جدل الزمان والمكان للفضاء الديني.
تشكل قضيَّة التعايش بين أتباع الأديان هاجساً مقلقاً للمجتمع الإنساني بشكلٍ عام وللمجتمعات متعدِّدة الطوائف والمذاهب بشكلٍ خاصّ، نظراً لما تمثّله احتمالات الاحتكاك المفضي إلى الصراع من أخطار جسيمة تتطلَّب من الدولة والمجتمع تدراكها، وأن يبتدع القائمون على الأمر الوسائل الكفيلة بإدارتها، وفق أسسٍ وقواعد تُمَكِّن الجميع من التعايش في الفضاء العامّ بطريقةٍ عادلة ترتكز على معطيات القيم والأخلاق المرعيَّة في تلك الأديان. إذ يمكن عن طريق الإدارة المنظّمة للفضاء الديني وضع الأسس المناسبة للتعايش السلمي المشترك، وإرساء قواعد السلام الاجتماعي.
الاحتفال بالتنوُّع:
تمثِّل إدارة الفضاء الديني في عالمٍ أصبح شديد الاختلاف، ويتَّجه بتسارعٍ هائل نحو العولمة، التوازن المطلوب بين الاختلاف والاحتفال بالتنوُّع، وقبول الآخر، أو على الأقل التسامح معه، مع الحفاظ على الحدِّ الأدنى من التضامن. ويمكن القول إنَّ النقطة المركزيَّة في هذا التوازن بين التضامن والاختلاف بين الجماعات الدينيَّة والمذهبيَّة هي في منح دور للتعلُّم وللمعرفة في إطار من المنظومات الجامعة، لأنَّ التعلُّم والمعرفة يسهلان التفاهم المتبادل والاتِّصالات ويمكِّنان من إدارة التنوُّع في الفضاء العام. فالعديد من المفكِّرين في المجتمعات الغربيَّة لديهم الكثير من الافتراضات الليبراليَّة التي تقول إنَّ الذين هم أكثر ثقافة واطّلاعاً هم أكثر احتمالاً لأن يكونوا متسامحين ويميلون إلى قيم المساواة والحقوق والعدالة، وبأنَّ التعلُّم والمعرفة يلعبان دوراً كبيراً في الهندسة الاجتماعيَّة. ولكن، هل يصح هذا الزعم الافتراضي على كل المجتمعات الغربيَّة؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فهل يصح تعميمه على غير دين الأغلبيَّة، وخاصَّة الإسلام، إذ أن التمييز ضدّ المسلمين يشهد ازدياداً في كل الدول الليبراليَّة، مثل أوربا وأمريكا وحتى آسيا. كما تنامت التفرقة والعداء ضدّ المسلمين “الإسلاموفوبيا” في بقاع أخرى مختلفة من العالم.
إنَّ حرّيَّة إعلان وممارسة العقيدة والإيمان، واتّباع هذا المذهب أو ذاك، أو تغيير الديانة، أو خيار عدم الإيمان (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) و(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، الذي جعله الخالق حقًّا طبيعيًّا لجميع البشر، تُنتهك بشكل منظَّم، ويضاف إلى ذلك قضيَّة الغلو والتطرُّف، التي تتطلَّب معالجتها إدارة سليمة ومحكمة للفضاء الديني، مع تفعيل دور منابر الحوار وإشاعة روح الوسطيَّة، وتشجيع العلماء من كل الجماعات للاجتهاد الفكري فيما ينفع الإنسان، وإحكام التنسيق بين قيادات هذه الجماعات لإحداث حراك فكري، وضرورة تقريب الرؤى الفكريَّة لأهل العقل لبناء استراتيجيَّة مشتركة للأمن الفكري، وعدَّه من أهم القضايا الاجتماعيَّة التي تتعلَّق بأفكار الناس، في هذا الفضاء العام.
وهنا، قد يكون من الأوفق استدعاء التشريعات الناظمة لعلاقات المكان والزمان. إذ يمكن للقوانين المنظمة لإدارة الفضاء الديني أن تلعب دوراً مهمّاً في صياغة توازن التضامن واحترام الاختلاف في الحيِّز المكاني والزماني العام. وإذا ما تعلَّق الأمر بالهجرة والعمل والتنقُّل وحرّيَّة الحركة في داخل البلد الواحد، أو داخل المجتمعات المذهبيَّة، وتبدَّت المواقف المتضاربة حول المساواة والحقوق، أو إعادة توزيع الحصص المكانيَّة والزمانيَّة على أساس من الاعتراف بالمتغيّرات المستجدَّة، كان لزاماً أن يبقى القانون هو المهيمن على الحلّ لا فروض الأمر الواقع، كي لا يكون الاختلاف الديني مصدراً للمشاكل في المجتمعات الحديثة الناشئة.
يمكن للقوانين المنظمة لإدارة الفضاء الديني أن تلعب دوراً مهمّاً في صياغة توازن التضامن واحترام الاختلاف في الحيِّز المكاني والزماني العام.