اصلاح ديني

الإصلاح الديني ينبع من القبول بفصل الدين عن السياسة.

مسألة الإصلاح الديني وتطوير الخطاب تستلزم القبول بعلمانية الدولة ومدنيتها، لا كما ينظر الإخوان المسلمون ومن يشاركهم أطروحاتهم لمفهوم الدولة ومحاولة ربط الدين بالسياسة. فمدنية الدولة عندهم لا تعني فصل الدين عن السياسية قدر ما تعني الحكم باسم الغالبية الطائفية من خلال الاتكاء على أن الإسلام هو دين الدولة ومصدر تشريعها.

صاعدت حركات الإسلام السياسي داخل المجتمع السوري خلال سنوات الثورة، وسيطرت الجهادية لاحقا على المناطق المحررة، بالتوازي مع ذلك يتصاعد حديث فيه الكثير من اللّغط عن أن المشكلة هي في فهم الإسلام، وأنه يجب القيام بإصلاح ديني يحدد الشكل الصحيح للإسلام القادر على مواكبة قيم العصر.

وتعلو أصوات أخرى تعتبر أن المشكلة في الإسلام كلّه، كون التراث العربي الإسلامي مليء بالحوادث والفتاوى التي تنتهك حقوق الإنسان العصري. هذه الأصوات باتت تدعو إلى “الأنتي أسلمة”، وتتشنج من كل معطى ديني، ومنها ما يرفض الإسلام كدين، حيث ينمو تيار إلحادي متصاعد خلال السنوات الأخيرة. لكن الموقف الإلحادي هذا ليس عن قناعة ودراية، بل هو رد فعل على تواجد تيارات مختلفة من الإسلام السياسي على الساحة السورية والعربية.

الدين بشكله الشعبي هو حاجة نفسية للبشر الذين يعانون، تتجسد في ممارسة الطقوس التي تتقرب من الله، فهو يخفف من شدة المعاناة، ويجعل الفرد يتحمل آلام الفقد، وآلام الحرمان المادي والروحي والجنسي، ويشعر بالرّضى والسكينة لإرادة الخالق، والتسليم بالأمر الواقع. هو هنا يأخذ دور مسكّن للألم، ريثما يعثر المريض على علاجه الشافي، أي كبديل عن الطب النفسي، غير المتوافر للعامة في البلدان العربية.

بالتالي اللجوء إلى المبالغة في طقوس التدين، والتشدد الديني، هو تعبير عن اشتداد المعاناة في تلك البيئات. وبالطبع لا يقتصر الأمر على الإسلام، شيعيا كان أم سنيا، بل يشمل المسيحيين وبقية الطوائف الإسلامية، خاصة في الأرياف، وهي الأكثر معاناة، حيث يمكن ملاحظة التطرف في اللجوء إلى الدين في الفترات التي تصاعد فيها التفقير وانغلاق سبل الأمل بالمستقبل، مع تصاعد السياسات اللّيبرالية الجديدة للشعوب العربية من قبل حكوماتها، تفقيرا وكبتا سياسيا وثقافيا ومعرفيا.

أدت السياسات الليبرالية الجديدة في سوريا إلى تفقير وتهميش كبيرين، وزاد من حدة المعاناة استمرار السيطرة الأمنية على كل مناحي الحياة، وانعدام حرية التعبير، وحرية ممارسة العمل السياسي. هنا كان اللجوء إلى الدين وسيلة لتفريغ المعاناة، وبشكله الصوفي خصوصا. ورغم رفض البيئات السورية عموما للتشدد والسلفية، فإن ذلك لم يمنع ظهور متشددين طيلة سنوات ما قبل الثورة.

كان النظام السوري قد استثمرهم كثيرا، وجند الكثير منهم، حيث أرسلهم إلى العراق لرفد تنظيم القاعدة هناك، ثم أودعهم في سجونه، ليطلقهم بعد عجزه عن وأد الثورة الشعبية، ليشكلوا قادة الكتائب المتشددة من أحرار الشام إلى جيش الإسلام إلى النصرة وغيرها.

وبالتالي تعمّد النظام دفع الثورة إلى الأسلمة والطائفية، وهذا استثمار مخابراتي لحالة التدين الشعبي المتصاعدة مع تكثيف المجازر على المناطق الثائرة، ومنها ما تعمّد النظام أيضا إظهارها بشكل طائفي استفزازي.

وليس النظام وحده من دفع الثورة إلى الأسلمة، بل جزء من المعارضة ممثَّلة بالإخوان المسلمين ومن تحالف معهم في تشكيلات المعارضة، إضافة إلى الدور الفردي لأعضاء من الإخوان يدعم فرض أسلمة الثورة عن طريق بعض الجمعيات الإغاثية الخاصة بهم وكذلك دور التعليم في المناطق المحررة. وبالتأكيد كل ذلك يتم عبر تمويل آت من دول عربية لها مصلحة في ذلك.

الإخوان المسلمون يعتمدون شكل التدين الشعبي كأيديولوجيا لهم، بدرجات تشدد مختلفة، ويتلاعبون بالمفردات السياسية في تحالفاتهم مع الليبراليين من المعارضة، كمقولة الدولة المدنية، والتي لا تعني أبدا علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة، بل تعني أن الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع، وأن الإسلام شكّل دولة مدنية بالأصل. هنا منظور الإخوان المسلمين طائفي، فهم يقولون ليس بفرض دين الأكثرية، بل بمصادرة خيار الأكثرية الطائفية عبر اعتبارهم هم الممثل الحصري لها، وبالتالي الحكم باسم الأغلبية الطائفية.

الفكر الإخواني، وكذلك فكر التشكيلات الإسلامية المسيطرة في الداخل، والتي تستغل حالة التدين الشعبي، كلها تقول بنبذ داعش كتنظيم خارج عن الإسلام. هناك أيضا أصوات ليبرالية تقول بضرورة تحديد الشكل الصحيح للإسلام، أو بتوحيد الإسلام تحت راية معتدلة تواكب قيم الحداثة العصرية.

هناك إشكالية كبيرة في الفكرة القائلة بضرورة الإصلاح الديني، وهي في كونه مدخلا لإصلاح سياسي، وهو ما يمثل إزاحة لمكانة الدين، باعتباره ثقافة شعبية متوارثة تخصّ المجتمع. أي أن علينا تأطير الدين وفق محدّدات تناسب السياسة، وتناسب أن يكون أيديولوجية محدّدة للدولة أو أقلّها لجماعات الإسلام السياسي.

بكل الأحوال الإصلاح الديني أمر غير ممكن على أرض الواقع، بالضبط بسبب ربط القائمين عليه الدين بالسياسة، وهنا السياسة عامل مشتّت للدين ومشوّه له، وسبب لانقسامات متكاثرة، مدعومة بفتاوى تبعا لمصلحة التيار السياسي الإسلامي الذي يصدرها، وفي معظمها أساسها وهدفها السيطرة على المجتمع. ومن السهل اختلاق فتاوى وفق الحاجة، فالفتوى تقوم على المعالجة اللفظية للتراث الإسلامي، وليس على المعالجة العقلية.

القبول بعلمانية الدولة، أي بفصل الدين عن السياسة وإبقائه في الحيز الشعبي، يضع مسألة الإصلاح الديني في سياقها الصحيح، فلا مشكلة ولا ضير في تدين الشعب بالشكل الذي يرضي حاجاته الروحية، بعيدا عن تأثير سماسرة الدين والسياسة.

لرانيا مصطفى.

العرب- موقع حزب الحداثة.


اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate