حداثة و ديمقراطية

التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الإقليمية والثنائية3

التدخل الدولي وإشكالية سيادة الدولة

الدولة بصفتها تنظيماً سياسياً ذا سيادة تتميز بخاصية احتكار القوة المادية وتكلف بوظيفة سياسية تهدف إلى حفظ النظام والسلام، ودعم التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك فإن هناك جانبين للسيادة، الجانب الداخلي الذي يعني امتلاك الدولة للسلطة الشرعية المطلقة على جميع الأفراد والمجموعات التي يتعين عليها إطاعة الدولة إقليمياً، أي انتهاك لهذه الأوامر يعرضهم للعقاب، أما الجانب الخارجي فيعني الاستقلال عن كل رقابة وتدخل من أية دولة أخرى أو منظمة دولية، وهنا ينشأ التميز بين دولة كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة.

وقد اتفقت الدول الأوروبية في مؤتمر وستفاليا عام 1648م على مبدأ السيادة الإقليمية من أجل تحقيق السلام الدولي، وكنتيجة ثانوية لهذا المبدأ، اعتبر الطريقة التي تعامل بها الدول الأفراد الذين يقيمون داخل أراضيها مسألة داخلية، ولم تكن حقوق الإنسان جزءاً من السياسة الدولية رغم الاستثناء منذ مؤتمر وستفاليا وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد قبلت الدول هذا المبدأ لأنها رأت فيه إفادة في تحقيق السلام والاستقرار الدوليين .

لكن نظام وستفاليا لسيادة الدولة، أصبح ضعيفاً في نهاية القرن العشرين، حيث لاحظ الاقتصادي الفرنسي فرانسو بيرو، إن هناك ظواهر متعددة وبسبب طبيعتها لا تستطيع الحكومات السيطرة عليها، لأنها تنبثق في وقت واحد في أماكن عديدة وتهم العديد من الدول في نفس الوقت .

وعليه تتناقض قدرات الدول تدريجياً بدرجات متفاوتة فيما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق المعلومات والأموال والسلع والبشر عبر حدودها، لأن الثورات الهائلة في مجالات الاتصال والإعلام قد حذت من أهمية حواجز الجغرافيا والحدود، كما حد توظيف التكنولوجيا المتطورة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية من قدرة الدولة على ضبط السياسة المالية والضريبية، وقدرتها على محاربة الجرائم الاقتصادية، بل إن القوة الاقتصادية الضخمة للشركات العملاقة تسمح لها بممارسة الضغط على حكومات الدول والتأثير في قراراتها السيادية .

لقد انعكست التطورات الاجتماعية الدولية على تطور مفهوم لسيادة، فالانتقال من العزلة إلى حالة التضامن، الذي أخذ يظهر في شكل علاقات تعاون بين الدول لمواجهة الحاجات والمصالح الوطنية المتزايدة، أدى إلى قيام نظام الاعتماد المتبادل الذي أخذت فيه كل دولة على نفسها المساهمة في تحقيق مصالح المجموعة الدولية، وهو ما لا يتم إلا بالاعتراف بحد أدنى من الضوابط الضرورية لاستمرار سلامة العلاقات الدولية، وهذه المعطيات الجديدة للنظام الدولي عملت على تحجيم مفهوم السيادة الوطنية، بحيث يتم التخلي عن بعض الحقوق السيادية وفقاً لما يتطلبه الصالح العام الدولي، وهو ما يعني إفراغ السيادة من مضمونها بامتيازات السلطة المطلقة، وإعطائها مضموناً جديداً قائماً على نشاط وظيفي لصالح الهيئة الدولية، وقد كان هذا التخلي عن بعض حقوق السيادة الوطنية بحكم الضرورة وليس اختياراً بإرادة الدولة، نتيجة للتطور المستمر للجماعة الدولية.

ومع ظهور مفاهيم وعلاقات جديدة بين الدولة ومواطنيها، تعرضت الدولة لعوامل عديدة، أدت إلى فشلها في حماية سيادتها الإقليمية، ومنها التطور الكبير في العلاقات الاقتصادية الدولية وثورة الاتصالات وانتشار الأسلحة الفتاكة التي أدت إلى إحلال سياسة الأمن الجماعي محل الأمن الإقليمي، بسبب ضعف القدرات الدفاعية للطبيعة الإقليمية الدولية، والثورة العلمية الهائلة والمتسارعة التي جعلت من العسير التخطيط لمواجهة حقائق المستقبل نظراً لعدم ثبات الجديد، وقد أضعفت هذه التطورات الحديثة نظام الدولة الوطنية.

وهذه التطورات الدولية تمس سلطة الدولة على رعاياها، حيث تشهد هذه السلطة جانباً من الانتقاص التدريجي عند دخول الدولة علاقات متعددة مع الدول الأخرى، لأن هذه العلاقات تخضع لبعض الضوابط العامة التي تهز من سلطان الدولة القائم على منطق القوة لتخضعه لمنطق الحق والقانون، وذلك يعني أن تغيراً قد أصاب مبدأ السيادة بتحوله من مبدأ سياسي قائم على فكرة الإرادة العامة باعتبار الأمة مصدراً للسلطات يستخدم لإضفاء الشرعية على أية حركة سياسية، إلى مبدأ قانوني يتبع ظهور دولة القانون التي مردها إلى فكرتين تبناهما الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الأولى المحافظة على الحقوق الطبيعية التي لا تتقادم، والثانية أن هذه الحماية لا تتحقق إلا بالقانون.

ويتغير مضمون مبدأ السيادة تبعاً لتغير العلاقات الدولية التي تتغير وفقاً لتزايد الحاجات المشتركة وتغيرها، وهذا ما عكسه اتجاه تطور التنظيم الدولي من الفوضى إلى التقنين الدولي لمختلف المجالات، خلافاً لمفهوم السيادة الذي يتحرك في اتجاه عكسي .

والسيادة بصفتها مفهوماً قانونياً لا يمكن أن تعكس الواقع بطريقة دقيقة تماماً لأنها في أحد معانيها مطلقة في حين أن الوقائع نسبية، لذلك أدت العلاقة بين المفاهيم القانونية والعلاقات الاجتماعية المؤثرة، واستقلالها النسبى إلى انفصال المفاهيم القانونية عن الوقائع كي تصبح مستقلة عنها تماماً، ولذلك تعتبر السيادة مفهوما شكلياً صرفاً، حيث الحق في التشريع وصك النقود وتحقيق العدالة وغيرها من مضامين السيادة، وهي تاريخية مشروطة ولا يمكن أن تكون ثابتة، كما أنه يستحيل وضع قائمة بالاختصاصات التي ينبغي أن تقوم بها دولة ذات سيادة، فهذه الاختصاصات متغيرة عبر التاريخ .

وقد استخدم مبدأ السيادة كأداة لتحقيق استقرار نظام الدولة الوطنية، فبعد معاهدة وستفاليا أصبح لكل دولة الحق في التمتع بسيادتها الإقليمية وتحقيق مصالحها دون أن تدمر كل منها الأخرى أو تتعدى على النظام الدولي الذي تمركز في القارة الأوروبية، مسلماً بفكرة الدولة المستقلة ذات السيادة باعتبارها الوحدة الرئيسية في النظام، وإن الدول متساوية أمام القانون وتتولى الحفاظ على النظام المدني داخل أراضيها، وتعمل على إقامة علاقات جيدة مع الدول الأخرى.

إلا أن الممارسات الواقعية بين الدول أظهرت عدم المساواة بينها، فنشأت ثلاثة نظم ساعدت على الاستقرار في نظام لا مركزى من العلاقات الدولية وزعت فيه الموارد توزيعاً غير عادل، وهو توازن القوى لمنع ظهور دولة مسيطرة واحتوائها، ووضع المعايير لقواعد السلوك الدولي ولحل الخلافات، ثم قيام الدول العظمى بمسؤوليتها في حفظ النظام الدولي من خلال مؤسسات متفق عليها، فكان إنشاء عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة، وكان للأخيرة دور مهم في ظهور الدولة المستقلة حديثاً جراء تفكك الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، هذه الدول هي الأكثر حساسية لتدهور مفهوم السيادة، والأكثر تخوفاً من تدخل المجتمع الدولي كذريعة لبسط نفوذ الدول العظمى من جديد.

وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر الفرد كوحدة قانونية تمتع بحقوق عامة وخاصة، وهو ما شكل تحدياً لمبدأ سيادة الدولة التقليدي، فبعد أن أصبح الفرد يحظى باهتمام القانون الدولي من خلال ظهور قانون الإنسان ومبدأ المسؤولية الدولية عن الجرائم العالمية الموجهة إلى سلامة وأمن البشرية، لم يعد بوسع صانع القرار انتهاك حقوق الإنسان تحت مظلة مبدأ السيادة الوطنية، لانهيار حجته بأنه يمثل الدولة أو يطيع أوامرها العليا، حيث أصبحت حقوق الإنسان مسألة تهم الجماعة الدولية والقانون الدولي، ولم تعد تتعلق بالمجتمعات القومية وتخضع للقانون الداخلي.

وحتى الأشخاص الأجانب في دولة ما أو الذين لا ينتمون إليها يجب ألا يجردوا منها، وقد حظي مبدأ حماية حقوق الإنسان بالاعتراف كقاعدة قانونية بموجب ثلاثة مصادر في القانون الدولي، هي: الاتفاقيات الدولية، والعرف الدولي، ومبادئ العدالة .

وإذا كان مبدأ السيادة يفترض أن الروابط بين الدولة ورعاياها، لا تدخل ضمن نطاق العلاقات الدولية، فإن التسليم بوجود حقوق دولية للإنسان يعني بداهة أن مجالاً من المجالات السياسية للاختصاص المطلق للدولة أصبح محلاً لتدخل القانون الدولي، ومثل هذا الأمر لا يمكن تقبله بسهولة لأن من أساسيات القانون الدولي التسليم بسيادة الدولة، وهو ما يعني أن مبدأ السيادة مازال يعوق اضطلاع المنظمات الدولية بإعداد نظام أكثر فعالية للدفاع عن حقوق الإنسان .

وفي هذا المجال اعتبر “بطرس غالي” الأمين العام للأمم المتحدة “سابقاً” أن الانتقال من حقبة دولية إلى أخرى، إنما يتمثل في احتلال مجموعة جديدة من الدول الأعضاء مقاعدها في الجمعية العامة، ودخول هذه الدول يعيد تأكيد مفهوم الدولة باعتبارها الكيان الأساسي في العلاقات الدولية، ووسيلة الشعوب لتحقيق وحدتها وإسماع صوتها في المجتمع الدولي. وإذا كان احترام سيادة الدولة ووحدة أراضيها لا يزال محورياً، فإن هذا المبدأ السائد لم يعد قائماً، وأنه لم يكن مطلقاً بالدرجة المتصورة له.

الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير في مسألة السيادة لا من أجل إضعاف جوهرها الذي له أهمية حاسمة في الأمن والتعاون الدوليين، وإنما بقصد الإقرار أنها يمكن أن تتخذ أكثر من شكل وتؤدي أكثر من وظيفة، وهذه الرؤيا يمكن أن تساعد علي حل المشاكل سواء داخل الدول أو فيما بينها، وحقوق الفرد وحقوق الشعوب تستند إلى أبعد من السيادة العالمية التي تملكها البشرية قاطبة، والتي تعطى جميع الشعوب حقاً مشروعاً لشغل نفسها بالقضايا التي تمس العالم في مجموعه، وهذا المعنى يجد انعكاساً متزايداً له في التوسع التدريجي للقانون الدولي، وخاصة مع الاعتراف بأن الدول وحكوماتها لا تستطيع بمفردها مواجهة أو حل المشاكل القائمة اليوم.

ورغم أن مبدأ السيادة من المبادئ الأساسية في تكوين الدول، ومازال يشكل حجر الزاوية في بنية القانون الدولي، فإن التغيرات والتحولات الدولية أدت إلى تغير مفهومه التقليدي، وأبرزت التفرقة بين المفهوم القانوني للسيادة، الذي يقوم على المساواة القانونية بين الدول وحقها في الاستقلال وإدارة شؤونها بحرية في المجالين الداخلي والدولي، والمفهوم السياسي، الذي يقوم على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة بناءً على ما تحوز عليه الدولة من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي والتكنولوجي، مما يعني أن هناك دولاً كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة.

ومن هنا تراجع مفهوم السيادة من صيغته المطلقة إلى صيغ نسبية، بحيث يصبح وسيلة وليس غاية، ويعمل على تحقيق الخير العام الداخلي والدولي، ولم تعد السيادة مبرراً لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، لاسيما أن الدولة ملتزمة في ممارستها لمظاهر سيادتها بالقانون الدولي وما يتضمنه من التزامات تفرض عليها احترام حقوق الإنسان.

مشروعية التدخل بدعوى صالح الإنسانية

تعد نظرية التدخل لصالح الإنسانية، من السمات البارزة في العلاقات غير المتكافئة، التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الدول الأوروبية من جهة، وبين الشعوب الأخرى لدول العالم من جهة أخرى، وكانت الدول الغربية تتذرع بهذه النظرية للانحياز في حقيقة الأمر إلى أحد أطراف النزاع الداخلي.

فقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية نظرية التدخل لصالح الإنسانية أكثر من ستين مرة، وذلك بين عام 1812 وعام 1932، من أجل حماية حياة وممتلكات مواطنين أمريكيين في الصين وأمريكا اللاتينية، وفي بعض الاستخدامات الأمريكية لنظرية التدخل لصالح الإنسانية، كانت الولايات المتحدة تهدف إلى حماية التجارة الأمريكية ، كما أدت الاستخدامات الأمريكية لنظرية التدخل لصالح الإنسانية إلى احتلال مطول. كما أدي في بعض الحالات إلى بسط الحماية على الدول الضعيفة .

وبعد الحرب العالمية الثانية تلاشت هذه الصورة في إطار العلاقات بين الدول الغربية ودول العالم الأخرى، فمثلاً لم يؤدِ تذرع الولايات المتحدة بهذه النظرية في عام 1948، لإجلاء الرعايا الأمريكيين في قبرص إلى احتلال الصين وقبرص، إلا أن هذه الصورة تركت بصماتها على عدد من الاستخدامات الحديثة لنظرية التدخل لصالح الإنسانية .

وقد وضع الفقه الغربي ثلاثة شروط لصحة التدخل لصالح الإنسانية، هي: أن تحصل الدولة التي تتذرع بهذه النظرية على موافقة الدولة التي تتم فيها العمليات العسكرية، وألا تتجاوز العمليات العسكرية الهدف الإنساني، وأن يكون التدخل ضرورياً.

إلا أن الحالات التي استخدمت فيها نظرية التدخل لصالح الإنسانية لم تحترم هذه الشروط الثلاثة، فعمليات التدخل لصالح الإنسانية اعتمدت على موافقة من أجهزة مشكوك في مشروعيتها، في الدولة التي تمت فيها العمليات العسكرية، التي تندرج ضمن نظرية التدخل لصالح الإنسانية، أو بغياب كل مواقفه في الدولة التي تمت فيها هذه العمليات، كما أن شرط الضرورة الذي يتحكم في مشروعية هذه النظرية لم يتوافر إطلاقاً، كما أن الاستخدامات الحديثة لهذه النظرية، تظهر استخدامات سياسية واضحة تتجاوز معيار الأهداف الإنسانية.

فقد شهدت بعض التطبيقات العملية للتدخل لصالح الإنسانية أن موافقة سلطات الدولة التي تمت فيها عملية التدخل لصالح الإنسانية، كانت موافقة شكلية .

كما شهدت عدة استخدامات لنظرية التدخل لصالح الإنسانية غياب موافقة الدولة التي حدث فيها التدخل . كما تظهر الحالات التي استخدمت فيها الدول نظرية التدخل لصالح الإنسانية، على أن هذا المبرر لا يهدف إلى حماية رعايا الدولة المتدخلة في الخارج .

وإن كان هذا لا ينفي وجود استثناءات توافر فيه شرط الضرورة لقيام دولة ما بإجراء عسكريي لحماية رعاياها في الخارج.

ووهنا تجدر أهمية الإشارة إلى قيام عدد من الدول بالتذرع بهذه النظرية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان في الدول المجاورة، وهذه الانتهاكات لا تمس رعايا الدول التي تدخلت بأي ضرر وإنما بمواطني الدولة التي تم التدخل فيها، كما في حالة تدخل فيتنام في كمبوديا. وتدخل تنزانيا في أوغندا.

و التدخل لصالح الإنسانية يثير العديد من الإشكاليات من أهمها:

1ـ إن الدولة، حسب قواعد القانون الدولي، تملك الحق في حماية مواطنيها في الخارج ضمن إطار القاعدة الإجرائية “الحماية الدبلوماسية”، وهذا الحق يقوم على رابطة الجنسية وبدون هذه الرابطة لا يمكن لدولة أن تتدخل في دولة أخرى لحماية أشخاص لا يحملون جنسيتها.

وفي كل حالة قيام دولة بالتدخل لصالح الإنسانية، فإنها بذلك تقيم ظروف التدخل من تلقاء نفسها، وهذا يعني حتماً أن مصالحها قد أملت عليها التدخل، فمثلاً عندما تدخلت بلجيكا في الكونغو عام 1964 أوضحت عدة دول وعلى رأسها غانا والجزائر ومالي، بأن هدف بلجيكا من التدخل هو فصل إقليم كاتنجا عن الكونغوـ كينشاسا، وكذلك الحال عندما تدخلت الولايات المتحدة في جرينادا 1904، وعندما تدخلت فرنسا في زائير 1978.

وهنا يعتقد البعض أنه في حالة قيام دولة بالتذرع بنظرية التدخل لصالح الإنسانية في دولة مجاورة، وكان لهذه الدولة مطالب أو أطماع إقليمية في الدولة المجاورة، فإنه يمكن توجيه الاتهام إلى الدولة المتدخلة بأنها تسعى لتحقيق حلمها. كما في حالة التدخل التركى في قبرص، فقد اتهم مندوب قبرص في هيئة الأمم المتحدة تركيا عام 1964 بأنها تسعى إلى تقسيم قبرص، وهذا الاتهام تحقق بعد التدخل العسكرى في قبرص في يوليو 1974، وما صاحب هذا التدخل من إعلان قيام دولة قبرصية تركية فيدرالية في أبريل 1975، تحولت إلى دولة مستقلة في 15 نوفمبر 1983.

3ـ أن القانون الدولي المعاصر لا يحتوي على قواعد تؤيد اللجوء إلى القوة لحماية المواطنين في الخارج: فقد سجل القانون الدولي تطوراً نحو التحريم التدريجي لاستخدام القوة في المجتمع الدولي بدءاً باتفاقية لاهاي لعام 1970، حول تحديد استخدام القوة لاسترجاع الديون، ومروراً بمعاهدة “براين ـ كيلوج” التي وقعت في عام 1928، وانتهاءً بميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي أوضح بأنه لا يمكن اعتبار الحرب كوسيلة للسياسة الوطنية، وحرم التهديد أو اللجوء إلى استخدام القوة ضد التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي.

ومن أجل تجاوز هذا التحريم، اعتمدت الدول التي تذرعت بنظرية التدخل لصالح الإنسانية على نوعين من المبررات، فمن جهة أوضحت هذه الدول بأن التدخل لصالح الإنسانية هو جانب من جوانب الدفاع عن النفس، ومن جهة أخرى زعمت هذه الدول بأن التدخل لصالح الإنسانية يهدف إلى قواعد القانون الدولي.

4ـ أن التدخل لصالح الإنسانية هو جانب من جوانب الدفاع عن النفس: فقد اعتمدت الدول التي تذرعت بنظرية التدخل لصالح الإنسانية، على قراءة قابلة للنظر لنص المادة 51 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وهذه القراءة تتضمن حقيقة مفادها أن المادة 51 المذكورة لا تبيح فقط اللجوء إلى القوة في حالة عدوان مسلح، وإنما حافظت أيضاً على قاعدة عرفية كانت موجودة قبل تبني ميثاق سان فرانسيسكو وهذه القاعدة العرفية تسمح لدولة من الدول بالتذرع بنظرية الدفاع عن النفس لحماية مواطنيها في الخارج.

إلا أن البعض يرفض هذه الأطروحات، لعدة اعتبارات:

أ ـ فيما يتعلق باعتماد هذا الاتجاه الفقهي على الأعمال التحضيرية، يجب قراءة تقرير مقرر اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجنة الأولى، ضمن الإطار العام لمعاهدة سان فرانسيسكو، فربط هذا التقرير بالإطار العام ينتهي إلى أن تحريم القوة يعتبر تحريماً مطلقاً “الفقرة الربعة من المادة الثانية من الميثاق”، كما تم التوصل إلى اتفاق بأن أي استخدام للقوة ضمن نظرية الدفاع عن النفس لا يمكن أن يحدث بدون مجلس الأمن.

ب ـ إن اعتماد هذه المدرسة علي قضية “كارولين”، وعلى قضية إغراق السفن البريطانية لقطع الأسطول الفرنسي التابع لحكومة “فيشي”، خلال الحرب العالمية الثانية، من أجل استخراج قاعدة عرفية؛ تكرس نظرية الدفاع عن النفس الاحتياطى، قبل تبني ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومن المعروف أن أهم شروط تكوين العرف الدولي هو تكرار السوابق المتجانسة، وسابقة أو سابقتين لا يمكن أن تؤدى إلى تأسيس عرف دولي، إذ أوضحت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 31 كانون الأول 1951 في قضية المصائد النرويجية، بأن قيام النرويج بإنشاء بحر إقليمي طوله 10 أميال بحرية لا يشكل قاعدة عرفية.

ومما يؤكد عدم استقبال القانون الدولي لنظرية الدفاع عن النفي الاحتياطي، هو قيام وزارة الخارجية الأمريكية بحذف عبارة الدفاع عن النفس الاحتياطي، التي وردت في خطاب الرئيس “كيندي” حينما فرض عقوبات اقتصادية على كوبا في تشرين الأول 1962، خلال أزمة الصواريخ الأمريكية ـ السوفيتية.

ج ـ إن فكرة ربط تطبيق الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، بفعالية إجراءات القسر الجماعي الواردة في الميثاق، لا يمكن أن تجد دعماً كافياً لا في نصوص الميثاق ولا روحه، إذ إن الفقرة الرابعة من المادة الثانية لا تقوم بهذا الربط، كما أن الدول التي وقعت على ميثاق سان فرانسيسكو، والتي كانت تتذكر بمرارة تجارب الحرب العالمية الثانية، أرادت تحريم كل استخدام فردي للقوة من قبل دولة ما “باسم أفكارها الخاصة بالعدالة، أو احتياجاتها الأمنية الذاتية”، ولأن محكمة العدل قد أوضحت في قضية مضيق “كورفو” في نيسان 1948، بأنه يعمل بقاعدة تحريم اللجوء إلى القوة مهما كانت النواقص الحالية لهيئة الأمم المتحدة”.

د ـ إن القول بأن الفقرة الرابعة، من المادة الثانية من ميثاق هيئة الأمم المتحدة تبيح استخدام القوة، إذا لم يؤدِ هذا الاستخدام إلى انتهاك مبدأ التكامل الإقليمي والاستقلال السياسي، هو قول مثير للجدل ويعاني من العديد من أوجه القصور .

5ـ القول بإن التدخل لصالح الإنسانية يهدف إلى توفير احترام القانون الدولي: فقد استخدمت تنزانيا وفيتنام هذا المبرر للتدخل في أوغندا وكمبوديا، كما استندت بلجيكا على هذا المبرر للتدخل في الكونغو كينشاسا، فقد أوضحت بأن القوات المتمردة في الكونغو قامت بانتهاكات واسعة النطاق، لاتفاقية جنيف الرابعة والتي تهدف إلى حماية المدنيين، ومن المعروف أنه بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية المذكورة، فإن أحكامها تطبق في نزاع مسلح، غير دولي، ينشب في أراضي دولة طرفاً في هذه المعاهدة.

إلا أن هذا الرأي ترد عليه ملاحظتان أساسيتان:

الأولي: أنه يخالف القواعد التقليدية للمسئولية الدولية، فمسألة الحق القانوني المتضرر، هي قضية ثنائية بين الدولة المقصرة والدولة الضحية، ويمكن دعم هذه القاعدة بحكم محكمة العدل الدولية الصادرة في عام 1966، في قضية جنوب غرب أفريقيا.

ويمكن لنظرية حديثة في القانون الدولي أن تعطي مبرراً للدول التي تعتمد على انتهاكات حقوق الإنسان، في الدول الأخرى لاتخاذ عدد من الإجراءات المعنية ضد الدولة التي تنتهك هذه الحقوق، وهذه النظرية هي نظرية الإجراءات المعاكسة، التي وردت في المادة 30 من مشروع المعاهدة التي تقوم لجنة القانون الدولي بإعدادها، حول المسئولية الدولية، ومضمون هذه النظرية هو إضفاء المشروعية على رد فعل تقوم به دولة، نتيجة انتهاك دولة أخرى لقاعدة من قواعد القانون الدولي.

ولقد أعطت المادة 30 مبرراً للإجراءات المعاكسة، التي تقوم بها عدد من الدول الغربية، مثل قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية في كانون الأول 1981، ضد بولندا بعد فرض الأحكام العرفية فيها، أو العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها الدول الأوروبية ضد الأرجنتين في نيسان 1982، بعد احتلالها لجزر الفوكلند.

إلا أن استخدام نظرية الإجراءات المعاكسة لتبرير العمليات العسكرية، تحت غطاء نظرية التدخل لصالح الإنسانية، هو نوع من المثالية القانونية التي لا يمكن أن يكون لها حيز في القانون الدولي، فهذه النظرية تقتصر على إجراءات سلمية، مثل العقوبات الاقتصادية، أو إنهاء العمل بمعاهدة، ولا تشتمل على أعمال القسر العسكري .

وإذا كان الدفاع عن القواعد الأساسية للقانون الدولي، من المؤشرات التي تدل على تقدم هذا القانون، إلا أن هناك احتمالا يحتوي على مجازفة وخيمة العواقب تتلخص بقيام الدول بتقليد نفسها لحق الدفاع عن القواعد الأساسية للقانون الدولي، وهذا أمر غامض ولا يمكن فصله عن الإطار الاستراتيجي والدبلوماسي القائم بين هذه الدول والدول التي تتخذ ضدها إجراءات معاكسة، كما أن الإجراءات التي اتخذتها دول لم تتعرض إلى ضرر مباشر، ليست إلا ممارسات قامت بها الدول الغربية، فما هي إلا سوابق لعرف إقليمي.

الثانية: إن التدخل العسكري لصالح الإنسانية، لا يتطابق مع المعاهدات الدولية، لحماية حقوق الإنسان التي تنبذ فكرة استخدام القوة لاحترام حقوق الإنسان، فمعاهدة تحريم جرائم الإبادة الجماعية التي اعتبرت الإبادة الجماعية جريمة دولية، لم تشر إلى استخدام القوة ضد دولة عضو انتهكت المعاهدة، كما أن المعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لم يكرس قاعدة اللجوء إلى القوة لاحترام حقوق الإنسان الواردة فيه، وإنما اقتصر فقط على وضع نظام للتقارير تقوم الدول الأعضاء بإعدادها تتعلق بالخطوات التي قامت باتخاذها لتنفيذ العهد، والتقدم الذي تم لاحترام الحقوق الواردة فيه، وترسل هذه التقارير إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة.

مشروعية التدخل لمساندة ثورة في إقليم دولة أخرى

من القضايا الأخرى التي يثيرها التدخل الدولي في إطار العلاقات الثنائية، مشروعية التدخل لمساندة ثوار في إقليم دولة أخري، فقد انقسم الفقه الدولي في هذا الشأن إلى فرعين، اتجه الأول إلى جواز الخروج على مبدأ عدم التدخل، لصالح الثوار في دولة أخرى، ولكن بشروط معينه. وذهب الثاني إلى عدم مشروعية الخروج على مبدأ عدم التدخل على الإطلاق:

الاتجاه الأول: عدم جواز التدخل لصالح الثوار:

يؤسس هذا الفريق المعارض لمبدأ التدخل لصالح الثوار رأيه على أن القانون الدولي التقليدي ينظر إلى الثورات أو الحروب الأهلية من حيث المبدأ، على أنها مسألة داخلية بعيدة عن إطار القانون الدولي، لأن الاختلاف بين الثورة والعصيان والتمرد والحرب الأهلية، اختلاف في الشكل والدرجة لكنها جميعاً تتفق في غاية واحدة، وهي إحداث تغيير في المؤسسات أو السياسات لحكومة قائمة، ولذلك فإن القانون الدولي يحظر كل تدخل يهدف إلى إثارة الحروب الأهلية أو التشجيع عليها في دولة أخرى.

وترتيباً على ذلك، يعتبر التدخل لصالح الثوار أو ضدهم عملاً غير مشروع، لأنه يتعارض مع حق الشعوب في اختيار نظام الحكم فيها، الذي تقبله وترتضيه، وإن الأولى بالدول الأجنبية أن تقف من الثورة أو الحرب الأهلية موقف الحياد، حتى ينتهي النضال وينجلي الموقف .

كما ينتقد هذا الفريق الاتجاه، الذي يسمح بمساعدة الثوار، وذلك لما تلاقيه تلك المساعدة من معارضة ورفض دولي، الأمر الذي أكدته الممارسات الدولية، كما ورد بمذكرة الخارجية الفرنسية عام 1935، من ضرورة الالتزام بالامتناع المفروض على الدول في الحروب الأهلية، التي تتمثل في حظر الدعاية المدمرة ضد حكومة أجنبية، وحظر الاعتراف بالصفة الرسمية لممثلي الثوار، وكذلك حظر إمدادهم بمعونة أو تدريب، لأن ذلك يشكل اعتداءاً على سيادة الدولة، وخروجاً على مبدأ عدم التدخل.

ويؤيد أصحاب هذا الرأي موقفهم، بما قننته المعاهدات الدولية في هذا الشأن، ومن ذلك إدانة مؤتمر باريس عام 1869، لكل أشكال المحاباة تجاه الفرق الثورية، وإعداد أو تأييد ثورة ضد حكومة أجنبية. وكذلك ما اتجهت إليه منظمة الأمم المتحدة، عندما اعتبرت أن المساعدة المقدمة من كل من ألبانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا للثوار في اليونان بين (1946ـ1949) وبين (1959ـ1962) لا تتفق وقواعد الميثاق.

وقد تأكد موقف الأمم المتحدة في هذا الشأن، عندما رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاستناد لفكرة حرب التحرير الوطنية، لإعطاء الحق لحركة المقاومة الأفغانية ضد الوجود السوفيتى في التمايز، وإخراج النزاع من الشأن الداخلي لأفغانستان.

ويذهب أغلب الفقهاء العرب، إلى مناصرة هذا الاتجاه الرافض لمبدأ التدخل، تحت ذريعة مساعدة الثوار في دولة أخرى، مؤكداً على: “أن قيام ثورة في دولة ما، يعد من الأمور الداخلية، فإذا نجحت وفرضت سيطرتها بذاتها وبدون عون خارجي، أصبحت حكومة هذه الدولة، وللدول الأخرى أن تتعامل معها بعد الاعتراف بها. أما إذا فشلت، استمر نظام الحكم الذي كان قائماً وهو الحكومة الشرعية للدولة.

الاتجاه الثانى: جواز التدخل لصالح الثوار:

اختلف أصحاب هذا الاتجاه فيما بينهم حول سند كل منهم في تبرير مساندة الثوار، فذهب فريق، إلى مشروعية مساندة الطرف الثائر، ولكن بشرط أن تكون له منظمة عسكرية ومدنية كافية، تبدأ ممارسة اختصاصات الحكم على الإقليم والسكان، في ظل انحسار فاعلية الحكومة.

وذهب آخر إلى التمييز بين “الحرب الأهلية” التي تهدف إلى الإطاحة بالسلطة الحاكمة، وتلك التي يحاول جزء من السكان إعمال حق تقرير المصير، ففي الحالة الأولى يتسم النزاع بالصبغة الداخلية ويستبعد كل تدخل، بما فيه التدخل لصالح الحكومة القائمة. بينما في الحالة الثانية، فيتسم النزاع بالصيغة الدولية، حينئذ تحظر كل مساعدة للحكومة، على حين يحق لكل دولة بموجب القانون الوصفي الساري بمساعدة الثوار، وذلك بإعمال تفسيرها الخاص لوقائع الحالة.

ويرى فريق ثالث أن القاعدة في هذا الشأن، هي إعمال مبدأ عدم التدخل، غير أن الاستثناء قد تحتمه مسألة تطور أمور تلك الثورة وأعمالها، التي قد تضر بسلامة وأمن دولة أخرى، حينئذ يجوز لتلك الأخيرة التدخل، إذا ما نشأ عن تلك الأحداث أضرار بحقوقها وسلامتها.

وإلى ذلك ذهب “جنينة”، مؤكداً على: “أن قيام ثورة داخل دولة، لا يبيح لدولة أخرى التدخل في شؤونها، مادام أن ما للدولة من حق البقاء والصيانة، لا يهدده قيام الثورة الداخلية في الدولة الأخرى”.

ومن ذلك يتضح، أن الفريقين اتفقا على أن القاعدة هي إعمال مبدأ عدم التدخل، وعلى حين رفض الفريق الأول اعتبار مساندة الثوار استثناءاً على هذه القاعدة، فإن الفريق الثانى قد وضع شروطاً معينة حتى يمكن اعتبار مساندة الثوار بمثابة استثناء على مبدأ عدم التدخل.

ولقد انتهى مجمع القانون الدولي، في دورته التي عقدت بواشنطن عام 1973، إلى امتناع الدول عن التدخل لصالح أى طرف من أطراف الحرب الأهلية أو مساعدته، باستثناء المساعدات ذات الطابع الإنساني، وذلك بعد أن عرف المجمع الحروب الأهلية بأنها النزاعات المسلحة التي تقع على إقليم إحدى الدول ما بين حكومة هذه الدولة وواحدة أو أكثر من حركات العصيان المسلح، التي تهدف إلى قلب نظام الحكم، أو تغييره أو الانفصال عن الدولة أو تحقيق الحكم الذاتي على جزء منها، أو قيام حالة حرب بين طائفتين أو أكثر من طوائف الدولة، بغية الوصول إلى السلطة في ظل غياب سيطرة الحكومة على مقاليد الأمور.

ولكن المساعدات تكون واجبة على الدول لحركات التحرير الوطنية، التي تقاوم الاستعمار والاحتلال، وذلك طبقاً للبروتوكول الأول عام 1977، الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949، باعتبار أن حروب التحرير تعتبر ضمن النزاعات المسلحة الدولية .

وبالتطبيق علي حالة العراق والكويت عام 1990، والتي ادعي فيها العراق مشروعية تدخله في الكويت، لمناصرة الثورة التي قامت فيها، وطلب قادتها مساعدته، فإنه على ضوء نصوص مواثيق وإعلانات المنظمات الدولية، يتضح فساد وبطلان الادعاء العراقي في تبرير واقعة الغزو، خاصة وأن أشد الآراء تأييداً لحق التدخل لمساعدة الثور قد وضع قيوداً وشروطاً، لم يتوفر أياً منها في حالة ثورة الكويت التي يدعيها العراق، فلم تكن هناك ثمة اضطرابات داخل الكويت، أو حرب أهلية بين حكومة الكويت وأي جماعة ثورية، كذلك لم يكن الأمر داخل دولة الكويت يشكل نوعاً من نضال شعبها ضد حكومة تلك الدولة.

بل إن افتراض قيام تلك الثورة لم يشكل أي مخاطر أو اضطرابات تمس أمن وسيادة واستقلال العراق حتى يستطيع التدخل في الشأن الكويتى، الأمر الذي يعد معه فعل الغزو العراقي للكويت عملاً من أعمال العدوان.

وإذا كان من الثابت أن القانون الدولي العام يتضمن مجموعة من المبادئ، التي من شأن تطبيقها واحترامها أن تسود العلاقات السلمية والودية بين الأمم والشعوب، يأتي على رأسها مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية والخارجية للدولة، فإن مبدأ “حسن الجوار” يشكل مع مبدأ عدم التدخل وجهين لعملة واحدة، يستحيل الفصل بينها من الناحية القانونية البحتة.

وحسن الجوار ينطوي بالضرورة على عدم تدخل في شؤون الدول المجاورة، وعدم التدخل يفترض حسب المجرى العادي للأمور أن الدول المتجاورة تحترم بعضها البعض، بالشكل الذي يجعل العلاقات بينهما تسير في اتجاه النمو والتعاون على حل المشكلات ذات الاهتمام المشترك .

وعلى ذلك، لا يكون العراق قد انتهك مبدأ عدم التدخل حسب، بل ـ وفي نفس الوقت ـ قد عصف بمبدأ حسن الجوار، الذي يشكل أحد أعمدة التنظيم الدولي المعاصر، والتي يجب احترامها من قبل أعضاء المجتمع الدولي .

خاتمة الدراسة:

لقد أصبح مبدأ عدم التدخل عنصراً قانونياً هاماً في ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945، وفي العديد من القرارات الصادرة عنها في هذا الشأن، فقد أقرت المادة (2/1) من الميثاق صراحة بمبدأ المساواة القانونية بين الدول الأعضاء بقولها “تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”.

كما أن المادة (2/4) التي تنص على أن “يمنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”، فسرت بأن على الدولة ألا تحدث تعديلاً على الاستقلال السياسي والوحدة الإقليمية للدول الأخرى.

كذلك فإن المادة (2/7) التي تنص على “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذا لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع”، ويلاحظ على هذا المبدأ أنه قد قصد أن يكون عاماً يسري على جميع وجوه نشاط الأمم المتحدة وسائر فروعها، وبذلك يقيد من تدخل الهيئة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للدول الأعضاء حتى لا تصبح هذه الهيئة دولة عالمية أو كياناً يعمل لصالح مجموعة من الأعضاء.

كما أخذت لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة في مشروعها الخاص بحقوق وواجبات الدول عام 1947 بهذا الرأي عندما نصت المادة (3) على أنه: “يجب الامتناع عن أي تدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى”.

وقد حاولت الدول الضعيفة استغلال هذا المبدأ لتحوله إلى قاعدة قانونية دولية مطلقة، من خلال إصدار الجمعية العامة عدداً من الإعلانات منها: إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون للدول وحماية استقلالها وسيادتها رقم (2131) لعام 1965.

كما أصدرت الجمعية العامة إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة رقم (2625) لعام 1970 الذي تضمن مبدأً خاصاً بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية للدولة.

وأصدرت الجمعية العامة إعلان عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية بجميع أنواعه رقم (36/103) لعام 1981، وقد تضمن هذا الإعلان مبدأ عدم التدخل، فحدد حقوق الدول في السيادة والاستقلال وحرية اختيار نظامها السياسى والاجتماعي، بالإضافة إلى حقها في تملك المعلومات بحرية، ثم حدد واجبات الدول في الامتناع عن جميع أشكال التدخل التي تهدد حقوقها.

ومن حيث القضايا والإشكاليات التي يثيرها مبدأ التدخل الدولي: انتهي الباحث إلي أن أهم هذه القضايا تتمثل في طبيعة العلاقة بين التدخل والسيادة، فرغم أن مبدأ السيادة من المبادئ الأساسية في تكوين الدول، ومازال يشكل حجر الزاوية في بنية القانون الدولي، فإن التغيرات والتحولات الدولية أدت إلى تغير مفهومه التقليدي، وأبرزت التفرقة بين المفهوم القانوني القائم على المساواة القانونية بين الدول وحقها في الاستقلال وإدارة شؤونها بحرية في المجالين الداخلي والدولي، والمفهوم السياسي القائم على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة بناءً على ما تحوز عليه الدولة من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي والتكنولوجي، مما يعني أن هناك دولاً كاملة السيادة وأخرى ناقصة السيادة، كما غيرت مفهوم السيادة المطلقة وجعلته نسبياً.

كما أنه أمام التطورات الدولية، تراجع مفهوم السيادة من صيغته المطلقة إلى صيغ نسبية، بحيث يصبح وسيلة وليس غاية، ويعمل على تحقيق الخير العام الداخلي والدولي باعتبار الإنسان الهدف الأسمى له، ولم تعد السيادة مبرراً لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، لاسيما أن الدولة ملتزمة في ممارستها لمظاهر سيادتها بالقانون الدولي وما يتضمنه من التزامات تفرض عليها احترام حقوق الإنسان .

لعبد الله محمود الطناوي

المعهد المصري للدراسات- موقع الحداثة و الديمقراطية

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate