حداثة و ديمقراطية

ديمقراطية ما بعد الحداثة عند جيل ليبوفتسكي  (2).

2- ديمقراطية أكثر.. ومُواطنة أقل:

ما أشبه ما آل إليه وضع المجتمعات الغربية المعاصرة، بما عاينه أليكسيس دي توكفيل خلال رحلته إلى أمريكا، ولا إخال إلا أن صرخته المدوية – التي تتخذ صورة وصف لواقع حال دولة حديثة العهد ينعم شعبها بالديمقراطية ويرفلون في نعيم البذخ والاستهلاك المفرط ومع ذلك تظهر على وجوههم سيماء من لا يشعر بالسعادة ولا يستلذ طعم الحياة الراضية الهنيئة – تصلح أيضا لوصف حال المجتمعات الغربية راهنا مع ما بين الوضعين من مباينة في الزمن، يقول: “ترى هل كان هذا حظ الأجيال التي سبقت جيلنا؟ هل كان الإنسان يعيش دائما في مثل دنيانا هذه، حيث كل شيء في غير موضعه الذي يجب أن يكون فيه، وحيث الفضيلة في غير أهل العبقرية، وذوو المواهب خلو من الشرف، وحيث يختلط حب النظام بالميل إلى ذوي البطش، والاستبداد، وتختلط عبادة الحرية المقدسة باحتقار القانون، وحيث الضوء الذي يلقيه الضمير على أفعال الإنسان ضوء فاتر، وحيث لم يعد شيء يبدو محظورا، أو مسموحا به، كريما أو عارا، حقا أو باطلا؟”( ). ولا يجد ليبوفتسكي بُدًّا من تعضيد قول توكفيل وتزكية نبوءته التي يرى أنها تجد تجسدها الأقصى في النرجسية ما بعد الحداثية، بالنظر لما عاينه من تشابه بين الوضع الذي عاينه توكفيل ويجلوه قوله، والوضع الغربي الراهن الذي يشهد ابتذالا غير مسبوق سقطت فيه كل القامات من عليائها، وتزحلق كل شيء في لا مبالاة مرتخية. وهذا تحديدا ما سعت وراءه المجتمعات الديمقراطية خلال قرن حيث “أصبحت السلطات أكثر اختراقا ورعاية وتسترا على نحو متزايد، وأصبح الأفراد أكثر اهتماما بأنفسهم و”ضعفاء”، أو بمعنى آخر غير مستقرين ودون قناعات.”( ) فهل يعني هذا أن المنطق الذي أضحى يحكم مرحلة ما بعد الحداثة لا يعدو أن يكون استمرارا للمنطق الذي حكم مرحلة الحداثة، وأن الفروق بينهما ما هي إلا فروق عرَضية لا تمس الجوهر في شيء؟

يعتقد ليبوفتسكي أن المنطق العميق للنزعة الحداثية، وإن كان ثوريا، بالنظر إلى أنه قلَب العلاقة بين الفرد ومجمل النسق الاجتماعي لصالح الكائن الفرد الحر والند للآخرين، فهو يماثل المنطق الذي يحكم مجتمع ما بعد الحداثة، التشاركي والمائع والنرجسي. عدا أن المتعية المتولدة عن سيادة مجتمع الاستهلاك كانت مقتصرة في الفترة الحديثة على عدد من الفنانين المناهضين للبورجوازية، بينما أمست في الفترة ما بعد الحداثية قيمة مركزية مهمينة على الحياة اليومية ككل. إلى حد صارت معه الثقافة المعاصرة تبدو “كدمقرطة للمتعية وكتكريس معمم للجديد، وانتصارا لمناهضة الأخلاق ومناهضة المؤسساتية.”( ) والمتعية تؤدي لزاما، حسب ليبوفتسكي، إلى فقدان المواطنة، وإلى التمركز حول الذات واللامبالاة بالمصلحة العامة، وإلى غياب الثقة في المستقبل وتراجع مشروعية المؤسسات.”( ) وإذا كان المنطق يستسيغ أن تؤدي النرجسية وطغيان عملية الشخصنة على حياة الأفراد إلى تراجع حس المواطنة ونكوص عواطف الوطنية النزيهة القائمة على إيمان ثابت لا يتزعزع، جراء إحلال العناية بالمصالح الشخصية محل العناية بالمصالح العامة، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هاهنا يكمن في الآتي: هل يتخلى الأفراد عن الديمقراطية ويضربون عنها صفحا لاسيما بعد فتور الحس الإيديولوجي لديهم وخفوت صوت النضال وركونهم إلى متعهم الخاصة ومآربهم الضيقة؟

لا يرى ليبوفتسكي ذلك، فهو يعتقد أن الديمقراطية لم تعد مشروطة بالانخراط الإيديولوجي، كما كان عليه الحال في السابق، وهنا مكمن قوتها، بل لقد تركت الشرعنة الإيديولوجية المعاصرة للعصر الإنضباطي مكانها لتوافق وجودي ومتسامح، وأصبحت الديمقراطية طبيعة ثانية وبيئة ومناخا. بمعنى أن الأفراد وإن ذابوا في فضاءاتهم الخصوصية، وعبروا عن استيائهم السياسي والإيديولوجي، فإن ذلك لا يدل بأي حال على تراجع تعلقهم بالديمقراطية؛ فهم لا يصوتون لكنهم يتشبتون بالحق في التصويت، ولا يهتمون بالبرامج السياسية لكنهم يطالبون بوجود الأحزاب، ولا يقرؤون الصحف ولا الكتب لكنهم يتشبتون بحرية التعبير. وباختصار إنهم يبدون امتعاضهم من الشأن السياسي ويُتَفِّهونه بشكل يبعث على الدهشة ويحولونه إلى شيء “مرح”، لكن المفارقة تكمن في كون كل ذلك يحدث داخل حلبة الديمقراطية ذاتها.

واللافت للانتباه في زمن ما بعد الحداثة، أن طغيان النرجسية الفردية وإن كان قد أفرز تراجعا في الاهتمام بالشأن السياسي، فإنه قد أفسح المجال في المقابل لظهور نرجسية جماعية تكمن أهم ملامحها في زيادة الاهتمام بالشأن الجماعي، الذي يشهد عليه تكاثر الجمعيات ومجموعات الدعم والتعاون، وتمتين الصلات والروابط مع مجموعات تدافع عن مصالح مصغرة ومتخصصة جدا مثل تجمعات الأرامل، آباء الأطفال المثليين جنسيا، المدمنين على الكحول، الأمهات السحاقيات… إلخ. وهي “ظاهرة تكشف من جهة عن تراجع الأهداف الكونية إذا ما قارنا بينها وبين النضال الإيديولوجي والسياسي في الماضي، كما تكشف من جهة ثانية عن الرغبة في الاجتماع بأناس يتقاسمون الاهتمامات اللحظية والمحصورة نفسها.”
ولعل ما سبق ذكره يسعفنا في القول بأن المجتمعات الغربية قد دخلت اليوم عصرا مختلفا يمكن وسمه بأنه عصر المواطنة الخفيفة (citoyenneté light) وهي مواطنة تجسد حسب ليبوفتسكي امتدادا للخفة التي طالت مناحي عديدة من الثقافة الغربية؛ كالاقتصاد، والسياسة، واللعب، والتقنية، والتعليم وغيرها، حيث وقع تفريغ تفسيرات العالم من النزعة المذهبية المتصلبة فاضمحلت خطورتها، وتم إدخالها في النشوة الخفيفة للاستهلاك وللخدمة اللحظية.( ) وامتهنت السياسة، وسقطت النضالية والعناصر النقابية، وأصبحنا في حضرة ديمقراطية أقل ركونا للعقائد الخانقة، وأكثر تناغما وارتباطا بنوعية الحياة وبالحريات الفردية؛ وأشد تنسيقا لروح المواطنة وفق المنطق الاستهلاكي، واجتهدت عملية الشخصنة في شرعنة الديمقراطية كعامل مساعد على تثمين الحرية والتعددية في كل مكان. ولا ينبغي لذلك أن يثير استغرابنا أو يسترعي دهشتنا لأن الواقع يكشف بما لا مزيد عليه على أنه “كلما تنامت النرجسية كلما انتصرت الشرعية الديمقراطية، ولو في شكلها البارد. إذ توجد علاقة قرابة وثيقة جدا بين الأنظمة الديمقراطية، بتعدديتها الحزبية وانتخاباتها والحق في المعارضة والمعلومة الذي تكفله، وبين مجتمع الخدمة الذاتية المشخصن، والتجريب والحرية التوفيقية.”

وتبعا لذلك، تكون الديمقراطية قد حافظت على مشروعيتها، لكنها في المقابل فقدت بعضا من قوتها التي لا تبلغ تمامها إلا وهي “محمولة على رغبة في التحرير تكتسب على الدوام حدودا جديدة”( )، واستبدلت رداءها الثوري القديم الذي كان يفرض عليها اليقظة الدائمة والتحفز المستمر لمحاربة من يتربص بها ويجترئ على مبادئها، برداء أضفى عليها سمة النعومة والبرودة جراء غياب عدو حقيقي كما يقول ليبوفتسكي في وصفها: “لم يعد هنالك حزب واحد يرفض قاعدة التنافس السلمي على السلطة، ولم يسبق للديمقراطية أن اشتغلت دون وجود عدو داخلي معلن (باستثناء المجموعات الإرهابية الأقلية التي لا يتبعها أحد) كما تشتغل الآن، ولم يسبق أن كانت بهذا القدر من التناغم مع الأعراف كما هي الآن، ومع صفات فرد رُوِّض على الاختيار الدائم، ويشعر بالحساسية من السلطوية والعنف، ويعيش متسامحا ومتلهفا للتغيير المتكرر لكن دون مخاطر كبرى.” إنها بتعبير آخر ديمقراطية على مقاس الوضع المشخصن الذي أصبح قدَر الإنسان الغربي المعاصر؛ فهي تخلق في الأفراد تهييجا غامضا، لا يتجه إلى غرض محدد، في صورة حمى مستمرة ومستعرة تظل تدفعهم إلى اللهت وراء مزيد من الطلبات والاحتياجات المتجددة والمتنوعة والتي لم تكن تخطر لهم على بال من قبل، تبقيهم حبيسي دائرة مغلقة ومقفلة بإحكام لا يُعرف لها أول ولا آخر، وتغرس فيهم ثقافة المساواة التي تعيد تثمين الطارئ والضجيج والصراخ والحياة اليومية وتؤدي إلى إعادة تدوير كوني للمعاني والأشياء الصغيرة. ولا غرو في ذلك طالما أن الديمقراطية في ما يقول لويس ديمون تستهدف “استبدال الإنسان المراتبي بالإنسان المتساوي”.

خاتمة: دمقرطة الحياة التعيسة..مأزق الغرب الوجودي

ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن ما توصل إليه ليبوفتسكي بعد الجهد الذي قام به لتشريح وتحليل واقع حال المجتمعات ما بعد الحداثية، لا يعدو أن يكون تأكيدا لنبوءة توكفيل التي صدح بها في القرن التاسع عشر والتي مؤداها أن “الغالبية من المواطنين سيستمتعون بقسط أوفر من الرخاء والازدهار، ويظل الشعب كله أكثر مسالمة، لا لأن اليأس قد استولى عليه من قدرته على تغيير أوضاعه إلى ما هو خير منها، بل لأنه صار يشعر أنه في خير ورضى فعلا.” لكنه رضا مشوب بمسحة من الكدر غير المبرر، يشي بأنه مجرد رضا وهمي ناتج عما يجلبه الاستهلاك من متع لحظية عابرة، وما يولده هامش الحرية الكبير في نفوس الأفراد من شعور بأنهم قد أمسوا متحكمين في قراراتهم وماسكين بزمام حياتهم. والحال أن الحرية الإيجابية بالصورة الملحوظة في المجتمعات الغربية لَتدعو إلى الحيطة والحذر أكثر مما تبعث على الثقة والتفاؤل؛ فهي بقدر ما فيها من جاذبية، تظل محملة بالخطر الذي من أجلى مظاهره أنها تتيح للنظام فرصة إفراغ الديمقراطية من طابعها التحريري، وقد أفرغت فعلا، لتتحول إلى ديمقراطية جديدة في لبوس استبدادي – ديمقراطية أمنية – ترفع اليد عن الحريات الخاصة المختزلة في الاستهلاك بأنواعه الاقتصادية والثقافية والسياسية وتزيد من تقييد حركات الأفراد وتحسب عليهم أنفاسهم في الحياة العامة.

فهل من سبيل يقترحه الكاتب لإخراج المجتمعات الغربية من هذا الوضع المأزوم؟ وما الذي يمكن أن يحدث في حالة ما إذا لم يعد الفضاء الخاص يحقق الرضا ويجلب المتعة للأفراد؟ وأيُّ ملاذ يحتمون داخله إذا ما ضاق بهم عالمه الحميمي كما ضاقت بهم حدود المجال الاجتماعي فهجروه وحدانا وزرافات؟
يعترف ليبوفتسكي بأن الإنسان المعاصر أصبح أمام مفارقة أنطولوجية خطيرة؛ فهو يطالب بالبقاء وحده، في عزلة أكبر ودائمة، لكنه في الوقت ذاته لا يتحمل نفسه إذا بقي في مواجهة معها، وهذه لَعمري سمة من يعيش وضعا انفصاميا تجلوه مطالبته الدائمة والمثابِرة بالمزيد من الحرية، حتى إذا ما تأتى له الانفصال عن الغير وشرع جانبه العلائقي في الانمحاء، استحالت حريته إلى عزلة لا تطيقها نفسه، وانتابه قلق وجودي ناتج عن هذه المراوحة بين الرغبة في البقاء وحيدا والألم الذي يرافق هذا الوضع. وهو ما يشي بأن البيئة الديمقراطية المختزلة في المساواة ودمقرطة الاستهلاك لم تفلح في أن تحقق لمواطنيها الحياة السعيدة التي حلموا بها، كما لم يتمكن منطق الغواية وكمّ المتع المحيطة بهم من إقناعهم بجدوى حياتهم وأهميتها، بل على العكس من ذلك سقط معظمهم في براثن فراغ مهول، ولّد لديهم شعورا قاتما بالتفاهة، وتبرما وضجرا وانهيارا، تعد تعبيرات دالة على عملية الانسحاب واللامبالاة التي سقط فيها الإنسان النرجسي الما بعد حداثي حين صار بمقدوره أن يعيش بلا هدف ولا معنى في تعاقب وميضي، أسفر عن “دمقرطة غير مسبوقة للحياة التعيسة”.( ) وهي وضعية يعيش بموجبها الأفراد كمونادات معزولة ومقطوعة الصلة بما يجول حولها بلغة ليبنز، أو ككبسولات رواد الفضاء بتعبير ليبوفتسكي، استسلمت للإغراء، المتحرر من سجن البنية الفوقية والإيديولوجيا، بشكل رضوخي طفلي، ورأت في الإفراط في الاستهلاك البارد والمتعية امتلاء ولَّد لديها إحساسا بالاعتبار الوجودي، فكان ذلك إيذانا بانتهاء عهد “الإنسان السياسي (homo politicus) ومَقدم الإنسان النفسي (homo psychologicus)، الباحث عن كينونته ورفاهيته.”( ) ولا مخرج لها من هذا الوضع غير السليم الذي هو ماضٍ في الاستفحال، أو التخفيف من غلوائه على أقل تقدير، في اعتقاد ليبوفتسكي، إلا عبر “فعل سياسي يجتهد في تقييد الرغبات غير المحدودة، وفي إعادة التوازن بين الفضاء الخصوصي والفضاء العمومي، وإعادة فرض إكراهات قانونية مثل منع البذاءة والإباحية والانحرافات، فهو وحده القادر على إعادة ضخ المشروعية للمؤسسات الديمقراطية”.

لا يبدو لنا هذا المقترح حلا ناجعا يمكنه أن يسعف المجتمعات الغربية المعاصرة في تجاوز محنتها وضبط توازنها، ولا نحسب أن ليبوفتسكي نفسه كان مقتنعا بجدواه تمام الاقتناع، مبررنا في ذلك قوله في موضع آخر ما مفاده أن من المتعذر الرجوع عن هذا المنحى (أي منحى شخصنة ونفسنة الحياة اليومية للأفراد وتحويل الحمولة العاطفية التي كانوا يصرفونها على مستوى الفضاء العام نحو الفضاء الخصوصي)، لأن هذا تحديدا ما سعت وراءه المجتمعات الديمقراطية خلال قرن من الزمن وبذلت في تحقيقه جهدا مضنيا. وعلى ذلك، يمكننا القول بنبرة أقل تشاؤما بأن هذه المجتمعات وإن فاتها إدراك تبعات ما أقدمت عليه وخططت له خلال قرن، فلا ينبغي أن يفوتها استدراك خطئها، أو قُل خطيئتها، وذلك لا يتم إلا من خلال إرادة سياسية قوية وصادقة يُبذل في سبيل أجرأتها على أرض الواقع من الموارد البشرية والمالية ومن الوقت أيضا مثل أو أكثر مما تَطَلَّبَه وضعها الحالي، لأن الإبداع البشري كما في مُكنته أن يخلق الداء الذي يدمره ويهدّ أركانه، في مقدوره كذلك أن يخلق الدواء الذي يعيد له توازنه ويصلح وضعه الذي حاد عن مساره الصحيح واشتطّ في جوانب وأهمل أخرى، فجعل المجتمع يفقد بوصلته ويصير أشبه بسفينة تمخر عباب البحر على غير هدي ودونما اتجاه. على أننا لسنا من رأي أولئك الذين يختزلون المشكلة برمتها في “الإنتاج الاستهلاكي” ويرونه المسؤول الأول والأوحد عما انتهى إليه وضع الأفراد من استلاب واغتراب وانغماسهم في عالم المتعة وركونهم إلى فضاءاتهم الخاصة وقطع صلتهم بالفضاء العام تاركين الحبل على الغارب لمحترفي السياسة والاقتصاد لتوجيه دفة البلاد أنى شاؤوا دون حسيب أو رقيب، بل نعتقد، على العكس من ذلك، أن الاستهلاك لا يمثل مشكلة، لأنه يُفترض أنه حل يضمن الرفاهية ويخلق المتعة ويوفر المنفعة، ونَضُمّ صوتنا، إلى صوت بيير بورديو، لنقول بأن الرأسمال الثقافي له النصيب الأكبر في الوضع المذكور، وهذا كما لا يخفى على أحد، تتحكم في إنتاجه وتمريره للأفراد عملية التنشئة الاجتماعية التي تتدخل فيها بنسب متفاوتة مؤسسة الأسرة وقطاع التعليم ووسائل الإعلام وبصفة عامة مجمل المؤسسات المسؤولة بصورة أو بأخرى عن تكوين العنصر البشري، والتي هي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تزود الأفراد بالمناعة الكافية التي تمكنهم من التحكم في أنفسهم في هذه الجنة الاستهلاكية الحديثة؛ إذ لَمَّا كان الجميع واعيا ومقتنعا بأن عجلة الاستهلاك تشق طريقها نحو الأمام بصورة لا تنفك وثيرتها تعظم وتتزايد، فإن الأَولى أن يعرفوا، وهم حتما يعرفون، بأن الحل لا يكمن في إيقاف دوران هذه العجلة أو التخفيف من سرعتها، وإنما في توعية الأفراد بأن يتعاملوا معها بهدوء ورزانة وأن يوازنوا بين حاجاتهم الأساسية ونزواتهم الزائدة لئلا يستلبهم منطق الغواية ويقوض كيانهم ويمحق شخصيتهم كذوات عاقلة فيكون في ذلك هدم لكيان المجتمع وطمس لهويته. ولا يتم ذلك، في اعتقادنا، إلا من خلال إحلال “وعي حقيقي” نقدي يتيح للفرد القدرة على التمييز بين القيم الإنسانية النبيلة والقيم الاستهلاكية المبتذلة، محل “الوعي الزائف” الذي يمجد التفاهة وينتصر لمصالحه على حساب مصالح الجماعة. لأن “الذين تقودهم مصالحهم – كما يقول تورين – لا يدافعون دوما عن المجتمع الديمقراطي الذي فيه يعيشون. إذ يفضلون في الغالب إنقاد ممتلكاتهم عن طريق الهروب أو عن طريق البحث بكل بساطة عن ستراتيجيات أكثر جدوى من غير أن يأخذوا أمر الدفاع عن المبادئ والمؤسسات بعين الاعتبار”. والأكيد أن هذا الوعي الجديد لن يتأتى بناؤه بين عشية وضحاها، بل يحتاج إلى سنوات عديدة يتم خلالها تربية الناشئة على قيم مضادة لديمقراطية المصالح الأنانية، ومشبعة بروح ديمقراطية مناضلة تمدهم بالقوة اللازمة لاستعادة عافيتهم وبالأسلحة المناسبة لمواجهة ديكتاتورية الاستهلاك الجديد الذي جلبته معها رياح ما بعد الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate