اصلاح ديني

عودة الدين ظاهرة عالميّة

“سيكون القرن الحادي والعشرون روحانيًا أو لن يكون”. يبدو أنّ العبارة الشهيرة المنسوبة خطأً إلى أندريه مالرو (André Malraux) بصدد التحقّق: فالأديان حاليًّا أبعد ما تكون عن الدفن والنسيان في عالم يهيمن عليه التقدّم، فهي بصدد التكيّف، بل التكاثر. ولكن لماذا لم يكتف الله برفض موته، بل نجده في أفضل حال؟

مات الله (التوقيع: نيتشه)“. وقد راق لأحد الماكرين أن يُضيف إلى هذه العبارة الشهيرة للفيلسوف الألماني، وقد تكرّرت عدّة مرّات طوال قرن من الزمان، هذا التصحيح: “لكن نيتشه مات (التوقيع: الله)“.

وعليه، فإنّ إعلان موت الله كان سابقًا لأوانه إلى حدّ كبير. وقد كان يُعتقد منذ قرن أنّ التاريخ قد حكم على الدين بالإعدام، واتّفق علماء الاجتماع والمؤرخّون والفلاسفة، من ماكس فيبر (Max Weber) إلى مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet )، على صحّة مقولة “فكّ السحر عن العالم“، واندثار الحضور الإلهي في العالم المعاصر بشكل لا رجعة فيه.

منذ القرن التاسع عشر، كان يُعتقد أنّ العلم سيحلّ محلّ الخرافات بشكل نهائي، وأن تُزيح التكنولوجيا السحر، وأن يُطيح الطبّ بالصلوات، وأن تكون للسياسة الأسبقيّة على المسيحانيّة، الخ. لقد بدا أنّ كل شيء يلعب ضدّ الدين، وهو ما كانت الوقائع تُؤيّده: ففي معظم البلدان الغربيّة، كنّا نشهد باستمرار انخفاض المشاركة الدينيّة وتفاقم علمنة الدول. وباختصار، فإنّ الدين لم يستطع مقاومة الحداثة، حتّى أنّ معظم المختصّين تبنّوا نظريّة “الدَّنْيَوَة“، وهو أمر نادر الحدوث في العلوم الإنسانيّة.

ومع ذلك، ومنذ ثلاثين عامًا على الأقلّ، كان على علماء الاجتماع مواجهة الحقائق والاعتراف بأنّهم كانوا مخطئين. ويتّضح هذا الخطأ من خلال الانبعاث العالمي لجميع أشكال التديّن: صحوة الإسلام وازدهار الحركة الإنجيليّة البروتستانتيّة في جميع أنحاء العالم، وتجدّد المسيحيّة وانتشار أنماط تديّن جديدة في أوروبّا الشرقيّة، وعودة ظهور الأديان في الصين، وتكاثر الكنائس في أفريقيا، وظهور الشامانيّة الجديدة بين الهنود الحمر… وفي كلّ مكان، من آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينيّة أو الشماليّة وصولاً إلى أوروبّا، تكاثرت النِّحَل والحركات الدينيّة الجديدة. وفي حين كانت الكنيسة الكاثوليكيّة تجهد في البحث عمّن يتولّى المناصب الكهنوتيّة، على الأقلّ في أوروبّا العجوز، ظهر في كلّ مكان معلّمون روحيّون ومبشّرون وقساوسة… وبدأ مقاولو الخلاص الديني يجنون الثروات في جميع بقاع الأرض.

لماذا عاد الله؟

يعترف بيتر لودفيغ بيرغر (Peter Ludwig Berger) بصراحة: “فكرة أنّنا نعيش في عالم معلمن خاطئة. عالم اليوم متديّن بشدّة كما كان دائمًا“. ووفق هذه الشخصيّة الكبيرة في علم اجتماع الأديان، فإنّ نظريّة العلمنة – التي ساهم فيها بشكل كبير من خلال أبحاثه السابقة – هي “خاطئة في الأساس“.

ولذلك، لا يظلّ أمامنا سوى إعادة النظر في المسألة بصفة جذريّة بعد أن أضحت صحوة الدين تُمثّل تحدّيًا للفكر بشكل عام ولعلم الاجتماع بشكل خاصّ. وفي هذا الإطار، قام بيتر لودفيغ بيرغر في كتاب “إعادة السحر إلى العالم”  بجمع ثلّة من المتخصّصين لدراسة التجدّد الديني، من التأثير السياسي للحركة الإنجيليّة البروتستانتيّة وصولاً إلى ديناميّات الإسلام، ومن الأهميّة المتزايدة للدبلوماسيّة البابويّة منذ يوحنّا بولس الثاني (المنتخب في عام 1978) إلى انتشار الأديان في الصين، وذلك على خلفية هذا السؤال: لماذا عاد الله؟

ولم يكن هذا العمل الجماعي سوى أحد الأعمال التي تراكمت خلال السنوات القليلة الماضية حول مكانة الدين في الولايات المتّحدة، وانتشار الإسلام الراديكالي، وتفاقم عدد النِّحَل في جميع أنحاء العالم. وقد اقترحت كلّ هذه الأدبيّات، من خلال سياقاتها، بعض الإجابات المحتملة على مسألة “عودة الله“. فإذا كانت الأديان تنبعث وتتجدّد باستمرار، وإذا بدت وكأنّها تمتزج باقتدار مع الحداثة، فإنّ ذلك يعود بلا شكّ إلى أنها تستجيب لتطلّعات فرديّة واحتياجات جماعيّة لم يتمكّن إلى اليوم أيّ مجتمع من تجاوزها.

وتختلف هذه التطلّعات في تنوّعها، فقد تكون إيديولوجيّة سياسيّة، أخلاقيّة، اجتماعيّة، هوويّة، مجتمعيّة، وجوديّة، مادّية، وحتى علاجيّة. وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أن هذه التوقعات غالبًا ما تكون متشابكة مثل قطع الأحجية المصوّرة (puzzle)، ممّا يجعل كلّ محاولة لتصنيفها ضربًا من المغامرة.

إعادة القداسة إلى العالم

كان كتاب جيل كيبيل (Gilles Kepel) الذي نُشر في يناير 1991 تحت عنوان “ثأر الله” ، من أوائل الكتب التي طرحت السؤال حول أسباب عودة الديني. وقد ركّز هذا الكتاب على عودة ظهور ثلاثة أنواع من الأصوليّة: الإسلامويّة الراديكاليّة التي انتشرت في البلدان الإسلاميّة؛ النضاليّة البروتستانتيّة العائدة بقوّة، ولاسيّما مع الحركة الإنجيليّة الأمريكيّة المحافظة؛ وحركة تشوفاه (العودة إلى اليهوديّة والالتزام الكامل بالشريعة التوراتيّة) التي ظهرت في المجتمعات اليهوديّة حول العالم.

وقد جاء تجدّد الإسلام بعد الفشل الواضح للبدائل الماركسيّة والقوميّة، وكان من أبرز مكوّناته الأصوليّة الإسلاميّة التي قدّمت نفسها دينًا سياسيًّا، لتحلّ محلّ الأيديولوجيّات القوميّة العربيّة أو الماركسيّة كشكل من أشكال التعبئة السياسيّة. وكان لها أنبياؤها، وعقائدها، ووعدها المهدوي بقرب تأسيس المجتمع المؤمن الذي يتجاوز الحدود التي فرضتها الإمبرياليّة الغربيّة “الشيطانيّة“. وفي الوقت نفسه، أعادت الإنجيلية الأمريكية إحياء “الدين المدني” – وهو مفهوم يجعل الأمّة الأمريكيّة الوعاء الجامع، والتجسيد التوافقي للأديان الكبرى التي تمارس في الولايات المتّحدة – في شكل “علاج” اجتماعي يهدف إلى مداواة المجتمع والأفراد من اضطرابات الحداثة: الشذوذ والفردانيّة والمادّية…

وبالتوازي، أظهرت دراسات أخرى أنّ ازدهار ظاهرة النبوءة سواء في أفريقيا أو في آسيا يتعلّق هو أيضًا بظهور “سياسة أرواح” جديدة. ففي أفريقيا، بدأ منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، الأنبياء الملقّبون بـ”المُسَحَاء السُّود” حركات تعبئة ضدّ الاستعمار والمبشّرين الكاثوليك.

وقد عبّرت معظم هذه الحركات، إلى جانب رفض الإمبرياليّة السياسيّة والثقافيّة، عن تطلّعات أعمق، حيث عابت على المجتمع تفتّته وغياب مشروع شامل يلتزم به، وعبّرت بذلك عن شكل من الثورة الأخلاقيّة ضدّ الفردانيّة والمادّية، وعن الحاجة إلى شكل آخر من أشكال الحياة تلعب فيها التضامنات المجتمعيّة دورها كاملاً.

ولا ريب أنّنا هنا إزاء مسألة حاضرة عند جميع الأديان والطوباويّات الناشئة، من المسيحيّة المبكّرة وصولاً إلى اشتراكية القرن التاسع عشر، بما في ذلك الإصلاح البروتستانتي. ذلك أنّه كلّما واجه الناس عالمًا لا يمكنهم العيش فيه، إلاّ وحلّ زمن الأنبياء والمُسَحَاء الذين يعلنون ميلاد عالم جديد. وهذا المسعى هو ما نجده في كلّ من النبوءة الأفريقيّة والتبشير الإنجيلي في أمريكا الشماليّة. فمن خلال خطبهم، يقوم الدعاة بهداية النّاس المهمّشين إلى طريق الخلاص، الشخصي أو الجماعي، الدنيوي أو الآخروي. وبما أنّهم شخصيّات كاريزميّة، فهم يتمكنّون في البداية من استهواء بعض الأقارب، وعدد قليل من الأتباع المقهورين. ثمّ يقومون، اعتمادًا على السخط الاجتماعي السائد، باستقطاب حشود من المسحوقين ممّن يشعرون بالرفض والإهانة.

ترسّخت الحركة الإنجيليّة الأمريكيّة في بداياتها في حزام الكتاب المقدّس (Bible Belt ) في الولايات المتّحدة، أي في أوساط المهمّشين في الجنوب الأمريكي. وقد عبّرت عن ردّ فعل أخلاقي ضدّ النزعة الاستهلاكيّة والفساد السياسي: وكان “حافظو الوعد” (promise keepers ) في الولايات المتّحدة يعتزمون إعادة القداسة إلى العالم من خلال تجديد العهد التوراتي، وأرادوا أن يكونوا حفظة الوعد الإلهي وأداته التي ستجعل منهم شعب الله المختار. وبالمثل، تولّى الدعاة المسلمون الجدد من الحركة السياسيّة الأمريكيّة المسمّاة “أمّة الإسلام” (Nation of Islam) الدعوة إلى تجديد أخلاقي في صفوف السُّود المستبعدين من قبل المجتمع، داخل الأحياء المنعزلة وفي السجون. فالأديان تُقدّم نوعًا جديدًا من التضامن حين تُدمّر الحداثة مؤسّسات التكافل، الحقيقيّة أو المتخيّلة، في المجتمعات القديمة.

فهل الدين بديل من السياسة؟ لا ينبغي فهم هذا الزعم في معناه الضيّق. فلئن كان يُمكن تشبيه الرسالة الدينيّة عند الإسلامويّين الراديكاليّين أو اليهود الأرثوذكس أو المُسَحَاء الأفارقة الجدد، بالتأكيد وإلى حدّ بعيد، بأنّها أيديولوجيا سياسيّة، فإنّ انخراط الجموع في خطاب الخلاص لا يمكن تفسيره فحسب بوجود وعود في عالم أفضل، سواء على الأرض أو في الآخرة. فإذا كانت الأديان تتأسّس وتنتشر بمثل هذه السهولة، فذلك أيضًا لأنّها تجلب لأتباعها فوائد حقيقية، اجتماعيّة ورمزيّة ونفسيّة، وأحيانًا مادّية.

تجربة تجدّد وجوديّة

وفقًا لعالم الاجتماع دافيد مارتن (David Martin )، فإنّ إحدى دعائم الفورة الإنجيليّة (وخاصّة الكنيسة الخمسينيّة) تكمن في قدرتها على إسماع صوت “من لا يُعتدّ بهم أو لا اعتبار لهم في العالم” ليجدوا أنفسهم فجأة “من ذوي الاعتبار القادرين على اتّخاذ مبادرات ولعب دور“. وبتشكّل هذه المجموعات ضمن ثقافات فرعيّة، فهي تُوحّد عدّة مئات الملايين من المؤمنين في العالم، بقطع النظر عمّا تتّخذه من تسميات (من كوريا الجنوبيّة إلى الولايات المتّحدة، مرورًا بالبرازيل أو جنوب أفريقيا). ولعلّ أحد أسرار نجاحها يتمثّل في معارضتها ثقافة سائدة تُعطي الأولويّة في الغالب للرّجال على النساء، حيث تُعتبر النساء في هذه المجتمعات الفرعيّة المصطنعة داخل مجموعات ثقافيّة ذكوريّة نسبيًّا، متساويات مع الرجال، ولذلك نجدهنّ يلعبن دورًا محوريًّا في انتشار هذه الحركات وفي تعزيزها.

وفي كتابه “في بلاد الله“، وهو رحلة في قلب “حزام الكتاب المقدّس” في الولايات المتّحدة، يُظهر الكاتب دوغلاس كينيدي (Douglas Kennedy)  كيف تجد الحركة الإنجيليّة صدى لدى الأفراد والجماعات التي تُعاني الضياع، ومن تحفل حياتهم بالكحول وبالأزمات الأسريّة والمخدّرات والعُزلة. فبالنّسبة إلى هؤلاء، فإنّ خطاب الدعاة يجلب لهم أكثر من مجرد الراحة: فاهتداء “المولودين من جديد” (born-again ) – الذين عاشوا تجربة الولادة من جديد أخلاقيًّا واجتماعيًّا من خلال “اللقاء مع يسوع” – هو تجربة وجوديّة للتجدّد، يعترف فيها المجتمع بالفرد، كما تُقدّم له العناية الإلهيّة طريقًا لخلاصه الفردي من خلال نوع من التجدّد الأخلاقي. ومن وجهة النظر هذه، فإنّ الدين إنّما يهدف إلى تطوير الشخصيّة. ذلك أنّ الإنجيليّين “المولودين من جديد” الذين صوّرهم دوغلاس كينيدي لا يسعون إلى نيل الحياة الأبديّة، بل إلى إعطاء معنى جديد لوجودهم، ويطلبون مساعدتهم على محاربة شيطانهم الداخلي سواء تمثّل في الكحول أو الجنس خارج إطار الزواج.

ولا يصدر تشجيع المرء على تغيير وجوده والتحكّم في مسار حياته، من خلال الخطاب اللفظي فحسب، إذ تُقدّم تلك المجتمعات الدينيّة مساعدات ملموسة للأفراد من خلال مجموعات دعم صغيرة، ومن خلال “معجزات” الشفاء… كما يمكن أن يتخذ الدعم الاجتماعي أيضًا شكل مساعدة مادّية مباشرة كما تفعل مثلاً المنظّمات الإنجيليّة والإسلاميّة الخيريّة غير الحكوميّة. ومن أهمّ هذه المنظّمات، إلى جانب منظّمة “الرؤية العالميّة” البروتستانتيّة (World Vision)، نجد مؤسّسة الإغاثة الإسلاميّة العالميّة (المملكة العربيّة السعوديّة) ومؤسّسة المستضعفين (إيران). وقد وصف عبد الرحمان الغندور  هذه المنظمّات الثلاث، وهي تتمتّع بميزانيّات تقترب من المليار دولار، وتفوق نظيراتها العلمانيّة من حيث الحجم المالي.

إعادة تشكيل الأخويّات الصغيرة

على المستوى الفردي، نلاحظ كيف ينتشر الدين بواسطة الاتّصالات الشخصيّة، وذلك من خلال تكوين مجتمعات صغيرة تُوفّر للفرد فرصة الاستماع إليه ودعمه معنويًّا واجتماعيًّا. ومثل هذا التضامن الفعّال والدفء البشري ملحوظ بشكل خاصّ عند “مُروّضي الأفاعي” (Snake Handlers) – طائفة خمسينيّة تُفسّر حرفيّاً مقطعًا من إنجيل مرقس ليُلاعبوا الأفاعي السامّة بأيديهم العارية – الذين وصفهم دينيس كوفينغتون (Dennis Covington) . وتُشير جميع الأعمال التي تولّت وصف هذا النوع من الظواهر إلى نفس الموضوعات: فالتديّن الذي يتمّ عيشه عاطفيًّا، يُقدّم للمرء صورة إيجابيّة جديدة عن ذاته، ونموذجًا للسّلوك هو ما قامت دانييل هيرفيو-ليجي (Danielle Hervieu-Léger) وفرانسواز شامبيون (Françoise Champion) بصياغته نظريًّا .

ويصف عالم الاجتماع سيباستيان فتح (Sébastien Fath) عظة حضرها في مدينة أتلانتا الأمريكيّة، فيقول إنّها جرت في مخزن مهجور متداع للسقوط ومليء بالرسوم الحائطيّة يُشرف عليه رعاة من الكنيسة الإنجيليّة الخمسينيّة المعروفة باسم “الدم والنار” (Blood and Fire). وقد حضر هذه العظة البروتستانتيّة أكثر من مائتي فرد من الرعيّة من أصول عرقيّة مختلفة. كما يقول أيضًا: “كانت العظة المليئة بإشارات توراتيّة تدور حول شهادة الواعظ عن حياته. (…) فهو قادم من قاع مدينة أتلانتا، وأدمن الكحول والجنس الجامح والسرقة إلى حين حلول اللحظة التي كلّمه فيها الله. وقد بدأت رحلته الروحيّة حين سمع “بمحض الصدفة” عزف جوقة موسيقيّة في الشارع. ثمّ استدعاه المسيحيّون، وحدث التحوّل… وهنا يُعلن أنّ يسوع المسيح غيّر حياته من سفّاح في أتلانتا، إلى “مولود من جديد” لم يحد بعدها عن “صراط الربّ” .

وما من دين إلاّ ويُقدّم لأتباعه مجتمعًا جديدًا متخيّلًا، يتراوح بين الضيق والاتّساع، ففي تجمّع الإخوة والأخوات ضمن كنيسة، دعم للهويّة الجماعيّة. كما تُقدّم الاحتفالات الكبيرة، مثل الحجّ والتجمعّات الدوليّة، فرصة للمجتمعات الدينيّة لكي تشعر بأنّها حيّة.

ونحن نلحظ إعادة بناء مجتمعات دينيّة جديدة في حركة النبوّة الأفريقيّة، ومن ذلك على ما يقول أندريه ماري (André Mary) ما نجده عند قبائل الفانغ: “أنبياء قرى الفانغ أو أحياء الفانغ في ليبرفيل هم أرباب عائلات قرّروا في أحد الأيّام أن يصبحوا مقاولين في سوق خيرات الخلاص بالاعتماد أوّلاً على موارد القرابة… وتهدف هذه البنية الاجتماعيّة الرمزيّة في المقام الأوّل إلى تعزيز الانتماء العشائري عند شعب الفانغ وتشجيع العشائر، على غرار ما تفعله حركة ألار أيونغ (Alar ayong) السياسيّة، على التوحّد وإحياء تقاليد النسب وعلم الأنساب” .

وحيثما تمّ تفكيك المجتمعات القديمة، نجد هذه الحركات تُحاول إعادة تشكيل مجتمعات جديدة على أساس معتقدات جديدة ملفّقة. وقد كانت هذه حال المبشّرين الأمريكيّين بين المستوطنين الأوائل. فقد وفّروا لهم مكانًا للتواصل بين الأفراد، وحفلات قُدّاس وبعض الاحتفالات الجماعيّة الأخرى، ورسالة أمل (مقابل التزام شخصي)، وهويّة تُعلي من شأنهم، وتفسير جديد للعالم، وفي بعض الأحيان، علاجًا فعّالاً لاضطرابات الشخصيّة.

لذا، فإنّ القراءة الشاملة (والإناسيّة) للحركات الدينيّة المعاصرة تدعونا إلى إعادة النظر في التقسيمات المعتادة بين يهود ومسلمين ومسيحيّين وبوذيّين ووثنيّين، وما إلى ذلك، واعتماد تصنيف قائم على أنماط الانتماء.

وفي هذا الإطار، فإنّ الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أنّ الأديان الشعبيّة وعبادة القدّيسين والآلهة المحليّة، شديدة التشابه. فمن أضرحة الشنتو اليابان إلى معابد جزيرة بالي، ومن الكنائس المسيحيّة إلى قبور الأسلاف عند الأفارقة، تنتظم حياة المجتمعات حول الاحتفالات الجماعيّة، والتضرّع للقوى العلويّة (الأرواح، والقدّيسين، الخ) وأداء طقوس الاسترضاء، ولاسيّما طقوس الاستشفاء. ومن خلال اعتماد كونيّة هذه التوقعات، أمكن للحركة الإنجيليّة (التي يعتبرها الكثيرون “دينًا خفيفًا” (fast-religion ) مقارنة بالدّين التقليدي، ومثيل الوجبات السريعة قياسًا بفنّ الطبخ الراسخ)، أن تترسّخ بنجاح في مجتمعات متباينة مثل كوريا الجنوبيّة أو أفريقيا السوداء أو الدول الشرقيّة أو الولايات المتّحدة… ففي عالم يتّسم منذ الثمانينيّات بتفاقم اللبراليّة والانسحاب المهول لدولة الرفاه، يُوجد مليارات الأشخاص ممّن تُركوا ليواجهوا مصيرهم، وأضحوا اليوم محرومين من كلّ رعاية صحّية بعد أن كانوا سابقًا يتمتّعون بها مجانًّا (في الاتّحاد السوفييتي السابق، والصين، الخ)، وهؤلاء هم من يستمع باهتمام شديد إلى تُجّار الخلاص الذين يَعِدُونهم بالشّفاء الجسدي والروحي.

تعايش الحداثة والدين

وإذا كان للدّين مثل هذه القدرة الهائلة على البقاء والتكيّف في المجتمع الحديث، فهذا سبب كافٍ لعدم اعتباره من رواسب الماضي. كما لا يُمكن اختزاله أيضًا إلى مجرّد “حاجة للإيمان” أو استجابة وهميّة للقلق بشأن الموت كما يُؤكّد ميشيل أونفراي (Michel Onfray) في كتابه “رسالة في الإلحاد” . وتُظهر الدراسات أنّ الأديان تُعين الناس على مواجهة الحياة أكثر ممّا تُعينهم على تحمّل الموت.

وفي حين يُواصل القرويّون في جنوب الهند اللجوء إلى الشامان أو الكهنة لطلب الخصوبة أو استعادة الصحّة، يتدفّق الشباب الكاثوليكي من جميع أنحاء العالم للمشاركة في يوم الشباب العالمي لكي يشعروا بأنّهم “يعيشون سويًّا”. وفي جميع أنحاء العالم، من أصغر نطاق محلّي وصولاً إلى أكثر الأبعاد كونيّة، ما يزال الدين، تحت أشكال شديدة التنوّع، يطبع الحياة اليوميّة لغالبيّة معاصرينا.

وفي مواجهة هذا الجيشان الديني، شرع علماء اجتماع الأديان في مراجعة شبكاتهم التحليليّة، وأجمعوا على أنّ التعارض الجذري بين الحداثة والدين مجرّد خرافة، وأنّه لا ينبغي لحيويّة الأديان أن تُنسينا أنّ البشرية مقسّمة بين أقليّتين صغيرتين متعارضتين (الملحدين والممارسين العاديّين) وأنّ أغلب الناس، يُؤمنون بأحد الأديان لكن دون أن يلتزموا به بشدّة. وتتأرجح هذه الأغلبيّة بين الإيمان واللاأدريّة، وهو ما يتوافق مع ريبيّة مونتاني (Montaigne)، أي الإيمان، ولكن دون يقين. وكما يشرح فريديريك لينوار (Frédéric Lenoir)، فإنّ “الحداثة والدين في حالة تعايش حقيقي،  إذ يحتضن كلّ منهما الآخر أكثر ممّا يستبعده (…). لم يختفِ الديني أبدًا في الحداثة، (…) بل تغيّر عند اتّصاله بالحداثة، بقدر ما ساهم في صوغها” .

وقد اضطلع العديد من علماء الاجتماع، مثل فريديريك لينوار، ودانييل هيرفيو-ليجي، وإيف لامبرت (Yves Lambert)، وجان بول ويلام (Jean-Paul Willaime)، وغيرهم، بتحديد معالم الحداثة الدينيّة: فبعض المفاهيم مثل عولمة الدين (وهي نتيجة طبيعيّة للعولمة الاقتصاديّة) تُمكّن من إدراك أفضل لهذه العمليّات التي تسمح للأفراد باختيار معتقدهم بعد أن أضحت العروض الروحيّة متاحة حاليًّا على مستوى العالم. وبما أنّ الإحياء الديني يفرض معتقدات سريعة الزوال، فإنّ للخبرة الشخصيّة الأسبقيّة على كلّ انتماء قسري للكنائس الراسخة. وبما أنّ العاطفة تغلب العقل، فإنّه من المتوقّع أن يشهد القرن الحادي والعشرون، على الأرجح، تكاثرًا للمعتقدات على نطاق كوكبي. وبالنسبة لغالبيّة الناس، فإنّ الحقائق المطلقة التي تدّعيها الكنائس بصدد الامّحاء بالفعل لصالح نسبيّة الاعتقاد، إذ غدا الإنسان المعاصر صانع وجبته الإيمانيّة، فتراه يجمع بين قشرة بوذيّة، ومسحة باطنيّة، مع إشارة إلى يسوع لكي تستوي الخلطة… ويُشار إلى هذا المتديّن “الانتقائي“، بأنّه ذو نزعة “ناعمة” (soft)، وهو ما تنبّأ به بشكل خاصّ تيّار “العصر الجديد”  الذي يرى أنّ الفرد يُفعّل معتقداته من خلال الانخراط في شبكات يتقاسمها. والمؤكّد أنّه لا يمكن لمثل هذا النّسق أن يقوم إلاّ على افتراض نسبيّة المعتقدات (فجميعها متساوية، وما من سلطة مطلقة لإحداها)، وهو ما يسمح للفرد بالانتقال بينها حسب ميوله الشخصيّة.

ومقابل هذا النسق “الناعم” يبرز نسق “صُلْبٌ” (hard ). فمن ينوي تعميق سعيه نحو تحقيق السموّ، تنفتح أمامه مجتمعات أكثر تنظيماً ويُسيطر عليها قادة يستهوون الجماهير ويفرضون عليها ما أرادوا من حقائق جاهزة.

وكما يشرح هارفي كوكس (Harvey  Cox)، فإنّ المسألة تتعلّق حاليًّا بـ”وضع حدّ نهائي للجدل المملّ والعقيم حول أطروحة ما يُسمّى “العلمنة” والانتقال إلى مصطلحات أكثر فائدة لفهم الدين في العالم المعاصر. (…) ولعلّ أكثر المقولات فائدة لمثل هذا الفهم ليست “الانبعاث” ولا “إعادة القداسة”، بل “التحوّل”. فالأديان، على الأقلّ تلك التي ما تزال حيّة، هي كائنات ذات قدرة مذهلة على التكيّف تكاد تكون “داروينيّة”. ومن أجل أن تظلّ حيّة، يجب أن تُزوّد مؤمنيها بقدرات تُمكنّهم من مواجهة عالم متغيّر، لكن دون فكّهم عن العوالم الرمزيّة (…) التي تُشكّل المصادر التي يستقون منها حاجتهم من المعاني والقيم. لذا، فإنّ الأغاني الجديدة يجب أن تُنشد على أنغام الألحان القديمة” .

لجان فرانسوا دورتييه ولوران تستو – ترجمة: محمّد الحاج سالم.

معنى- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate