاث الأحلام، وهنا المستقبل المعلق بشروط بعيدة المنال. هذا التمزّق في الأبعاد بين ما “لم يعد” وما “ليس بعد”، هذا الانحناء الحاد في منحى الزّمان، هذا الارتخاء الخطر في قدرة الوعي على الإمساك باللحظة لدرجة فقد الوعي أحيانًا، هذا اللاتموقع هو -على وجه التحديد- الموقع الأنسب لمعاودة طرح سؤال الوعي. أليس الوعي تحديدًا هو القدرة على التموقع في الزمان والمكان؟ ها قد بلغنا الآن عتبة السؤال: من نحن وماذا نريد؟

في أوّل زيارة لي إلى إندونيسيا قبل سنوات مضت (وإندونيسيا كما تعلمون هي أكبر بلد ذي غالبية مسلمة) التقيت بشاعر عراقي عاش هناك لمدّة عشر سنوات ونيف. وكانت المصادفة سعيدة ما دمنا نصغي إلى الشعراء أوّلًا. قال لي بالحرف: ستسمع كثيرًا جملة “أنا مسلم”، لا تَرْتَب، إنها لا تعني أيّ شيء. خلاصةٌ أدركها شاعرٌ، ثم جعلتها منطلقًا للتفكير ومعاودة التفكير، ثم سرعان ما أدركتُ أن السؤال لا يشمل إندونيسيا وحسب، إنما هو سؤال الإسلام اليوم في كل مكان. ما معنى جملة “أنا مسلم”؟ ما معناها حين تقال مرّات تلو المرّات، بسبب أو من دون سبب؟ هل الإكثار من ترديد الكلمات هو الذي يفرغها من المعنى جراء كثرة الاستعمال؟ أم إن فراغ المعنى هو الذي يجعلنا نكثر من ترديد الكلمات كنوع من التعويض؟ لن أجازف بالإجابة، وعلى الأرجح لا أملك اليقين، لكني سأجازف بتقديم ملاحظات تكميلية. إليكم إحداها. صديقة فرنسية تعمل في عمادة باريس اشتكت لي ذات مرّة بالقول: أعمل في مصلحة إدارية تجعلني أطرح على الأشخاص أسئلة حول الأصل والمنشأ والولادة ولغة الأم وغير ذلك، لكن، حين يهم الأمر أحد المسلمين، فقد ينبري من تلقاء نفسه ليجيبني عن سؤال لم أطرحه ولا يحقّ لي طرحه، فيقول: “أنا مسلم”. كما لو أنه يريد أن يقول لي: لم تسأليني السؤال الأهم، ومع ذلك ها أنا أجيبك عنك، “أنا مسلم”.

بهذا المعنى نحصل على ملاحظة بالغة الأهمية: في مستوى اللاوعي الجمعي يشعر المسلم كما لو أن هناك سؤالًا مطروحًا عليه دائمًا في الأحوال كلها: من أنت؟ بل يشعر بأن السؤال يتعلق بالهوية الدينية تحديدًا. وعلى الرغم من أن إسلامه لن يمنعه من أن يقول “أنا فرنسي” حين يكون فرنسيًّا، ولن يمنعه إسلامه من أن يقول “أنا أميركي” حين يكون أميركيًّا، ولن يمنعه إسلامه من أن يقول “أنا إندونيسي” حين يكون إندونيسيا، إلاّ انّه يُفضل غالبًا جملة “أنا مسلم”. طيب، هل فعل “يُفضل” هو الفعل المناسب أم ثمة على الأرجح دوافع تنتمي إلى اللاّوعي الجمعي؟ لا تُطرح الأسئلة المفتوحة طمعًا في أجوبة مغلقة، لكنها تُطرح لغاية التفكير. وها نحن نفعل.

نفهم معنى أن يكون المرء إندونيسيًّا أو تركيًّا أو أميركيًّا. يعني ذلك –ولكي ندفع بالأمور إلى مداها الأقصى- أن من حقه مثلًا أن يلتحق بالمؤسسة العسكرية، ويقاتل ضمن صفوف جيش البلد الذي ينتمي إليه. لكن، في هذه الحالة ماذا تعني جملة “أنا مسلم”؟ ماذا تعني الهوية الدينية حين ينضم المسلم الفرنسي إلى الجيش الفرنسي، أو حين يعمل الجندي الأردني أو اللبناني تحت إمرة ضابط مسيحي؟ ها نحن دفعنا بالوضعية إلى حدودها القصوى لكي نختبرها. هذا إجراء اختباري معقول ومحمود أيضًا. لكن بوسعنا النظر إلى سائر الوضعيات تباعًا. ما معنى جملة “أنا مسلم” عندما أكون طبيبًا عسكريًا في بلد متعدد الأعراق والديانات؟ عندما أكون قاضيًا للأسرة في بلد يتبنّى الزواج المدني؟ عندما أكون جمركيًا أو إسعافيًا أو إطفائيًّا في أي بلد كيف ما كان؟ عندما أكون متطوعًا ضمن هيئة أممية للإغاثة الإنسانية؟. ما معنى جملة “أنا مسلم” عندما أدخل إلى مخدع التصويت الانتخابي مثلًا؟ وهل تختلف جملة “أنا مسلم” عندما أمثل أقلية دينية عن الجملة نفسها عندما أمثل أكثرية دينية؟ طبعًا نعلم أن الإجابة عن السؤال ما معنى أن أكون مسلمًا؟ ليست ممتنعة طالما أني قد أملأ الفراغ بالجمل التي أحبّ، والتي قد تكون على الأرجح انطباعات طيبة وخواطر نبيلة. وفي الأحوال كلها لنا، الحق كل الحق، أن نتخيل ما نشاء من أجوبة. مثلًا، سمعتُ أحدهم يقول قولًا جميلًا جدًّا: المسلم صفة يتصف بها أتباع الديانات التوحيدية الإبراهيمية كافة وفق الدلالة القرآنية. ثم سمعتُ آخر يقول قولًا خطرًا جدًا: المسلم من بايع الخليفة الفلاني على السمع والطاعة في المنشط والمكره إلى آخر الحديث. وقد سمعت أيضًا مثقفًا يقول قولًا غريبا جدا، يتحدّث فيه عن مفهومات السبحانية والرحمانية (ولستُ أدري!) كصفات مميزة للإنسان المسلم.

في الأحوال كلها، وبمعزل عن السجال يمكننا القول، حين يكون المسلم جيدًا فلا وجود لأي فضيلة يمكنها أن تميزه من سائر الخلق، وحين يكون المسلم سيئًا فلا وجود لأي رذيلة يمكنها أن تميزه من سائر البشر. هذا هو المؤكد بالحس السليم والخبرة الإنسانية. وإلا فأيّ الرذائل تخصّ من يقول “أنا مسلم” حين يكون تاجر سلاح مثلًا؟ وأي الفضائل تخصّ من يقول “أنا مسلم” حين يكون داعية للسلام على سبيل المثال؟

ثمة قاعدة ندركها بالخبرة: لا نكثر الكلام إلاّ حين لا نعرف عم نتحدّث؟ أفلا يكون جوهر المشكل هنا أننا لا نعرف عمّ نتحدّث!؟ على سبيل المثال، في الخطاب الغربي لا نسمع كلمة الديمقراطية إلاّ ناذرًا، لكن يتعلق الأمر في المقابل بممارسة يومية راسخة في المؤسسات والسلوكيات. أما في مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط التي هي مجتمعاتنا بالذات، فلا يُعد سياسيًّا من لا يردد كلمة الديمقراطية في اليوم الواحد عشرات المرّات، غير أن الأمر يتعلق بكلمة هي الأخرى لم تعد تعني عندنا أيّ شيء.

ليس الإسلام ديانة أيقونات، هذا معلوم بالضرورة، لكن هناك من لا يكتفي بالقول “أنا مسلم” بواسطة الكلمات بل يستعين بالرموز والأيقونات: السبحة (وهي أصلًا لم يستعملها الرسول)، الحجاب (والمصطلح أصلا ليس مذكورًا في القرآن ولا في الحديث)، زبيبة الصلاة (وهي أصلا لا يحفل بها تراثنا الديني وبالصدفة لا نراها على جباه شيوخ الأزهر مثلًا)، ثم وصولًا إلى أدعيّة رنين الهاتف التي قد تبلغ حدّ الهوس في بعض الأحيان. لقد سُئل أحد المتصوفة ذات مرّة ما لنا لا نسمعك تذكر الله؟ فأجاب: كيف أذكره إذا كنت لا أنساه. الذكر والنسيان سيان. بل الذكر المتكرر تعويض عن النسيان المتجذر. هذا الأمر ندركه بالحس اليومي البسيط. لكن ثمة نظرية متكاملة لدى هيغل تحت مسمى مكر التاريخ. بحيث يتحقق الهدف التاريخي أحيانًا بأقنعة مضادة. ثمة نظرية أخرى لدى فرويد تجعل الحلم بدوره قد يحقق رغباته بأقنعة مضادة. وبالعودة إلى الحس اليومي البسيط نلاحظ ما يلي، إن الرغبات الجنسية الأشدّ “خطرًا” تعرف كيف تتسلل إلى النفس عبر الأقنعة الأكثر زهدًا وورعًا. ألا تحيل فتنة الدجال في المتخيل الديني إلى رمزية قناع الورع حين يخفي الدوافع الأشدّ خطرًا؟ إنها لعبة الأقنعة في آخر المطاف، بحيث قد يكون الإفراط في الشكل محض غطاء للتفريط في المضمون.

في الأحوال كلها، أمامنا ملاحظة يتفق حولها الجميع: يعود الدين في مستوى السطح ويتراجع في مستوى العمق، أي أن الدين يعود في المظهر وينسحب في الجوهر. هذه الملاحظة لا تثير أي خلاف سوى في أساليب التعبير عنها، وفي سُبُل التفسير أو التبرير. إذ يراها بعضهم ضعفًا في الوازع الديني، ويعدها بعضهم نفاقًا دينيًّا، ويظنها آخرون مؤامرة على الإسلام، وهي سواء أثارت الاستغراب أم الاستنكار أو السخرية فلا أحد ينكرها في الأخير. لكن للتأكيد، ليس ثمة من تناقض بين غلوّ الظاهر وفراغ الجوهر، بل ثمة تكامل. الغلو في السطح محض تعويض عن خسارة في العمق. بلا شك ثمة خسارة في العمق. ثمة خسارة لا يكفي أن نحجبها أو نكتمها حتى نخفف من وطأتها. فإن الداء فينا، والإنكار داء آخر. تكمن بؤرة الأزمة في أن الإسلام كما ورثناه، لم يعد قادرًا على الإجابة عن تطلعات الأجيال الجديدة. النتيجة النظرية هي غربة الإسلام عن العالم. والنتيجة العملية موجتان دراماتيكيتان: موجة غلو في الدين ترفض هذا العالم الذي لا يلائم الإسلام، تقابلها موجة خروج عن الدين ترفض الإسلام الذي لا يلائم هذا العالم. ومجمل القول، ثمة شرخ ثقافي بين الإسلام كما ورثناه ومتطلبات العالم المعاصر الذي نعيش فيه اليوم. بين تينك الموجتين ليس المطلوب هو الوسطية والاعتدال، بل المطلوب بلغة صريحة هو العلاج؛ لأن الأمر متعلق بحالة مرضية بكل المقاييس. إذ نعاني فصامًا جماعيًّا بين ما نريده في مستوى الوعي (العالم كما نراه)، وما نريده في مستوى الدوافع اللاواعية (الدين كما ورثناه). شاهدتُ شبابًا مؤدلجًا يخلط بين التحرش والسبي. التقيتُ بأشخاص يخلطون بين البغاء وما ملكت أيمانكم. علمتُ أن أحدهم يطلب المساعدات من الكنيسة ويسميها جزية لإراحة ضميره. سمعتُ شابًا سعودياًّ يسأل شيخه هل يجوز الغش في امتحانات أرض الكفار؟ صديق مغربي يقيم في الولايات المتحدة الأميركية يستفتي إمام المسجد عن علاقته الجنسية مع فتاة أميركية غير مسلمة، فيفتي له أن لا جناح عليه ما دامت الفتاة ليست مسلمة.

إننا لا ننتمي إلى حضارة مهزومة وحسب، بل ننتمي إلى حضارة مريضة. المرض عضال، ويحتاج إلى علاج طويل الأمد. هذا العلاج يحمل اسمًا صريحًا: الإصلاح الديني.

إذا كنتَ تبتغي عون الطبيب فلا بدّ أن تكشف عن جرحك. هكذا تكلم بوثيوس قديمًا في كتاب أَعده أحد أهم كتب الحضارة الرّومانية، “عزاء الفلسفة”. هذا الكتاب الذي يُعلم الناس كيف يواجهون مصائب الدهر بالتعويل على الفلسفة، يُعدّ ثاني أشهر كتاب بعد الكتاب المقدس في العصر الوسيط. وهذا يعني ما يعنيه. عمومًا هو أفضل كتاب يمكنه أن يمنحنا القدرة على التحمل العقلاني لأسوأ الأحوال بدلًا من الوقوع في أسر أسوأ الانفعالات. إنه الدرس الذي يهمنا نحن المحتم علينا أن نخوض معركة التنوير في أوضاع عصيبة. الانفعالات كما يشدد أب الفلسفة السياسية، أفلاطون، هي العدوّ الأول للسياسة. من هنا يجب أن ننطلق مُجدّدًا.

قلت، ما العمل؟

ثمّة ثلاثة مفاتيح للإصلاح الديني في الإسلام اليوم، سأحاول أن أبسُطها أمام أنظاركم من خلال ثلاثة أسئلة أعالجها باقتضاب، وأترك الاستفاضة للمناقشة، وتبعًا للحاجة والاقتضاء: أولًا، ما النص الديني وما وظيفته؟ ثانيًا، ما الشريعة؟ ثالثًا، إلى أي منظومة قيم نحتاج؟

أولًا، ما النص الديني وما وظيفته؟

لا يبدو أن الإجابة عن السؤال ما النص الديني بدهية في تاريخ الإسلام. لربما المكسب الوحيد هو التوافق على النص القرآني (المصحف). لكن حتى في هذه الحدود ثمة رؤية تذهب إلى وجود آيات غير مذكورة في النص القرآني (المصحف) غير أن أحكامها سارية المفعول، ويجب العمل بها، من قبيل آية الرجم على سبيل المثال. وهي بهذا المعنى آيات تندرج ضمن ما نُسخ لفظه وبقي حُكمه، لكن حجم الالتباس يزداد حين ننتقل إلى السؤال الموالي، ماذا يضاف إلى النص القرآني؟ صحيحان؟ أربعة؟ أو ستة؟ بل قد تشمل دائرة النص الديني المتن الصحابي والتابعي لدى السنة، والمتن الإمامي لدى الشيعة؟ بل قد تشمل دائرة النص حتى حكايات وقصص تُروى عن الصحابة أحيانًا. إذًا معنى النص الديني يحتاج إلى ضبط وإحكام. لكي لا أطيل، أرى أن هناك نقطة إسناد مهمة في التاريخ. ما هي؟ لقد كان عمر بن الخطاب يردد: “حسبنا كتاب الله”. ويبقى السؤال ما هي وظيفة “كتاب الله” اليوم؟

تكمن الخطيئة الأصلية للعقل الفقهي في محاولة استنباط الأحكام من النص القرآني بدلًا من استلهام القيم الوجدانية. وهي خطيئة نابعة من الاعتقاد بأن أفعال الأمر الواردة في النص القرآني (قاتلوا، اقتلوا، هاجروا، اضربوهن، إلخ) لا تخص مأمورين محددين في أوضاع التنزيل وشروط السؤال، وإنما هي أحكام مطلقة في الزمان والمكان، بمعنى أنها فرائض مثل الصلاة والصيام. لذلك أرى أن دور الخطاب القرآني محدد في وظيفتين اثنتين هما:

أولًا، النص القرآني خطاب نستلهم منه القيم الوجدانية (الرحمة، العفو، المغفرة، الغفران، كظم الغيظ، إلخ). وتلك هي المهمة التي أقصاها العقل الفقهي محاولًا استنباط الأحكام.

ثانيًا، النص القرآني خطاب يحمل وظيفة تعبدية. بمعنى أن القرآن الكريم نصلي به، ونتعبد به تمامًا كما يفعل أي مسلم غير ناطق باللغة العربية من دون أن يمثل ذلك أي إفقار لوظيفة الخطاب القرآني.

ثانيًا، ما الشريعة؟

الشريعة لا توجد في المصحف. الشريعة لا توجد في الصحاح. الشريعة توجد حصرًا في كتب الفقهاء التي تعدّ بمئات المجلدات. الشريعة هي محصلة الاجتهاد الذي مارسه الفقهاء طيلة قرون طويلة، وهم يحاولون أن يستنبطوا من “النص الأصلي” (الآيات القرآنية، المتن الحديثي، المتن الصحابي، المتن التابعي…) بعض الأحكام التي تحاول الإجابة عن نوازل لم يجب عنها “النص الأصلي”، وهم يستعملون لأجل ذلك آليات القياس. والقياس معناه أن نفرض على النص الإجابة عن أسئلة لم تُطرح عليه في الأصل.

وقد جاءت الشريعة في مستوى الجهاز المفاهيمي والنسق القيمي تعبيرًا عن عصر التوسعات الإمبراطورية (الجماعة، الطاعة، البيعة، الجزية، الغنيمة، السبي، دار الحرب ودار الإسلام، الفرقة الناجية، إلخ). وهي مفهومات وقيم ما عادت تناسب عصر الدولة الوطنية. هذا ما يفسر حالة الفصام الجماعي.

ثالثًا، إلى أي منظومة قيم نحتاج؟

في الوقت الذي يزعم فيه الخطاب الديني السائد والرائج بأنه حارس القيم والأخلاق، نجده في واقع الحال يكرس أزمة القيم. وهي أزمة تتمثل في أربعة مستويات: خلط القيم بالانفعالات، القلب الإيديولوجي لنظام القيم، بتر القيم، وتكريس ثقافة الريع.

1-خلط القيم بالانفعالات

ثمة خلط بين القيم والانفعالات. لذلك، ليس مستغربًا أن نسمع الخطاب الديني يردد دائمًا بأن من أخلاق المسلم الغيرة والغضب والثأر والانتقام والحمية إلخ. في حين إن الحس السليم يدرك بأن هذه ليست قيمًا أخلاقية بل محض انفعالات سلبية، وأحيانًا هي محض غرائز بدائية.

2-القلب الإيديولوجي لنظام القيم

(الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، هكذا تقول إحدى الشعارات الرائجة. ما يعني أن القتال ليس محض وسيلة، وإنما غاية الغايات، وهو ما يجعل حالة الاستنفار والجاهزية للقتال هي الحالة الطبيعة للإنسان المسلم. لذلك لا غرابة أن تكون المفهومات السياسية للإسلام الإيديولوجي ذات طبيعة عسكرية: اللواء، الجماعة، البيعة، الاحتراب، التدافع، الغزو، الولاء، الشهادة، الجهاد، الغلبة، التمكين، إلخ. وكما كان يقول عبد السلام فرج فإن “كتب عليكم القتال” تُفهم قياسًا على “كتب عليكم الصيام”، كلاهما فرض عين على المسلم. بمعنى أن القتال لا يحتاج إلى مبرر ما دام أنه يُطلب لذاته. إنه قلب أيديولوجي لنظام القيم. وهو القلب نفسه الذي يجعل الشاب المسلم قد يرى في هولاندا اليوم دار حرب، ويرى في ليبيا دار سلام. إنه القلب الأيديولوجي نفسه الذي يجعل بعضهم لا يرى في انحدارنا الحضاري اليوم أكثر من “صحوة مباركة”!

3-بتر القيم

في داخل منظومة القيم الموروثة عن موروثنا الديني تم إلغاء ثلاثة قيم أساسية: الحرية، السعادة، والجمال. بحيث عُدت هذه القيم الثلاث بمنزلة قيم عاقة عاصية متمردة، ولا تستحق على الأرجح سوى النبذ والإقصاء. هنا بالذات يكمن سوء التفاهم الكبير بين قيم الحداثة التي تعد كل إنسان هو غاية في ذاته، وليس وسيلة لأي غاية أخرى، وبين قيم القدامة حيث خُلق الجمهور لجر عربة الإمبراطور، وخُلقت الزوجة لإعداد الفطور، وخُلق سائر الناس لطاعة أولياء الأمور.

تكريس ثقافة الريع

يقوم منطق التنمية على قاعدة ارتباط النتائج بمقدار الجهد المبذول. لكن حين تصبح الأرزاق معلقة بالمشيئة الإلهية، حين تصبح الأرزاق مرهونة برضى الله أو سخطه كما يروج الخطاب الديني السائد والرائج، فإن العمل يصبح قيمة ثانوية. المعضلة الكبرى هي حين يتواطأ الريع اللاهوتي مع الريع السياسي على طريقة التقاليد السلطانية، والكلام هنا يطول.

قبل أن آتي إلى تركيا بنحو أسبوع تقريبًا، كنتُ ما أزال في المغرب حين اتصل بي والدي ذاهلًا مصعوقًا قائلًا لي: دعني أُسمعك نصًا من نصوص المقرر الجديد للتربية الإسلامية للمستوى الثاني ابتدائي، كان النص حوارًا بين الطفل سعيد ووالده في أثناء مشاهدة سرب من النمل يتحرك بجد ومثابرة واجتهاد. المعضلة أن النص الذي أشرفت على وضعه لجنة تتألف من مفتشين ودكاترة سيغض البصر عن قيم الجد والمثابرة والاجتهاد التي هي أكثر ما تحتاج إليه مجتمعاتنا بقصد النهوض، لكي يفتش عن قيم الريع والإكراميات والتواكل والاتكال. بمعنى أنه سيُقوِل الصورة ما لا تقول. فقد سأل سعيد والده كيف يحصل النمل على طعامه؟ فأجابه الوالد: الله وحده من يرزقه (علمًا بأن وضع النمل لا يدل على أنه ينتظر الله). ثم سأله كيف يحصل الإنسان على رزقه؟ فأجابه وحده الله من يرزقه، ما يعني أن النتائج لا ترتبط بمقدار الجد والمثابرة والاجتهاد، لكنها أرزاق إلهية، وصدقات إحسانية، وهِبات ريعية، ومساعدات خيرية، وغنائم دعوية، وهلمّ ريعًا… ما أغضب والدي أن الطفل يحمل بالمصادفة اسمي نفسه، سعيد، ويُذكره أيضًا ببعض أسئلتي في الطفولة، غير أن والد سعيد في النص لم يكن في مستوى والد سعيد الذي هو والدي، فقط أحبّ تذكيركم بأنّ والدي عمل أستاذًا لعلوم التربية لمدّة قاربت أربعين عامًا، وكان ألمه من ثم مبررًا مهنيًا. أخشى ما أخشاه أن يزداد ألمه خلال أيامه الباقية.

لسعيد ناشد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate